2511 مشاهدة
2
0
تأملات في سورة النور من أروع ما يكون، ربما تكون آية "الله نور السماوات والأرض" من أكثر الآيات جمالاً وإلهاماً في القرآن الكريم، جمال وروحانية وتبعث على الطمأنينة
ربما تكون آية " الله نور السماوات والأرض" من أكثر الآيات جمالا وإلهاما في القرآن الكريم..جميلة وروحانية، وتبعث على الطمأنينة..المثل الذي استخدم لتقريب " نور السماوات والأرض" شديد الجمال والحميمية..
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
والمشكاة هي الكوة في الحائط، مغلقة، ليست نافذة، كانت موجودة في طرز العمارة التقليدية...ويوضع فيها المصباح لحمايته من تيار هواء قد يؤثر عليه...
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ
حماية أخرى لنور المصباح.الزجاجة ستمنع - مجددا -أي تيار هوائي يمكن أن يؤثر على نور المصباح...
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
الزجاجة نفسها مضيئة..تلتمع...الكوكب الدري هو غالبا كوكب الزهرة..الكوكب الأكثر لمعانا بالنسبة للأرض بعد الشمس والقمر..
.يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ
الوقود الذي يستخدم في المصباح الذي في الزجاجة التي في المشكاة هو زيت مستخرج من شجرة الزيتون..واحدة من أكثر الأشجار المعمرة في العالم، والتي تبقى منتجة رغم تقدمها في السن، كما تبقى خضراء طيلة أيام السنة...هذا الزيت هو الأصفى والأنقى بمعايير الوقود في المصابيح..
ولأن هذه الشجرة ( لا شرقية ولا غربية ) ...فكل ثمارها تعرضت لنفس المستوى " الوسطي" من أشعة الشمس...وهذا يجعل زيتها متجانسا تماما..
يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ
من شدة نقاء هذا الزيت، يكاد يضيء دون أن يوقد...
نور على نور؟
نعم...نحن في دوائر متداخلة من النور...نور المصباح، نور الزيت..ونور الزجاجة أيضا..لأنها تعكس نور المصباح كما يعكس الكوكب نور الشمس..
هذا النور يغمر السموات والأرض..
وهو يغمرك أيضا..يغمر قلبك وروحك...يغمر كلك بكل ما فيك..
أنت أمام الجدار، والنور منبعث من الكوة في الحائط، هادئ، ثابت لا يهتز، وهو بثلاث تدرجات من النور...نور على نور..
النور يغمر المكان...وأنت أمام الجدار...هل يمكن إلا أن تنجذب إلى هذا النور...يحيط بك ويخترقك، نور لا يشبه الأضواء الساطعة الزاعقة التي نعرفها اليوم..ولا أضواء النيون الباهتة الكئيبة...بل نور حقيقي يصعب وصفه ..كل ما عرفت في حياتك من أضواء كان نسخة مزورة وباهتة من النور، محاولة فاشلة لتقليد هذا النور...
من تلك الكوة يتدفق النور...ويغطي على عالمك كله...يغرقك من أقصاك إلى أقصاك بطمأنينة آسرة لا فكاك عنها...يغمرك النور حتى تتنفسه..فيصير لهاثك كالنشوة...
ثم تقول: نعم.....نور السماوات والأرض...
******
للوهلة الأولى، قد نجد أن هذه الآية، باذخة الجمال بهية الروحانية، تنتمي لسور بسياق مختلف عن سورة النور...آية روحانية كهذه، يمكن أن نتوقع أنها تكون في السور المكية، السور التي ركزت على جلال الله وصفاته وقدرته، أكثر مما فعلت السور المدنية..
لكن هذا التوقع خاطئ تماما.
ليس هذا فقط...بل أن السورة المدنية التي جاءت فيها هذه الآية قد بدأت بداية مختلفة تماما عن هذا الجو الروحاني، بل أن النسق العام لها، كان بعيدا عن هذا الجو...
بدأت السورة هذه البداية..
"سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ "
السورة تبدأ بعقوبة الزناة. مائة جلدة.
وتستمر في هذا الاتجاه...عقوبة قذق المحصنات.. ثمانون جلدة، لمن تحدث على عرض إمرأة دون أربعة شهود.. اتهام الأزواج لبعضهم البعض...حادثة الإفك...
ثم هناك بعض التعليمات أو القواعد السلوكية التي تقوم مقام " غلق الأبواب المفتوحة" التي يمكن أن تقود للفاحشة...مثل عدم دخول البيوت دون استئدان...الغض من البصر ( الغض من البصر وليس غض البصر كما ينتشر وهناك فارق بين الاثنين) والآيات التي تحدد شكل تغطية المرأة لرأسها وصدرها...
في خضم هذا الاتجاه، المنهمك في تعديل " التجاوزات " التي تحدث في العلاقات بين الجنسين، ووضع ضوابط لها، في خضم هذا الأمر بالغ الدنيوية وكل ما يرتبط به من غيبة وبهتان وقيل وقال...تأتي آية نور السماوات والأرض..
يضربك النور فجأة، دون مقدمات...كنت في شيء آخر تماما، شهوات وعلاجها وعقوباتها...وفجأة...الله نور السماوات والأرض....مثل نوره كمشكاة....
****
قد تستغرب الأمر قليلا في البداية...
مالعلاقة في السياق؟
لكن لو فكرت قليلا، لعلمت..
******
لم تأت تلك الآية، نور السماوات والأرض بالرغم من ذلك السياق ...
بل بسببه..
نعم، ليس بالرغم من أن السياق كان في اتجاه العلاقات بين الجنسين وضوابطها..
بل بسبب ذلك..
القرآن كان يتنزل على مجتمع حي، وليس على مدينة فاضلة..
والمجتمع الحي مكون من بشر خطائين بطبيعتهم...ليس مجتمع ملائكة تمشي على الأرض..بل بشر لديهم نوازعهم المختلفة وتجاربهم وزللهم وسقوطهم وسموهم...
وهؤلاء البشر يمكن جدا أن يتعرضوا لأخطاء في الاتجاه الذي تحدثت عنه السورة...
ولأنهم كذلك...فهم بحاجة إلى جرعة معادلة ومكثفة من النورانية والروحانية...
مثلنا جميعا...كلنا نحتاج إلى هذه الجرعة من النور في عروقنا وبصائرنا...وهم مثلنا...المجتمع كله بحاجة إلى هذا لكي يوازن طبيعته البشرية الخطاءة...حتى أولئك الذين تحدثت عنهم السورة في مطلعها...حتى الزناة والزانيات وأولئك الذين يرمون المحصنات ...حتى أولئك، بحاجة إلى ذلك النور المتدفق من المشكاة....كلنا بحاجة بالتأكيد..لكنهم أيضا قادرون على التفاعل مع النور...على رؤيته في أعماقهم.. على رؤية أنفسهم من خلاله...
****
ليس هذا فقط...
الكثير من هذه القضايا تعد حساسة، تعد من المحرمات التي لا داعي لذكرها أصلا، تكفيها المواعظ العامة دون تفاصيل...وكل شيء على ما يرام في المجتمع وفقط المجتمعات الأخرى هي التي تعج بالمعاصي والعلاقات الحرة...نحن على ما يرام والحمد لله...
تسلط السورة النور على عيوب المجتمع ومحرماته دون تخوف. واجه حقيقة بشرية المجتمع ولا تحوله إلى مقدس ملائكي لأنه سيتحول إلى مجتمع يفعل في الخفاء ما يلعنه في العلن...
السورة تعلمنا أن نوجه النور إلى تجاوزات الطبيعة البشرية وإخفاقاتها...لأن هذا هو الطريق لمعالجة الأمر...
*****
وستتعرف على نفسك أكثر، وبصورة أدق، مع هذا النور الذي غمرك....
****
وكما تطهر الشمس الجروح وتقتل جراثيمها..
فإن هذا النور المتدفق من الكوة يمكنه أن يطهرك...ويقتل جراثيم وأدران روحك...
*****
أمر مهم بخصوص العقوبات الواردة في السورة..وهي عقوبات تخص الزناة، وعقوبات أخرى تخص الذين يرمون " النساء" ويتهمونهن في أعراضهن..
عقوبة الزنا 100 جلدة للشريكين.
وعقوبة الاتهام دون شهود 80 جلدة...
أي أن عقوبة " الحديث عن الأمر واتهام شخصين بزنا" تعادل 80% من عقوبة فعل الزنا نفسه..
لكن هذا ليس كل شيء...
لأن عقوبة " الزنا" لن تتحق إلا بوجود أربع شهود " شاهدوا" الواقعة فعليا..شاهدوها تفصيلا وليس مثلا أن شاهدا رجلا وإمرأة يختليان في مكان ما...لا...إن قال هذا شيئا عن زنا وهو لم يشاهد سوى أنهما دخلا إلى مكان مغلق، فهذا يجلد...
عمليا..هذا يجعل تحقق العقوبة صعبا جدا، إذ هذا يعني أن الواقعة حدثت " بتفاصيلها الكاملة" على نحو علني فاحش ( وهو أمر غير منتشر) ..أو أن الطرفين اعترفا لأي سبب كان...
وهذا كله يجعل هذه العقوبات رادعة من طرفين...
رادعة للشريكين، ورادعة أكثر لمن يخوض في الأمر ويتحدث عنه...لماذا أكثر؟ لأن الواقعة تحتاج إلى شهود شاهدوا الأمر بالتفصيل وهو صعب....أما عقوبة الخائضين في الأعراض فهي لا تحتاج إلى هذا التعقيد...اتهمت فلان وفلانة...هات أربع شهود على ما تقول ( شاهدوا كل شيء ..)...أو تعاقب ( 80 بالمائة من عقوبة الفعل نفسه) ولا تقبل شهادتك بعدها..
الأمر باختصار هو تعامل واقعي مع الطبيعة البشرية...الأخطاء تحدث...لكن الستر أولى..إن لم يكن هناك شهود واعتراف، فالأمر سيبقى آخرويا...وربما هناك توبة ومغفرة وعفو قبلها...
والأخطاء تحدث، لكن الحديث عنها يزيدها ويشيع الفاحشة، لذا فعقوبة من يتحدث عن الأمر مشددة جدا وتقارب -من ناحية الشدة -عقوبة الفعل نفسه...
*******
أولئك " الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"
لا يشترط أن يكونوا مروجي الدعارة أو فاعلي الفاحشة...
هناك بعض النفسيات التي تنوح وتبكي على الفضيلة طيلة الوقت...لكنها في الوقت نفسه تتحدث عن أن "الكل الآن ساقط"... "الكل يفعلها".."العالم يمشي هكذا"....
هؤلاء ، يريدون ضمنا أن يقولوا ..لم يبق هناك شرفاء إلا نحن..
هؤلاء أيضا يحبون أن تشيع الفاحشة...
*******
وهناك أيضا..."قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ"
وهذا أيضا من النور..على نور..على نور..
****
ومقابل النور....هناك في الجهة الأخرى....سراب..وظلمات...
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
*******
سورة النور...
الآن...أنت ترى أفضل...
#القرآن_360_درجة
#أحمد_خيري_العمري
نشر في 03 حزيران 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع