2508 مشاهدة
7
0
تأملات من أروع ما يكون في سورة السجدة، حيث تغطي الألفة والرتابة على مشاعرنا حتى تفقد حرارتها الأولى، فما الذي يعيد للأشياء رونقها؟
يحدث كثيرا أن تغطي الألفة والرتابة على مشاعرنا حتى تفقد حرارتها الأولى، ويضحى الأمر مجرد تعود رتيب لا أثر للهيب أو شغف فيه.يحدث هذا كثيرا في العلاقات الإنسانية ..وأيضا في علاقاتنا مع الأماكن والأشياء..وربما حتى مع المهنة التي شغفنا بها يوما...أو الهواية التي كانت تشغل وقتنا في مرحلة ما..
يدخل الملل، الرتابة..والتثاؤب..
يحدث هذا كثيرا..
ويحدث أحيانا - وأحيانا كثيرة جدا- في علاقتنا مع الإيمان بالله عز وجل، تعالى سبحانه عن كل تشبيه..
****
القارئ الذي كان يبكينا قبل سنوات، صرنا نمر على صوته مرور الكرام..
الداعية الذي كانت كلماته تهزنا قبل عقد من الزمان، صار لا يحرك فينا أي شيء...الآيات التي كانت تجعل أنفاسنا تضطرب، لم تعد كذلك..
يحدث هذا كثيرا، وكثيرا جدا.
وقد نجد الكثير من الأسباب التي تفسر هذا..أسباب تمزج بين السياسة وعلم الاجتماع ..فشل تيار الإسلام السياسي وكوارثه..الفظاعات التي ارتكبت باسم الدين..التصرفات الشخصية لهذا الرمز أو ذاك..
وكل هذا صحيح، ومؤثر ولا بد.
ولكن هذا الفتور كان سيحدث حتى لو لم يتغير العالم من حولنا، وحتى لو يتورط فلان أو فلان فيما تورطا به..الفتور هو جزء من طبيعة الأشياء..
من الطبيعي جدا أن يحدث، على الأقل مع أغلب الناس....
أن يتحول الإيمان، بالتدريج، ومع مرور الوقت، إلى مجرد " تصديق"..
*****
سورة السجدة تسلط الضوء على جزء من الفرق بين الإيمان، وبين التصديق...
تجعلنا نراجع ما نعتقد أنه " إيماننا"..
تضعنا أمام مشهد لهذا الإيمان- الحقيقي...ثم تضعنا أمام إيماننا نحن..
هل هذا يشبه ذاك؟
*****
لكي تصل بنا السورة إلى هذا المشهد، تمر بنا أولا بالجهة المعاكسة ...
تأخذنا إلى المكذبين، بينما هم يكذبون بأهم وأدق شيئين في الإيمان..
الكتاب...
والقيامة..
هذان هما الشيئان الذين يقف عندهما الكثير من الرافضين للإيمان..ويتخذوهما سببا في الابتعاد عنه إلى الجهة المعاكسة..
الكتاب..أو الوحي ، ويوم القيامة ..البعث..
اغلب " غير المؤمنين" يمكن لهم أن يقروا بوجود الله، وبقدرته على خلق كل ما في الكون..
لكنهم يقفون عند هذا دون خطوة إضافية...
أن يتحدث هذا الإله العظيم الخالق مع أحد من البشر وسيلة ما، أو أن يعيد إحياء كل من مات على الأرض؟ هذا يبدو بالنسبة لهم غير ممكن.
الخلق موجود ومشاهد، لذا فالإيمان بوجود " خالق ما " أمر غير صعب.
لكن الوحي؟ والحساب؟ هاتان هما القضيتان اللتان يقف عندها البعض، ويفلون راجعين...
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
مالعمل ؟
لا شيء مباشر... هؤلاء سيعرفون لاحقا...
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
لكن لماذا ؟ لماذا لاحقا ؟
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
هذا هو الامتحان. يمكن بسهولة أن يجعل الله الكل مؤمنين..لكن أين الاختبار في الأمر لو كان هكذا؟
من هو المؤمن حقا في كل هذا؟ هل هو الذي صدق بـ الوحي وبيوم القيامة..
لا.. بل هو في مرحلة ما بعد التصديق...الإيمان..
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
هذا هو مشهد الإيمان " الأعلى"..أو على الأقل هذا المشهد يعبر عن جزء كبير من هذا الإيمان..
أن يخر المرء ساجدا، أي أن يخضع دون وعي مسبق منه أو إرادة، إيمانه يتصرف عنه، دون أن يستكبر، دون أن تمنعه عن ذلك أي " أنا" متسلطة ترى في خضوعه، أو في خضوع عقله، إهانة لها..
" تتجافى"...
هذا اللفظ الذي عبر به القرآن عن علاقة هؤلاء مع " أسرتهم" هو لفظ ساحر ، لم يرد سوى مرة واحدة في القرآن في هذا الموضع..وهو يعبر عن علاقة " تباعد" بين الشخص وسريره، لكنه تباعد متقطع، يترك الشخص سريره- على حاجته الطبيعية له- لشوقه إلى موعد آخر...يدعو فيه ربه " خوفا وطمعا".
هذا المشهد يعبر عن " الذين آمنوا"..
فهل هو يعبر عنا ؟
********
كيف السبيل للوصول إلى هذا؟ الخروج من التصديق إلى الإيمان؟
عموم السورة مغمورة باليقين.
واليقين هو مرحلة عليا من الإيمان..درجة من درجاته..
لكن عندما تضع " اليقين" هدفا لك..فأنك قد تصل إلى ما دونه..إلى الإيمان..
كيف السورة مغمورة بهذا؟
تنزل الكتاب " لا ريب" فيه.
فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا "مُوقِنُونَ"
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ "فِي مِرْيَةٍ "مِنْ لِقَائِهِ
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا "يُوقِنُونَ"
كلها إشارات إلى يقين لا لبس فيه، وجوده هو المنجى، وغيابه إشارة هلاك...
وهو "محرك" إيمان المؤمن..الذي " تتجافي جنبه عن مضجعه"..
*****
كيف السبيل إلى هذا اليقين..
ليس سهلا ولا وصفة تسهل الوصول له..
لكن أي صاحب يقين عليه أن يحدد أمرين لكي تكون هدفا ليقينه...الوحي، والبعث..
هذان الأمران يجب ان يكونا حاضرين في ذهنه، مستحضرا مشاهدهما في ذاكرته المستمدة من القرآن..
لو تحقق جزء من اليقين فيهما تحديدا..فالباقي تفاصيل..
******
تشير لنا السورة أيضا بطريقة في ذلك، قد تجعلنا " نرجع" إلى الله...
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
استثمر مشاكلك الدنيوية استثمارا أمثل في جعلك تتقرب إلى الله، وربما يقودك هذا إلى ما بعد وما بعد..مصلحة؟ بالتأكيد مصلحة. لا تنس أنك عبد. اخلع أناك كما خلع موسى نعليه. نعم..أناك مثل نعليه..
نعم هي مصلحة، وهو يقولها لك صراحة..لعلك ترجع..
********
ثمة حوار أخير ينهي السورة...يعبر أيضا عن اليقين...
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
فأعرض عنهم..وانتظر..
بالضبط كما ننتظر الآن آذان المغرب ونحن نعرف أنه سيأتي..
كذلك انتظر يوم الفتح..يوم البعث..يوم يتأكدون من أنهم كانوا في الجهة الخطأ..
#القرآن_360_درجة
#أحمد_خيري_العمري
نشر في 11 حزيران 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع