1449 مشاهدة
0
0
سورة المائدة تأخذك السورة لتجلسك على مائدة واحدة مع الطبيعة البشرية وجها لوجه، وتضع لك النقاط على الحروف بحيث يبدو كل شيء في أقصى حالات وضوحه
سورة المائدة هي سورة " الطبيعة البشرية" بلا رتوش ولا مجاملات. تأخذك السورة لتجلسك على مائدة واحدة مع الطبيعة البشرية وجها لوجه، وتضع لك النقاط على الحروف بحيث يبدو كل شيء في أقصى حالات وضوحه..تبدأ بالسورة بمطالبة المؤمنين بالالتزام بعقودهم..(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)...وكل ما يلي سيبين لك أن الحياة كلها يمكن أن تكون مجموعة من العقود التي ينبغي الالتزام بها..وأن الطبيعة البشرية تحتاج إلى أن يكون هناك " عقد" أولا ، ومن ثم تحتاج إلى أن تلتزم ببنود هذا العقد، دون وجود عقود ملزمة، تميل الطبيعة البشرية إلى أن تتمادى..إلى أن تتجاوز ..إلى أن تذهب إلى أسفل ما فيها وأكثر جوانبها ظلمة..
سيبدأ الأمر بوجود عقد / أو تشريع يخص الطعام...أحلت لكم بهيمة الأنعام..وسيكون هناك تعليمات أخرى تخص الطعام تمنع الميتة والدم ولحم الخنزير..وأخرى تحرم أوضاعا معينة لأنعام هي حلال بالأصل..
لكن لماذا هذا الأمر مهم جدا لدرجة أن السورة تبدأ به؟
ببساطة لأن الإنسان " مضطر" إلى طعامه كي يستمر بالحياة..لا شيء سيغير هذه الحقيقة..وعندما تترسخ عنده فكرة وجود عقد يحتوي على ممنوعات ومسموحات في طعامه، ويعتاد عليها وعلى الالتزام بها، فإن فكرة العقد نفسها ..والوفاء بالعقد ستتكرس أكثر وأكثر..سيكون هناك عقد يخص " شعائر الله" و"الشهر الحرام" والصيد في الحرم..حتى في الحرب هناك "عقد" يجب أن يوفى به..وسيكون هناك تعليمات محددة للوضوء - تشبه العقد الذي يجب أن يوفى به-..حتى مع ظلم البعض هناك التزام بعقد أن تعدل معهم..لا يجرمنكم شنئان قوم ألا تعدلوا...
هذه العقود / أو التشريعات و التي قد تبدو بسيطة هي نموذج مصغر للميثاق الأكبر..لعهد وعقد أكبر على الإنسان أن يوفي به ويلتزم به...
تأخذنا سورة المائدة إلى ميثاق بني إسرائيل الذي نقض بقسوة قلوبهم وتحريفهم لمقاصد كتابهم ( قسوة القلب وتحريف المعاني؟ هل يذكرنا هذا بشيء؟)
وتأخذنا أيضا إلى ميثاق النصارى الذي نقض بتفرقهم وبغلوهم في السيد المسيح..( هل يذكرنا هذا بشيء مجددا؟)..
ومرة أخرى: بتوهم كل من الطرفين أن محبة الله حصرية له فقط....( وهذا أيضا...هل يذكرنا بشيء؟ أليس هذا نمط قابل للتكرار ؟ )
تأخذنا سورة المائدة إلى تيه بني إسرائيل ..أربعين سنة يتيهون في الأرض نتيجة لنقضهم الميثاق...فتكاد ترى في هذا التيه وجوها كثيرة تعرفها..بل قد تفكر مع نفسك أنك ربما ولدت في التيه وكبرت في التيه ودرست في التيه وتخرجت من مدرسة التيه وتزوجت لتنجب أطفالا في التيه أيضا ...وكل ذلك دون أن تعرف أنك في التيه..بل ربما كنت تتوهم أنك على صراط مستقيم...أنك على الطريق الصواب...
إنها الطبيعة البشرية عندما تكون بلا ميثاق ولا عقد ..ولا بوصلة..ستتيه..ستكون مرصودة للتيه..
من أرض التيه ستأخذنا السورة إلى أصل القصة: إلى أول جريمة في تاريخ الطبيعة البشرية..عندما قتل قابيل هابيل..الدافع؟ الغيرة. الحسد. الطمع. نوازع موجودة في الطبيعة البشرية، وعندما ينزع اللجام عنها، يمكن أن تقترف أي شيء...حتى أن يقتل الأخ أخاه..
يمكن أن تذهب الطبيعة البشرية إلى هذا المدى من السوء ..تاريخ البشرية مصداق على ذلك. نشرات الأخبار مصداق على ذلك.
لذلك كان لا بد من أن تكون هناك حدود واضحة، عقوبات رادعة، لكل من يتخطى بنود العقد والميثاق..ستذكر الآيات عقوبات مشددة بحق من يفسدون في الأرض ويقطعون الطريق..وأخرى بحق من يرتكب جرائم السرقة..قد يعدها البعض قاسية..لكنها الطبيعة البشرية للأسف...إن لم تلجمها بردع وقوة..سيحدث معها التمادي بكل أشكاله...القصاص لا بد منه ليس لعقوبة " المجرم" فقط، ولكن لمنع مجرمين كامنين آخرين في الطبيعة البشرية من الظهور...
تلك الطبيعة البشرية عندما تكون بلا عقد ولا رادع، تكون هي " الجاهلية" بعينها.. تقول الآيات...أفحكم الجاهلية يبغون..ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون...الجاهلية هي أن تترك الطبيعة البشرية بلا تهذيب ولا تعليم ولا التزام برادع أو قانون...وستحتوي على تدرجات واسعة وتشمل أناسا يدعون أنهم ضد الجاهلية وأنهم يحاربونها وأنهم إنما يريدون حكم الله..لكنهم في الحقيقة التطبيق العملي لمعنى الجاهلية الأعمق..البعض منهم سيتنازل عن إنسانيته ويرتد إلى مستوى حيواني في السلوك ( القردة والخنازير) كما سيقول القرآن..والبعض منهم سيعبد ( الطاغوت) ..والبعض سيدعي بخل الله برحمته على العالمين...انعكاسا لبخلهم هم..
الطمع. أكل الحرام. العداوة والبغضاء..كلها ستكون صفات للطبيعة البشرية وهي تتخلى عن عقودها وعهودها وتتحايل عليها..وسيأتي في هذا السياق تحريم "الخمر والميسر والأنصاب والأزلام"...فالخمر تحديدا تخفف من سيطرة الإنسان على نفسه..وهذا يمكن له أن يبرز فيه أسوأ ما فيه..والميسر والأنصاب والأزلام " تحرك" دافع الطمع عند الإنسان..الربح المبني على محض " الحظ" لا على الجهد والعرق..وهذا أيضا قد يبرز فيه أسوأ ما فيه..
تنتهي السورة بالحواريين وهم يطلبون المزيد من السيد المسيح...إنها الطبيعة البشرية التي لا تكف عن الطلب..حتى عند المؤمنين..هذه المرة الطلب هو مائدة من السماء..وسيتحقق طلبهم كطلب أخير لا حجة بعده..
*****
نزلت مائدة السماء على حواريي السيد المسيح...أما المائدة التي أنزلت لنا فهي مائدة مواجهة مع النفس ومع الطبيعة البشرية..مائدة نواجه فيها تاريخ ما مضى وتجاربه المريرة..مائدة تقلب الطاولة على الكثير من الأوهام فيما يتعلق بالطبيعة البشرية؟؟
وجها لوجه مع أنفسنا، على تلك المائدة، نعم، نحتاج إلى قوانين رادعة، إلى تشريعات ملزمة..وإلا فإن هناك دوما قابيل يقتل هابيل..وأرض التيه محيطة بنا وفي انتظارنا..نحتاج أن نكون صادقين مع حقائق الطبيعة البشرية "المؤسفة" لكي نقر باحتياجاتها..نحتاج الصدق في مواجهة ذلك...
الصدق؟
تنتهي السورة بآية تقول لنا " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم"..
للخروج من التيه، ولكي نمنع قابيل آخر من أن يقتل هابيل مجددا..
#القرآن_360_درجة
#أحمد_خيري_العمري
نشر في 21 أيّار 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع