5112 مشاهدة
9
1
تأملات في سورة الروم من أروع ما يكون، سورة الروم تذكر بدورة حياة الدول والمجتمعات..وتشبهها بدورة حياة الإنسان من نمو وقوة وضعف وانهيار
بعض الأحداث التي تبدو بعيدة نسبيا عنا في البداية، تؤثر لاحقا على حياتنا الخاصة وحياة الملايين من الناس حولنا...حرب بين بلدين وأنت تعيش في بلد ثالث ربما لا يكون حتى مجاورا لأي من البلدين...لكن النتائج تطالك بالتدريج، وتغير من حياتك إلى درجة لم تتخيل حدوثها يوم سمعت بخبر نشوب الحرب أول مرة...
التاثيرات المتداخلة في العالم مثل الكرات على طاولة البلياردو...تطال الطاولة كلها حتى لو كان اتجاه الكرة الأولى محددا في حيز معين...
وما يبدو في البداية خبرا رئيسيا يخص السياسة العامة في مكان بعيد، قد ينتهي ليحدث تغييرات شخصية في بيتك ومع أفراد أسرتك....
هل يمكنك أن تحدث تغييرا كفرد في كل هذا؟
ربما لا. لا يمكن فعل الكثير..
لكن وعيك فيما يدور سيحدث فرقا حتما في تعاملك مع ما يدور...
******
سورة الروم تنقل لنا هذا الوعي.
حرب بين أقوى إمبراطوريتين في العالم آنذاك، إمبراطوريتي الروم والفرس..كانت تجري آنذاك في الأناضول أو مناطق قرب الساحل الشرقي للبحر المتوسط..لماذا يكون الأمر مهما جدا في مكة في وسط جزيرة العرب؟ لماذا يفرح المؤمنون أو يحزنون أو اي شيء...الأمر بعيد تماما..
لو ان هذا حدث في عصرنا الحالي...لرأينا من يقول اللهم اهلك الظالمين بالظالمين، واخرجنا من بينهم سالمين..بالنسبة لوعي الكثيرين منا اليوم..الروم والفرس في سلة واحدة ..ولن يختلف من ينتصر على من في الصراع الدائر..
لكن بالنسبة للقرآن...لا سواء..
ربما ليس فقط لأن الروم كانوا أقرب - كأهل كتاب - إلى المسلمين من الفرس...
ولا لأن تأثيرات النفوذ الفارسي في الجزيرة كانت أخطر وأعقد على المسلمين من الروم ( عبر دولة المناذرة في شمال شرق الجزيرة وتأثيراتهم في شرق الجزيرة وجنوبها)..
ولكن ربما أيضا لأن هذه الحرب المتواصلة بين أقوى إمبراطوريتين في العالم وتداول النصر والخسارة بينهما كان يؤدي إلى إنهاك واستنزاف القوتين معا...وربما يمهد لظهور قوة ثالثة جديدة...
نحن الآن في أواخر المرحلة المكية..سورة الروم كانت من أواخر ما نزل في مكة، تفصلها عن الرحلة إلى المدينة سورتان فقط..
وعمليا كانت هجرة المسلمين التدريجية قد بدأت غالبا في تلك الفترة..
الحرب في الشمال...بين اقوى دولتين في العالم القديم..
لكن في الجنوب، كانت هناك نقطة جديدة بدأت في التكون...وعلى نحو لم يكن ربما قد لفت أي من القوتين آنذاك....
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
****
وسورة الروم، تذكر بدورة حياة الدول والمجتمعات..وتشبهها بدورة حياة الإنسان..
نمو ..قوة..ضعف...إنهيار...
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
"اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ "
من المؤكد أن ما يشابه هذه الآيات قد وردت في سور أخرى، لكن السياق هنا، المرتبط بصراع الروم وفارس، يجعل لهذه الآيات معاني مختلفة تتعلق بدورة حياة الدول والسنن التي تتحكم بها كما تتحكم بدورة حياة الإنسان..
فلننتبه هنا أيضا إلى أن لفظ " عمروها " - عن الأرض - لم يرد في أي مكان آخر في القرآن غير هنا في سورة الروم ، ورد لفظ ( استعمركم) في سورة هود "هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" ولكن نسبة فعل الإعمار للإنسان لم يرد إلا في سورة الروم..
وقد ورد في صيغة التنافس "كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا"
ليس صدفة...حاشا لله...بل تذكير بمعايير المنافسة والقوة بين الدول..ليست الحرب والقوة العسكرية فقط...بل أيضا الإعمار....
*****
وليس صدفة أيضا أن تأتي الإشارة إلى اختلاف الأعراق والثقافات في هذه السورة...
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ
هذا الوعي الجديد ينفتح على الاختلاف الثقافات والأعراق باعتباره آية من آيات الله في خلقه وليس أمرا يجب العمل على إلغائه...
****
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
هل كان الظلم؟ الاستعباد؟ البذخ والسرف مقابل الفقر والجوع؟
هل هو هذه الرؤية المادية التي لا ترى إلا جانبا واحدا من الحياة...
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
ربما هذا كله وأكثر...
لكن...لعلهم يرجعون؟ يرجعون إلى ماذا ؟
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
الدين القيم...تتكرر مرتين في سورة الروم...
العبارة وردت 4 مرات في القرآن الكريم...نصفها في سورة الروم..
ومن أهم معاني الدين القيم الاستقامة..
والكلمة تربطنا فورا بمعاني القيام، والقيمومة، والنهوض..
وهو أمر لا يمكن تجاوزه بينما السياق يتحدث عن "الروم"..
****
وسورة الروم ايضا هي أبكر سورة مكية تتحدث عن الربا...
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
كل الإشارات الأخرى إلى الربا جاءت في السور المدنية..
كما لو أن الآية هنا تعد للتغيير الذي سيحدث في المرحلة المدنية، حيث سيأتي التشريع والقانون ليكمل وينظم ما كان قد بدأ في المرحلة المكية...
وربما كانت الاية تشير إلى أن هذا الظلم، الربا، هو جزء كبير من مشكلة العالم آنذاك..
وإن الحل هو بعدالة اجتماعية متوازنة
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
وربما كانت الاية تشير إلى أن الاقتصاد، المال، وتنظيمه يجب أن يكون اداة مهمة من أجل الوصول إلى التنافس..مع الروم وفارس..
****
ماذا بعد كل هذا...ماذا يمكن لفرد أن يعمل بعد أن وعى بكل ما مضى وعمل به...
الآية الأخيرة تقول لنا ذلك..
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
#القرآن_360_درجة
#أحمد_خيري_العمري
نشر في 09 حزيران 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع