Facebook Pixel
4050 مشاهدة
4
0
Whatsapp
Facebook Share

تأملات في سورة الحج من أروع ما يكون، سورة الحج هي السورة التي حددت لنا أن سيدنا إبراهيم هو الذي سمانا مسلمين، ثمة فج عميق في داخل كل منا، دواءه الأول البيت العتيق

ما كان يمكن لسورة نزلت آياتها متفرقة في مكة، والمدينة، والحضر والسفر، والليل والنهار.. إلا أن تكون " سورة الحج".

الحج، الذي هو رحلة تبدأ من بيتك، أينما كنت، منذ أن تنوي الحج، وتنتهي إلى البيت العتيق..

وسورة تصف رحلة كهذه، ما كان يمكن إلا أن تتنزل على هذا النحو...حضرا وسفرا ليلا ونهارا، بين مكة والمدينة.

إنها رحلة، تأخذك السورة لها، حتى لو كنت لم تذهب للحج سابقا..أو حتى لو كنت قد ذهبت مرارا..

السورة تأخذك مجددا أو لأول مرة إلى عمق الحج..لكن دون حاجة إلى تأشيرة أو بطاقة سفر..

******

بينما تعد نفسك لهذه الرحلة، تذكرك السورة بأن حياتك كلها رحلة سفر، بمحطات متعددة..

"خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ"

العمر كله رحلة في النهاية،

كما هو الحج رحلة...

*******

سورة الحج هي السورة الوحيدة في القرآن التي تسمي الكعبة بالبيت العتيق..

لم يذكر هذا عن الكعبة أو البيت الحرام إلا هنا في هذه السورة، ومرتين..

البيت العتيق إذن،...

وأنت ترحل له؟

لعلك ترحل لبيتك، بيتك الأصلي،..لعلك عشت طيلة حياتك في بيت ليس بيتك ولو كنت تملك سند ملكيته...

لعلك قضيت حياتك مغتربا، مشتاقا لبيت لا تعرفه...

وها أنت تكتشفه ...بيتك الأول هذا الذي لم تزره من قبل...

ربما لهذا يسمى " البيت العتيق"..

******

في سورة الأنبياء، السورة السابقة لسورة الحج، رأينا سيدنا إبراهيم في بداية الطريق..

مشهد الهدم...بعد أن هدم أوثان قومه..

هنا، في سورة الحج...نراه بعد أن أكمل بناء البيت، وها هو يوجه نداءه إلى الكل...أن تعالوا إلى البيت...

"وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ... وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ"

نحن في مرحلة ما بعد البناء...وهذا النداء بالحج، الموجه لكل الناس، يعكس تجاوز الرسالة مرحلة " محليتها"..كونها محصورة في الناس حول إبراهيم وبنيه..إلى ما هو أبعد وأوسع من ذلك..يمكننا أن نقول أنها مرحلة " عالمية"..على الأقل بالنسبة للعالم القديم...

مرحلة اكتمال البناء هذه، على يد سيدنا إبراهيم، يمكن أن تفسر شيئا آخر ورد في السورة...

*****

سورة الحج احتوت على الآية التي أذن فيها الله للمسلمين بالقتال ..

"أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ .. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ...."

للوهلة الأولى..مالعلاقة بين الحج والإذن بالقتال؟

العلاقة هي في المرحلة..

الحج الأول، الذي نادى فيه ابراهيم كان بعد اكتمال البناء..

وهذا الإذن بالقتال حدث بعد أن اصبح للمسلمين تجربتهم الوليدة التي يجب حمايتها والقتال دفاعا عنها..

صار عندهم في هذه المرحلة، ما بعد الهجرة تحديدا، بناء يستحق الدفاع عنه لحمايته..

ويستحق أيضا أن يكبر..أن يتوسع..

القتال أمر ليس باللطيف، وهو "كره لكم" كما قيل في سورة سابقة..

لكن هناك أشياء كثيرة في الحياة ليست لطيفة بالمطلق...

وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا

أنه الدفع الضروري للبناء..

لولا هذا الدفع لهدمت صوامع وبيع ومساجد....

ومعه، يمكن حمايتها...,ويمكن حماية أي تجربة " بناء"...

********

وتأتي الإشارة بعدها مباشرة إلى مرحلة ما بعد البناء، التمكين...

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ

لقد بنوا، ودافعوا عن البناء...ومن ثم انتصروا في الدفاع ..والدفع...

فكان أن جاء التمكين الذي لم يستغلوه للإفساد...بل ساعدوا الناس وأصلحوا بينهم....

******

في كل القرآن الكريم لم يأت الفعل ( يعظم) غير مرتين إثنيتن...

في سورة الحج تحديدا...

والفعل "يعظم " واضح المعنى..يكبر...يفخم...

وقد جاء في استخدامين...تعظيم الحرمات...

"ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ"

وتعظيم الشعائر..

"ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ"

والاستخدامان متضادان متقاربان..

ويمكن التعبير عنها بأخذ الأمر بجدية بالغة...لا مزاح ولا تهاون...لا في الحرمات التي لا يجب على الحاج أن يلتزم بعدم تخطيها..ولا في الشعائر التي يجب أن تؤدى بجدية بالغة...

وكل من اعتمر أو حج، يعرف أن طول مدة أداء المناسك يجعل البعض " يتصرف كما لو أن الأمر عادي"...يضحك..يتحدث في أي شيء..عادي..

تقنيا...أداء المناسك هنا صحيح...لا يوجد ما يدل على غير ذلك..

لكن التعظيم لها...أخذها بجدية بالغة بحيث تنعزل عن صغار الأمور، هو أتقى بالتأكيد...

****

ولا يمكن أن نتجاهل أن الفعل " يعظم" هنا، قد يرتبط بالآية الأولى من السورة...

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ..

كما أن هذه الآية الأولى أيضا، تذكرنا بفعل آخر تكرر في السورة...

اتقوا...تذكرنا بالتقوى...التي يبدو أنها مرتبطة بالحج على نحو قوي..

ففي سورة البقرة، في آيات الحج منها...ذكرت التقوى بصفتها خير الزاد...

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى

وهنا في سورة الحج...التقوى مجددا...

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ

التقوى إذن...تقوى القلوب تحدد واحدة من الآيات...

كم تبدو فريضة الحج من خارجها " عبادة جوارح"...

وكم هي في عمقها " عبادة قلوب"...

أمر لا يمكن أن يحدده، إلا المطلع على ما في القلوب..

كل شيء عدا ذلك...محض مظاهر...

******

وسورة الحج هي السورة التي حددت لنا أن سيدنا إبراهيم هو الذي سمانا مسلمين..

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ

يشبه ألأمر - بلا تشبيه - أن يقال لك، أن جدك فلان، الذي لم تره ولكن سمعت عنه كثيرا، قد اختار لك اسمك عندما ولدت..

يربطك ذلك عاطفيا به على نحو مختلف..يصنع بينكما رابطة أعمق من رابطة الدم التي تربطك به...

إبراهيم سمانا مسلمين...

اختار لنا هذا الاسم..

شيء يزيدنا ارتباطا به..وانتماءا لرسالته...

*****

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ..

ثمة فج عميق في داخل كل منا...

فج عميق في مجاهل تضاريسنا...بين مرتفعاتنا الوعرة..

ثمة شيء فينا يريد أن يخرج من هذا الفج العميق...

لكي يلبي النداء..

لكي نذهب أخيرا، إلى بيتنا الأول...

البيت العتيق..

كلنا لاجئون،مشردون بطريقة ما...

وحده البيت العتيق، هو البيت حقا....

#القرآن_360_درجة

#أحمد_خيري_العمري

د.أحمد خيري العمري
نشر في 02 حزيران 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع