824 مشاهدة
0
0
يا صديق ليس في المساجد ذات الرخام الثمين، ولكن في قلوب المصلين، أنه هنا وهناك وفي كل مكان، فأين أنت منه الآن؟ أنت يا من لا أنت هنا، ولا أنت هناك؟
يا صديق ..لا تبحث عنه في الكتب ولا في المعاجم ..
لا ترفع ببصرك إلى سبع سماوات ..
لا تتعب نفسك في أفكار عقيمة ..
إنه أقرب من ذلك كله.
إنه هناك
* * *
في الظلمة، عند حلكتها.
في العاصفة، عند ذروتها.
في الأزمة، عند شدتها.
ستجده هناك.
دوماً هناك.
* * *
في ضباب النفس، عند انكسار الروح، رغم كآبة القلب ..
يأتيك هناك، دوماً هناك.
* * *
إنه هناك قرب الأطفال.
عندما يمرحون. وعندما يمرضون. وعندما يقسرهم أهلوهم على النوم..
يكون هناك.
* * *
في دفء المهود. في عبق الورود. في الدمع الساخن النازل على الخدود. في أقصى الحدود.
.. في الصمت، في فحوى الكلام ..
ها هو، يخفف الآلام: في عنبر السرطان. في ملجأ الأيتام، وأيضاً في ساحة الإعدام..
يكون دوماً هناك.
* * *
في الحزن النبيل ..
حزن صغير يتيم. عندما يمر بقصيدة عن الأمهات والآباء. وجهه رابط الجأش-
لكن قلبه يجهش بالبكاء.
فيأتي إليه، ويكفكف دمعه من هو دوماً هناك.
* * *
في حزن صغير معوق، يمر الحسد في عينيه عندما يمر أمامه الأقران..
ويسأل بلوعة (لماذا؟)، فيضمه بحنان، ذاك الذي دوماً هناك.
* * *
.. وعند باعة البسطات، في انتظار للرزق طويل، يفاصلون، يساومون، يجادلون..
ولعلهم كذباً يحلفون. من أجل استفتاح لربما يتيم-ويتساءلون: هل سيكفي لحليب الصغير،
ودواء الأخير، وقلم ودفتر للكبير..
- وكما لو بمعجزة، يكون دوماً هناك.
* * *
.. عند عمال بلا ملامح، يخرجون للرزقِ قبل الفجرِ، ينتظرون ذاك الذي يأتي ولا يأتي..
يتشاكسون ويتناكفون، و بالهم مشغول بجياع في البيتِ، جوعهم مرتهن بذاك الذي يأتي ولا يأتي، وعندما يأتي سيختار من يشاء ويترك من يشاء في عمل يومي شاق-لكنه يشبع الجياع.
ويكون موجوداً هناك..
ذاك الذي دوماً هناك.
* * *
في الضوء للعميان. الدليل للحيران. واللقمة للجوعان.
ويكون هناك.
في النجاة من الغرق.
في الأجر بعد العرق.
في الطمأنينة بعد القلق.
في النوم بعد الأرق.
يكون دوماً هناك.
* * *
في قلب الأم المفجوع: أمامها أبنها، جسد حبيب، لكن بلا روح..
من يصبره، ويهدهده، ويسكنه، غير ذاك الذي دوماً هناك.
* * *
في شهيق المحتضرين، في صمتهم الأخير، في الوصايا التي لم ينطقون.
في دمع الفراق الحزين. في النشيج مفجوع الأنين.
في دمعة متكبرة، لم تنزل- رغم الحنين.
يكون دوماً هناك.
* * *
.. فلا تقل لي أنك لا تعرف أين هو..
* * *
..مع صباغي الأحذية الصغار: تمطر السماء، فتمطر القلوب: لن يمتد اليوم حذاء، وسيبيت الجميع جياع..
لكنه يفاجئهم، رغم المطر، ويكون هناك.
* * *
ليس في المساجد ذات الرخام الثمين، ولكن في قلوب المصلين ..في رجفة الخاشعين، في الرعشة تمر في قلوبهم منتشين..
في دعاء المضطرين، ونداء المحتاجين وتلبية الملبين..، يكون دوماً هناك.
* * *
في لوعة المغتربين، في شوقهم الغامض: تارة هائج وتارة دفين..
في إخلاص المحبين، وفي صدق الصادقين، وتصديق المصدقين..
يكون دوماً هناك.
* * *
في زنزانة مظلومٍ، في أنينٍ مكتومٍ..
في القلبِ، مكبوتٍ ومكلومٍ، يريد أن يتكلم ولا يجد أحداً، غير هذا
الذي دوماً هناك.
* * *
فكيف تقول… أين هو؟؟
* * *
في قوافل اللاجئين، تركوا بيوتا وذكريات وحنين، عندهم أمل: غداً نعود.
الطعام على المائدة. والملابس على الحبل. غداً نعود.
أنهم لا يدركون..
لكنه يكون دوماً هناك..
* * *
في ألم المبدعين، في معاناتهم، وفي عطائهم الغامض العظيم..
.. في الدهشة تغزو الإحداق. في العيون المفتوحة بأتساع..
في ألوان قوس قزح تسكن عيون الأطفال، وتظل تطمح للمزيد.
* * *
في الغيمة ، عند المطر
في الرجوع، بعد السفر
في الأمان، عند الخطر
في المتعة، قبل الضجر..
في اللوعة، عند السهر..
.. دوماً هناك.
* * *
فكيف تقول أنك لم تصادفه، ذاك الذي دوماً هناك؟
* * *
وفي جوعٍ عفيفٍ..
يموت بصمت، ولكن لا يمد يديه.
وفي فرحٍ نبيلٍ.. إذ لا عشاء في البيت، والأطفال يهددهم الجوع، ويدق الباب فجأة
من هو دوماً هناك.
* * *
يعطي الراحة للمتعبين. والنسيان للمفجوعين. والدواء للموجوعين..
يهدي الحيارى الضالين.. وينير السراج للقلب الحزين.
ذاك هو الذي دوماً هناك.
* * *
لا شيء مثله. إذا هو دوماً هناك.
.. ويظل يفاجئنا كل مرة، فإذا به هناك، هناك، وهناك.
- في كل مرة نتوقع أن لا نجده، لا يمل من إدهاشنا، ويكون هناك.
* * *
في المشرحة، بين جثث الغرباء: لم يسأل عنها أحد، لم يصل عليها أحد، لم يدفنها أحد- ولن يزورها- ان دفنت- أحد..
لكنه يكون هناك. دوماً هناك.
* * *
على بابه يقفون، بالطوابير، عمالاً ومساكين، يريدون الستر، وأحياناً أكثر بقليل، لم يخذلهم مرة- وكان دوماً هناك.
* * *
في حفرةٍ، دفنوا فيها جندي مجهول: لا نصب لا مراسيم لا احتفالات..
فقط حفرة. ضاعت ملامحه. ضاع أسمه. وضاعت هويته، بقي قلب أمه، يغدو ويروح بحثاً عن قبر لجندي مجهول..
لكنه دوماً هناك.
* * *
في اليم، في غيابت الجب. في الطوفان.
في الطاعون. في الإعصار. في المخاض الأليم.
في وفاء الأصدقاء. في وقفات لا تنسى- من أشخاص مجهولين..
في الأمل- لليائسين، في موت رحيم- للمتألمين..
في فرحة البريء يحكم البراءة. والسجين بإطلاق سراحه.
في الفدائي وموته النبيل، في أمه وصبرها الجميل..
في ضوءٍ منيرٍ، في حبٍ كبيرٍ، في سرٍ خطيرٍ، في الرمق الأخير.
يكون دوماً هناك.
* * *
في ألم النسوة العواقر، كلما مرت أمامهن حبلى، حبلت قلوبهن بالخواطر، شوقاً للملمس والرائحة والضحكة-وحتى للمخاض رغم المخاطر..
ويقف لهن هناك.
* * *
وفي ذكريات الطفولة. إذ نستذكر الأخوان والأصدقاء والخلان. ترتجف قلوبنا إذ نتساءل:لم يا ترى تغير ودار الزمان، وبدل الأصدقاء والخلان؟؟
نغص. ولكنه دوماً هناك.
* * *
عند الأمهات الثكالى، لم يزلن غير مصدقات- رغم حقيقة الكفن، عبر السنين، لا يغمض لهن جفن، وكلما طرق في الليل طارق يهمسن- أحياناً سراً وأحياناً في العلن.. لعله هو
ويكون هناك ليصبرهن، ذاك الذي دوماً هناك.
* * *
عند زوجة جندي مفقود، منذ عشرين عاماً (أو يزيد)، وعندها أمل يظل يقيد، عندها شوق في كل يوم هو جديد. وكلما جاء الأسرى، ذهبت تحمل عشرين عاماً من عمرها ..تسأل، لعل السؤال يفيد، وتظل تطلب المزيد.. من أجل أمل هو في كل يوم جديد..
إنها تتجاهل: أن فوجه- كله- قد أبيد. وأنه- يا حسرة عليه- لم يجد في هذه الأرض كلها قبراً يؤويه..
.. له، ولها، يكون دوماً هناك.
* * *
ليس كمثله شيء، هذا الذي دوماً هناك.
فهو ينتظرنا ويلاحقنا، وأينما ذهبنا يكون هناك.
يتحايل علينا لكي نقابله، ولكننا نأبى..
يدق الأبواب. فنتظاهر بالصمم، وعلى رؤوسنا نشد الغطاء.
ويظل روح ويجيء أمام بيوتنا. فنسدل الستائر، ونغلق الأبواب..
.. ويطلبنا. ويلح بطلبنا. ويظل يلح بطلبنا..
لكننا أمرُنا أمرُ. هو صاحبُ أمرِنا، ونحن ليسَ يهمنا الأمرُ!
نصد. نتغابى. نتمنع. نتجاهل، ولا حتى نفكر بالأمرِ..
.. وهو دوماً هناك. ونحن: لا هنا ولا هناك!.
* * *
.. ويظل ينتظرنا- هناك-
ويرسل بالرسائل. ويوسط الوسائط. بل ويأتي بنفسه ليقنعنا..
ويظل يجادل في السبب. ونحن معه، أمرُنا عجبُ..
* * *
ينتظرنا هناك- ذاك الذي دوماً هناك..
خمس مرات كل يوم- كل يوم، كل يوم!، يأتي إلى بابنا وينتظرنا أن نخرج إليه.. هناك..
وخمس مرات، كل يوم- بينما هو واقف على بابنا ينتظرنا- نخلف الموعد، نتجاهله،
نصد عنه، بل وربما ننتهره.
خمس مرات، كل يوم يغدو ويروح ويدق الباب: ونحن لا نجيب..
خمس مرات في اليوم- ربما العمر كله!.
صحيح أن أمرنا- معه- أمرُ!.
* * *
فلهذا لا تتعجب، إن لم تصادفه يوماً.
لقد جاء وأنتظرك، ولكنك لم تكن هناك.
خمس مرات، كل يوم، ظل ينتظرك. هل هناك أي عاشق متيم كان سيفعل مثله؟
هل هناك أي أم حنون كانت ستنتظر أبناً عاقاً مثلك؟
لا.لا العشق، ولا الأمومة كانا سيصمدان أمام صدود وعقوق كهذا..
على العكس منه: هو، الصمد، ظل دوماً هناك.
* * *
أقول لك: وفي هذا العالم المسكون بالخيبة والوجع، ماذا سواه- هو الذي دوماً هناك..
في هذا العالم المسكون بالآلام والفزع- ماذا سواه، نؤمن به ونتشبث به، ذاك الذي دوماً هناك..
في هذا العالم الملآن بالوحدة والخوف، أي خاطر مرعب- أن لا يكون- هو دوماً هناك..
لكن لا. لا داعي للقلق من هذه الناحية: إنه دوماً هناك. المقلق أن لا نكون نحن هناك.
* * *
.. وإذا كنت لم تجده هناك، فلن تجده في أي مكان. أقول لك أبحث عن نفسك أولاً، عندما تجدها، فستجده هناك.
* * *
أقول لك: لو أنصت الآن قليلاً. لو أرهفت السمع. لسمعته يدق الباب عليك، أهرع إليه- وأفتح الباب له- ستجده هناك.
..ولقد كان دوماً هناك. أنت لم تنصت. ولم تفتح الباب.
* * *
.. وعندما سينزلونك- وحدك- إلى تلك الحفرة ويهيلون عليك التراب، وبالظلمة والطين يلفونك- ثم يبكونك قليلاً ويذهبون- ستعتقد أنك وحدك ولكن ستلتفت، فإذا به هناك.
وسيظل دوماً هناك.
* * *
.. وعندما تقوم القيامة، لا مفاجأة طبعاً، سيكون هناك.
* * *
دوماً هناك. تلك هي الحقيقة الوحيدة- الأولى والأخيرة- كل الباقي مجرد تفاصيل.
تلك هي الحقيقة الوحيدة التي تسكن كل الأشياء في هذا الكون.
ولكننا- يا حسرة علينا – نتلهى بالتفاصيل- ونتغيب عنه عندما يريدنا هناك.
* * *
أنه هنا. وهناك. وفي كل مكان. فأين أنت منه الآن. أنت يا من لا أنت هنا، ولا أنت هناك؟
* * *
.. وأقول لك: فلماذا إذن لا تكون هناك؟
كن هناك!.
بغداد 4/2/2002
من "غريب في المجرة"
نشر في 01 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع