4734 مشاهدة
6
0
تأملات في سورة القصص من أروع ما يكون، بعض القصص لا تنتهي أبداً، حتى بعد أن تنتهي، سورة القصص تأخذنا إلى القصص وتجمعها في قصة واحدة
بعض القصص لا تنتهي أبدا، حتى بعد أن تنتهي..تستمر، تتناسل، تتكاثر، تجد طريقة ما لكي توجد لها صيغ جديدة مختلفة...
وبعض القصص تنتهي فقط لتبدأ قصة جديدة في داخلك، تدخل فيك القصة وتحدث أثرا يبقى معك، ومن هذا الأثر تبدأ قصة جديدة..قصتك لا تبقى كما هي بعد أن دخلت فيها قصة أخرى...كل شيء يتغير..
كل القصص في النهاية متشابهة بعد أن تجردها من التفاصيل والأسماء والأماكن والتواريخ....
حتى قصتك التي تعتقد أن أحدا لم يمر بها من قبل...
*****
سورة القصص تأخذنا إلى القصص، وتجمعها في قصة واحدة.
هذا بالضبط ما تفعله.
قصة سيدنا موسى كانت متفرقة على أكثر من عشر سور، رأينا أجزاء منها في البقرة، الأعراف، طه، في النمل...وسور أخرى...
هنا نراها وقد تجمعت...على الاقل هذا " أشمل " ما سنراه من قصته عليه السلام...
سورة القصص تأخذنا من اليم إلى اليم...من إلقاء أم موسى لطفلها في اليم..إلى لحظة غرق فرعون وجنده في اليم...كل ما حدث بينهما من أحداث عرفناه في سورة أخرى سابقة متفرقة...لكن هنا تجميع كل ما حدث...( ما عدا جزء السحرة لا يشار له في السورة هنا)...
مالفرق بين أن تقرأ قصة موسى متفرقة ( كما في أغلب السور) وبين أن تقرأها متسلسلة من ولادته إلى نجاته وقومه من فرعون؟
مع القصص المتفرقة، أنت تطلع على " موقف" أو " جزء من القصة" وتربطه السورة لك بمواقف أخرى من قصص أنبياء آخرين...سواء بالمشابهة أو الاختلاف..أي أنك تقرأ القصة من خلال منظور يتجاوز " سياق القصة المباشر" إلى سياقات عامة تربطها بقصص أخرى..ربما بقسم إبليس في الإخراج من الجنة..أو بعذاب قوم نوح...أو بتكذيب الكفار...
مع القصص وهي متفرقة، أنت ترى من منظور أعلى بكثير، الطائر يحلق أعلى ويطل على منظر أكبر، ثم تؤشر لك السورة على نقاط هنا وهناك بحيث تربط بينها..
مع القصة وهي متسلسلة، إطلالة الطائر تأتي من ارتفاع أقل من السابق، ولكن بتركيز أكبر على مساحة واحدة..كما لو أنك كنت ترى في القصص المفرقة خارطة العالم أجمع..ثم صرت في القصة المتسلسلة ترى خارطة لبلد واحد...أو قارة واحدة...
الأغلب في قصص القرآن هو الأول، أن تكون القصص متفرقة بحيث تراها وهي مترابطة مع قصص أخرى...
ولكن هذا لا يمنع من وجود القصص متجمعة..كما في سورة يوسف حيث عرضت قصة يوسف كاملة...وكما في سورة القصص..حيث عرضت قصة موسى إلى خروجه وقومه من مصر...
القصة وهي متسلسلة تروي علاقة أجزاء القصة ببعضها...التطور الطبيعي للأحداث في سياقها..وهو أمر مهم حتما..لكن لأنه الطبيعي والمعتاد في القصص، فالقرآن لا يقدمه كثيرا..
لكن عندما يقدمه، فهو يقدمه لسبب..
مع سورة يوسف كان الأمر لإيصال فكرة ان النجاح ممكن في أماكن أخرى...ليس بالضرورة أن تنجح في بلدك الأم..يمكن أن تحقق أعلى نجاح في مكان مختلف...ولكن ذلك ما كان يمكن أن يصل بوضوح إلا بربط كل الأحداث وما تعرض له يوسف من البئر إلى القصر مرورا بالسجن...
مع سورة القصص الأمر مختلف..
******
علينا هنا أن نذكر أن سيدنا موسى هو النبي الأكثر ذكرا في القرآن الكريم، فقد ذكر 136 مرة...وهذا يعني أن قصته هي الأكثر حضورا في القرآن الكريم..
لماذا؟ أسباب كثيرة...لعل أهمها هو أنه واجه عدة جبهات في دعوته إلى الله..واجه فرعون ومؤسسة الاستبداد..وواجه الطبيعة البشرية في قومه وعنصريتهم ومشاكل كثيرة لا أول لها ولا آخر..وواجه أيضا نفسه..كان يعاني من عدم سيطرته على غضبه ( وهو أمر أدى إلى ارتكابه قتل خطأ قبل الوحي)..
وكان موسى أيضا زعيما قائدا، خرج بقومه من مصر بعد أن كانوا يتعرضون للاضطهاد من قبل فرعون وقومه..
موسى إذن كان مدرسة كبيرة جدا لكل من يريد أن يتعلم، لا يوجد مواجهة لنبي لم يخضها موسى ويذهب إلى طرفها الأقصى...
وكان هذا بالتأكيد أمر يعني الكثير له عليه الصلاة والسلام..
كل هذه المواجهات، كان يخوضها هو أيضا...بطريقة أو بأخرى..
*****
منذ الليلة الأولى لأول وحي نزل عليه الصلاة والسلام، وهناك من ربط بينه وبين موسى عليه السلام...قال له ورقة بن نوفل وهو يشرح له مالذي حدث له عندما جاءه الوحي..
هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى
كان ورقة ذكيا في التشبيه...لن يكون عليه الصلاة والسلام مثل يونس أو لوط أو صالح...بل سيكون مثل موسى...نبي وصاحب رسالة وتشريع وقائد أيضا...
ولعله ومنذ تلك الليلة، أخذ عليه الصلاة والسلام، يقرأ قصص موسى عليه السلام بينما هي تتنزل عليه بعين المترقب لما سيحدث معه....
ليس في قصة موسى فقط بالتأكيد..
لكن النبي الأكثر ذكرا في القرآن كان لا بد أن يكون له أثر فيه عليه الصلاة والسلام...
*****
في قصة موسى كما جمعت في سورة القصص جانب وتفصيل مهم لم يرد في أي مكان آخر...جانب إنساني مهم، قد لا يبدو مهما في الدعوة بشكل مباشر، لكن كان له أثر كبير في تأهيله لها..
أتحدث هنا عن واقعة مساعدته للفتاتين ومن ثم زواجه من واحدة منهما بعد أن اقترحت على أبيها أن يستأجره لأنه " القوي الأمين"..
تلك السنوات التي قضاها سيدنا موسى في مدين وهو يعمل كأجير، أهلته ليتنزل عليه الوحي ويحمل الرسالة إلى فرعون وقومه...قبلها كان موسى ربيب القصور، قوي وأمين نعم، لكنه كان مترفا، سريع الغضب...سنوات العمل كأجير جعلته يصبح شخصا مسؤولا مهيئا لما سيأتي من مهام...لا يمكن لقائد إلا أن يمر بذلك لكي يكون قائدا فعلا..
وهذا الجزء - على أهميته - ما كان يمكن ان يفهم إلا في سياق القصة كاملة...خروجه من مصر وهو خائف من العقوبة، ومن ثم ذهابه إلى مدين وعمله فيها عشر سنوات، ومن ثم نزول الوحي عليه..
قال له شعيب فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ...
وكان ذلك هو ما حدث فعلا..نجا من ظلمهم..ونجا من أن تبقى شخصيته مظلومة في أسر القصور والترف..
"نجوت من القوم الظالمين" هي عنوان سورة القصص..لقد نجا منهم كذا مرة...مرة في اليم في البداية المبكرة، ومرة عندما خرج إلى مدين..ومرة أخيرة عندما خرج بقومه، عبر اليم، بينما غرق فرعون...
قصة داخل قصة داخل قصة، وكلها هذه المرة قصة واحدة...تشير إلى النجاة من القوم الظالمين...نهاية مرحلة، وبداية مرحلة جديدة...
موسى ينتهي من مواجهة فرعون، ويخرج بقومه ..وهناك سيبدأ بمواجهتهم هم...المواجهة التي ستبت أنها أصعب...
هل كان ثمة ما يدور في مكة في تلك المرحلة مما يمكن أن يشابه كل هذا...هل كانت مرحلة جديدة على وشك البدء؟
نعم..سورة القصص نزلت قبل سورة الإسراء..
والإسراء كانت بداية مرحلة جديدة...
القصص إذن كانت تؤذن بنهاية مرحلة..
*****
"إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"
نعم..قصته مع عمه تنتهي هنا أيضا...
أبو طالب يموت دون أن يقول كلمة الإيمان...قلب محمد يتفطر بينما هو يطلب منه أن يقول لو كلمة على فراش الموت...لكن كفار قريش على الطرف الآخر: أتترك دين عبد المطلب...
ولا يقولها..يموت دون أن يقولها..
القصة تنتهي...كما تنتهي كل القصص...إنك لا تهدي من أحببت....مهما أحببت..لا شيء يمكن أن يغير ذلك..
ذهب العم السند الذي وقف معه منذ طفولته...
كل القصص تنتهي، للأسف...
*****
لكن هذا لم يكن كل شيء...
فبعد شهر تقريبا...تتوفى خديجة رضي الله عنها..
يفقد المرأة السند التي وقفت معه منذ البداية...نعم أنها نهاية مرحلة بالفعل...عمه وزوجته يرحلان..
لكن الفراق كان مختلفا هنا...سيكون ثمة لقاء مؤكد مع خديجة...
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ
لقاء في الجنة بلا شك ولا ريب..
وتنتهي السورة بمواساة لمن فقد سندين في شهر واحد..تخفف وطاة قانون الحياة القاسي...
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
كل شيء هالك إلا وجهه....
كل القصص تنتهي..الكل يرحلون..ولا يبقى إلا هو ...عز وجل..
******
قال عليه الصلاة والسلام..
"أتاني جبريل، فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت، فإنك مفارقه"
هل جاءه تلك الليلة..يوم توفت خديجة رضي الله عنها..
ودرس الحياة هذا..( أحبب من شئت فإنك مفارقه)..هل جاءه ليلة الفراق الصعبة تلك؟
ربما....
****
كل القصص تنتهي؟
ربما بعضها لا ينتهي أبدا..
بعض القصص تعيش فينا...حتى بعد أن يرحل كل أبطالها...
#القرآن_360_درجة
#أحمد_خيري_العمري
نشر في 07 حزيران 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع