تأملات في سورة المؤمنون من أروع ما يكون، سورة المؤمنون تقابلنا لتحدثنا عن الشخص الذي ما كان يمكن للبناء أن ينتهي من دونه...الشخص العادي
الكل يتحدث عن أهمية أن تكون مبدعا، متميزا، شغوفا بمجال ما..الكل يتحدث عن مارد ما وعملاق ما، في داخلك...
وهذا يحدث أثرا عند البعض فعلا.....على أن من يبدع ويتميز حقا، يكونون قلة...طبيعة الأشياء..
لكننا في غمرة الحديث عن " المبدع" و " الخارق" نكاد ننسى الحديث عن أهمية " الشخص العادي"...الشخص الذي أهميته في أنه " شخص عادي"...الكلمة ليست مسبة ولا انتقاصا منه، وكل " المتميزين" ما كان يمكن لتميزهم أن يكون منتجا ومؤثرا لولا " الشخص العادي"..
الشخص العادي، هدف كل الرسالات وكل الفلسفات وكل الشعارات...
سورة المؤمنون تقابلنا بعد سورة الحج- السورة التي تحدثت عن " انتهاء البناء"- لتحدثنا عن الشخص الذي ما كان يمكن للبناء أن ينتهي من دونه...الشخص العادي...
تأخذنا السورة في بدايتها إلى صفات المؤمنين الذين سيحققون " الفلاح" ..الفوز...الذين سيرثون الفردوس...
قد نتوقع من قائمة الصفات أن تكون صعبة، خارقة الصعوبة، قد نتوقع على سبيل المثال ما نسمعه عن أعمال بعض السلف في العبادات .. الصلاة ألف ركعة في اليوم والليلة أو قيام الليل كله طيلة أيام السنة أو قراءة القرآن في ركعة واحدة...
لكن لا شيء من كل هذا...
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10
خشوع في الصلاة ومحافظة عليها ، إعراض عن اللغو والتفاهات، زكاة، عفة، أمانة للعهد ورعاية له.
لن أدعي أنها سهلة أبدا...ولن أدعي
ولكنها صفات ممكنة التحقيق...ليست خارقة ولا مستحيلة...يمكن أن تعد في حياتك عدة اشخاص عرفتهم وأنت " تظن" بينك وبين نفسك أنهم قد حققوا هذه الصفات أو أغلبها...أو هذا ما بدا لك منهم ( إلا الخشوع في الصلاة الذي لا يمكن أن يقاس أو يعرف والذي لا بد من الاعتراف أنه قد يكون أصعب ما في القائمة..)..
هي صفات يمكن إنجازها..ليست صفات " الواحد في المليون" بالتأكيد..ولا نسبة محتملة عندي لمن يمكن أن يحققها...لكن يمكن لجارك أو عمك أو رفيق لك أن يكون قد حققها، دون أن يبدو عليه " ذلك التميز" أو الإبداع..ودون أن يكون له منجزات كبيرة تتحدث عنها وسائل الإعلام..
إنها صفات يمكن للشخص العادي أن يحققها ويحوزها...
لو أننا نظرنا إلى هذه الصفات من منظور معاصر لراينا في هذا الشخص شخصا ملتزما بالقوانين والتعليمات، سواء تلك التي تنظم علاقته بربه ( الصلاة، الخشوع فيها والمحافظة عليها..أو العبادات عموما) أو التي تنظم علاقته بالمجتمع ( الزكاة، العفة، أمانة العهد)..
هو شخص عادي، ملتزم بالقانون ( بالمعنى الواسع للكلمة، علما أن أمانة العهد تشمل القانون فعلا)...
ليس هذا فقط...
بل أن سورة المؤمنون تأخذنا إلى قصص الأنبياء، وتبين لنا أن الكفار كانوا يرون أن الأنبياء كانوا أشخاصا عاديين...وكان هذا سببا لرفض دعوتهم..
كل الأنبياء الذين سترد قصتهم في هذه السورة ستشير إلى ذلك..
مع نوح .."فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً "
مع صالح ..."مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ"
مع موسى وهارون "..فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ"
كل هؤلاء بدو أشخاصا عاديين...
وبمتابعة خواتم ما حدث في هذه القصص...نصل إلى نتيجة مهمة ..لا تقلل أبدا من قيمة " الشخص العادي"..
*****
ماذا عن الأشخاص الآخرين...الذين لم يحققوا الفوز والفلاح..وانتهوا إلى جهنم..
هم أيضا في الغالب كانوا أشخاصا عاديين..فالشخص العادي يمكن أن يأخذ أي من الطريقين..
المؤمنون اختاروا طريق الانضباط بالتعليمات..الآخرون...للأسف لم يفعلوا..سيقولون هم لاحقا مفسرين ما حدث.. "قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ"..
لقد انشقوا عن الانضباط والالتزام...فضلوا الطريق...
*******
"وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا "
وردت هذه الآية أو ما يشابهها في المبنى والمعنى خمس مرات في القرآن الكريم..
هنا، في سورة المؤمنون، كما لو أنها ذكرت هنا بالضبط لتؤكد فكرة أن هذه الصفات ممكنة التحقيق لأي شخص..دون مواصفات خارقة...
******
"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ .ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ .ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ "
هذه هي مراحل نشوء الإنسان العادي..أي كلنا..
وعندما يولد طفلا، سيكون جميلا، فقط لأنه إنسان...رغم أنه عادي..
الكل جميل ما دام خلق الله...
العادي أيضا جميل، وأيضا مهم، ولولا العادي لما تميز أحد ولا نجح مشروع ولا تحققت رسالة...
فتبارك الله أحسن الخالقين..
#القرآن_360_درجة
#أحمد_خيري_العمري