1037 مشاهدة
0
0
ليس كل سهل مهم ولا كل معقد متفذلك بالضرورة، هناك الجيد والسيء في الجانبين، والمحتوى كمحك أهم من أسلوب تقديمه
قرأت قبل أيام مقالا ناقدا ( أو ناسفا بالأحرى) لنتاج الدكتور علي الوردي.المقال الغاضب - أو التدوينة الغاضبة- فيها جهد واضح بلا شك، ولكن للأسف هذا الجهد وضع في موضع غير صائب برأيي.
أغلب المآخذ التي أوردها المقال على نتاج الدكتور علي الوردي صحيحة، لكنها مآخذ يمكن أن تقدم لو أن هذا النتاج كان يقيم كرسالة ماجستير أو دكتوراه أو كمقال بحثي في مجلة علمية محكمةـ وهو ما لم يفعله الدكتور الوردي ولم يقصده إلا في رسالة الماجستير الخاصة به ( دراسة في سوسيولوجيا الإسلام) ورسالته للدكتوراه عن ( النظرية الاجتماعية عند ابن خلدون) .. أما أن تتحول هذه المآخذ لتقييم عموم نتاج الرجل الفكري فهو أمر - برأيي- فيه ظلم كبير ومفارقة للموضوعية.
أهم المآخذ كانت عدم وجود ( إحصاءات) توثق وتؤيد ما كان الوردي يقوله، بل اعتمد الأمر غالبا على " ملاحظات" و"مشاهدات" شخصية أو روايات لأصدقاء...وهذا صحيح حتما، الوردي بدأ في دراسة المجتمع العراقي من الصفر، لم يكن من الممكن الاعتماد على إحصاءات لأنها ببساطة لم تكن موجودة، ولم يكن لدى الوردي مركز بحثي لكي يقوم بها، بل أن فكرة الإحصاء والاستبيان آنذاك كانت يمكن أن تقاوم اجتماعيا....لذا من الطبيعي بالنسبة له ( كرائد في مجال بكر) أن يعتمد على ملاحظاته " الشخصية" وأن يقوم بتحليل هذه الملاحظات وربطها وتفسيرها ضمن سياق اجتماعي أكبر...هل ستكون تحليلاته صائبة؟ ليس بالضرورة، هذه شهادته ...هل التحليل المبني على الإحصاء صائب دوما؟ لا، ليس بالضرورة أيضا...لكن بعد أن شق الوردي درب الريادة، يمكن -لاحقا- لباحثين أكاديمين أن يقوموا بإحصاءات مفصلةـ تؤيد أو تنقض أو تأتي بتحليل مختلف عما قاله الدكتور الوردي...
من المآخذ الآخرى وجود عدد كبير من التعميمات في كلام الوردي دون أن يكون قد زار كل مدن وأرياف العراق، وهو أمر صحيح، لكن الوردي كان يتحدث عن " عينة" مهمة عاش فيها وتفاعل معها وبنى ملاحظاته عليها ، وهي عينة " جذبت " - لأنها العاصمة والمركز نماذجا من مختلف أنحاء العراق...
من مآخذه أيضا قلة المصادر والمراجع التي يستشهد بها ( يعيب عليه أنه ذكر اسم توينبي مرة واحدة في كتاب لمحات اجتماعية) ولكن مرة أخرى عندما يكون الكتاب معتمدا على ملاحظات يجمعها ويحللها الكاتب فقلة المصادر هنا لا تشكل مشكلة كبيرة لدى القارئ العادي.
كذلك ركز المقال على أسلوب الوردي واصفا إياه بالصحفي مرة و " الأدبي" مرة و " كلام المقاهي" أخرى...والأسلوب الصحفي في الكتابة له قواعد معينة لا تنطبق على أسلوب الوردي على الإطلاق ، مثل تناول " قضايا الساعة" ونقل الأخبار المتعلقة بها، والاختصار بأقل عدد ممكن من الكلمات...
ولعل ما دفع كاتب المقال إلى توصيف أسلوب الوردي بالصحفي هو تقديمه لفكره بأسلوب واضح يمكن قراءته من قبل الأشخاص الذين يقرؤون الجرائد - أي عموم الناس- وهو أمر لا يجب أن يكون خاصا بالكتابة الصحفية بكل الأحوال..
بل أن كاتب المقال يمضي إلى أبعد من ذلك بالقول مخاطبا القارئ: "يمكنك أنت ايضا أن تكتب مثل علي الوردي وأن تكون مشهورا بنفس القدر الذي تكون لا علميا فيه" وهذا في رأيي مغالطة كبيرة يسقط فيها كل منتقدي " السهل الممتنع" ..يغريهم وضوحه ووصوله للناس بالتصور أنه سهل الصناعة، لكنهم لو حاولوه لوجدوه ممتنعا عليهم...أو كما قالت العرب في وصف السهل الممتنع " فتراه يطمعك ثم إذا حاولت مماثلته راغ عنك كما يروغ الثّعلب"..
ومقابل " السهل الممتنع" هناك اليوم ( وربما دوما ) الصعب الممتنع، وهو الكلام الذي يبدو ظاهره صعبا، ومحتواه ايضا صعب...ليس كل سهل ممتنع بالتأكيد، ولا كل صعب، هناك سهل هو محض تكرار لبديهيات بلا تمحيص ولا جديد، وهناك صعب يزيد الأمور تعقيدا بل غموضا و لا يضيف أي جديد، بل يضيع وقت القارئ وهو يحاول فك ألغازه..وهناك صعب لأنه يعبر عن فكرة معقدة تعكس تعقيدها في اللغة التي تعبر عنها بدون تعمد، وهناك صعب نسبي...لأنه موجه لقارئ متخصص يعرف مصطلحات معينة يجهلها القارئ العادي الذي سيبدو الأمر بالنسبة له مليئا بالأحاجي والألغاز..
المعيار الأول في تقييم الفرق بين هذا وذاك هو الفئة المستهدفة من البحث أو النتاج...ما يقدم كدراسة أكاديمية مختلف حتما عن كتاب موجه لجمهور واسع " متعلم، بالتعريف، ولكنه ليس متخصصا بالضرورة"..وهكذا فأن مآخذ كاتب المقال ستكون قاتلة لنتاج الوردي لو أنه قدمه كبحوث أكاديمية، لكنها تكون غير مهمة في تقييم كتب وجهت لرفع وعي قارئ متعلم ولكن غير متخصص..
كل ما قيل عن نتاج الوردي في المقال يمكن أن يقال ايضا عن كتب رائدة وخالدة تركت أثرا كبيرا على الفكر الإنساني ككل، غوستاف لوبون وسيكولوجيا الجماهير مثلا، لا إحصاءات - طبعا -ولا مصادر ( من أين تاتي والمجال جديد؟) لكن ملاحظات شخصية وقراءة للتاريخ ببصيرة واعية ورؤية مختلفة شاملة..الأمر نفسه مع بعض مؤلفات دوركايم وفرويد وكثيرين..بل أن أغلب كتابات " عصر التنوير" - التي تركت أثرا كبيرا على أوروبا والعالم ككل- كانت مكتوبة بلغة واضحة مفهومة يمكن أن تندرج ضمن " السهل الممتنع" ويمكن لمن يريد ان ينقدها أن يصفها بأنها مكتوبة بلغة صحافة..لكن الفكرة هنا هي، مجددا، في الفئة التي توجهت لها تلك الكتابات، عصر التنوير " حتّم" أن يكون الخطاب واضحا ولفئة واسعة من الجماهير...
*****
بالنسبة لي، أعتبر أن كتاب حنا بطاطو عن تاريخ العراق أدق وأكثر علمية مما كتبه علي الوردي وبعض ما قاله الوردي أجد فيه نوعا من التعميم الذي يتجاهل بعض الخصوصيات، واحيانا هناك لمحة تحيز، لكن هذا لا يقلل من مكانته على الإطلاق، ومن كان خاليا من تعميم أو تحيز فليرجم علي الوردي بحجر أو بمقال ناقد، حتى كتاب بطاطو، لا يخلو من تحيز مؤدلج ( على خلفيته الماركسية) ومن تأثر ببعض مصادر المعلومات، لكن هذا أمر طبيعي ومقبول ولا يخلو منه جهد بشري مهما كان علميا وموضوعيا..
مع تفضيلي" المتأخر" لبطاطو، أؤكد أيضا أن هذا لم يحدث إلا بعد أن كنت قد " هضمت" علي الوردي تماما وأصبح نتاجه من بديهيات طبيعة المجتمع العراقي، كبرت وحولي مؤلفات الوردي في بيتنا أو بيت جدي، وأذكر خالتي وهي تتحدث عن بعض ما كانت قرأته في " لمحات اجتماعية " - وكنت دون السادسة- وكذلك كان علي الوردي صديقا شخصيا لوالدي رحمه الله وممن يحضرون صالون أبي الثقافي الأدبي كل جمعة، أي أن الوردي كان دوما موجودا بطريقة ما، وكانت والدتي تفسر سلوكنا " كعراقيين" بناء على ما يقوله الوردي- أذكر مرة كنت أمر بضائقة مالية ودق الباب صديق يطلب بعض المال كدين، فلم أفكر كثيرا في الأمر وأعطيته بلا تردد، فصفعتني هي بتفسير لسلوكي من منظور علي الوردي..أي أن الوردي جعل والدتي ( وهي متعلمة وجامعية وقارئة لكنها ليست متخصصة) تستخدم علم الاجتماع في تفسير سلوكيات محيطة بها...هذا ما كان يمكن أن يفعله حنا بطاطو بسهولة، أو حتى بصعوبة، لأنه لم يتوجه أصلا لفئة واسعة أو عامة...شخصيا استفدت من بطاطو كثيرا ( حتى أني فهمت لماذا تزوج أبي من أمي! حسب تفسيره لتغييرات طبقية معينة بعد الاحتلال البريطاني، لكن هذا يحدث بين السطور وبناء على خلفية متشعبة من المعلومات)..أما نتاج علي الوردي فهو أكثر تأثيرا في وعي العراقي بذاته، بكثير..
*****
لا أرى أي سبب حقيقي للمناكفة بين التوجهات المختلفة في الكتابة..لكل فئته المستهدفة وهدفه المختلف، وليس كل سهل مهم ولا كل معقد متفذلك بالضرورة، هناك الجيد والسيء في الجانبين، والمحتوى كمحك أهم من أسلوب تقديمه...
في النهاية، المقارنة بين نوعي الكتابة هذين أصلا " غير علمية" ..لأنها مقارنة بين " صنفين" مختلفين...
متجر التحفيات الأثرية " الأنتيكات" مهم بالنسبة لجمهوره...وهو جمهور " ضيق" وإن كان يدفع أكثر...
لكن هذه الأهمية لا تلغي أبدا أهمية متاجر الأثاث الجاهز الكبرى لجمهور أكبر بكثير...ويدفع أقل...مثل أيكيا...
ملحوظة: وهاك ربما " متاجر" بين بين..ترضي جمهورا وسيطا بين الجمهورين...
نشر في 21 حزيران 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع