يقول في حجة لتأييد إلحاده: الإسلام أخذ الكثير من التعليمات من الزرداشتية، مثل الصلوات الخمسة و قصة الإسراء والمعراج، ألا يعني هذا أن نبيكم قد سرق أفكار زرادشت؟
يقول في حجة لتأييد إلحاده: الإسلام أخذ الكثير من التعليمات من الزرداشتية...مثل الصلوات الخمسة و قصة الإسراء والمعراج، ألا يعني هذا أن نبيكم قد سرق أفكار زرادشت؟
****
الزرداشتية ( أو المجوسية) ديانة توحيدية قديمة، عكس ما هو شائع من كونها ديانة وثنية تتعبد للنار، الزداشتية تؤمن بإله خالق واحد هو ) آهورا مازدا الإله الحكيم) وتؤمن بالثنوية ( صراع الخير مع الشر الممثل بآهيرمان وهو نسخة زرداشتية من الشيطان ) و الحساب بعد الموت والجنة والنار، تعبدهم للنار ليس أمرا دقيقا فهم يقدسونها باعتبارها وسيلة تطهير. علما ان التقديس بلا ضوابط يؤدي إلى العبادة بالفعل....
وللزرداشتية كتاب هو " آفستا".
ورغم كل ما رسخ في أذهاننا من وثنية المجوس، فالمسلمون لم يعاملوا المجوس ( سكان فارس وأجزاء من العراق ) على هذا الأساس على الإطلاق، بل عوملوا كأهل كتاب، شأنهم شأن اليهود والنصارى، وحوفظ على معابدهم وشعائرهم لقرون.
لكن بالتدريج أخذ الإسلام يحل محل الزداشتية، في البداية عبر كبار ملاك الأراضي والأغنياء، ذلك أنه لم يكن يحق لغير مسلم أن يمتلك عبيدا مسلمين، لذلك كان العبيد يسلمون لكي يصبحوا أحرارا فورا، فأسلم الأغنياء لكي يحتفظوا بعبيدهم، وكان هذا يمثل تأثيرا كبيرا على بقية الطبقات طبعا.
ولأن الزرداشتية كانت " ديانة قومية" خاصة بالفرس، فقد تقبل الزرداشتيون الإسلام ولكن بإضافة نكهة فارسية، مثل أن سيدنا الحسين بن علي قد تزوج من ابنة آخر الأكاسرة ( وهي شخصية وهمية تماما حسب الروايات التاريخية) لكن احتاج الفرس إلى اختراع علاقة نسب ومصاهرة مع الدين الجديد لتقبله.
هل كان زرداشت نبيا؟ من الممكن جدا. وقد ذكر في القرآن أن هناك أنبياء لم تقص قصصهم. هل كان قبل أم بعد سيدنا إبراهيم؟ تاريخيا زرداشت تأخر عن سيدنا إبراهيم بقرابة ألف سنة، لكن هناك قرابة خمس قرون أخرى تفصل بين الوجود التاريخي لزرداشت وبين تحول الزرداشتية لتصبح الديانة الرسمية الأكثر انتشارا في فارس ( قرابة القرن السادس قبل الميلاد).
هل هناك تشابه بين الزرداشتية والإسلام فقط أم مع بقية الأديان الإبراهيمية؟ التشابه موجود مع كل الأديان الإبراهيمية، أولئك الذين يعتبرون أن الأديان منتج بشري يرون أن الزرداشتية أثرت في اليهودية أولا ( في فترة ما بعد السبي البابلي لليهود التي انتهت بهزيمة بابل على يد قورش الأكبر الذي أعاد اليهود إلى فلسطين) وكان قورش يدين بالزداشتية ويرى هؤلاء أن تأثير الزرداشتية على اليهودية هنا كان أمرا طبيعيا، ومن ثم انتقل إلى المسيحية وبعدها الإسلام ( باعتبار أنهم يرون أن هذه الأديان قد أخذت من بعضها بعضا).
لكن بالنسبة لمن يؤمن بوجود مصدر إلهي واحد لهذه الأديان فهو سيرى التشابه دليلا أكبر على صحة انتساب هذه الأديان إلى مصدرها، وليس من صدمة أو دراما في ذلك. عدم ذكر زرداشت بالاسم في القرآن ( رغم أن القرآن نفى بوضوح أنه أخبر بكل قصص الأنبياء) ليس مشكلة كبيرة، تصوراتنا المسبقة عن الزرداشتية بكونها وثنية يجب أن تكون أقل تأثيرا بعد معرفتنا بحقيقة عقيدتها خاصة مع حقيقة تعامل المسلمين معهم على أنهم أهل كتاب وحفاظهم على معابدهم التي تشعل فيها النار.
ماذا عن الصلوات الخمسة التي يتعامل معها البعض بانفعال كما لو كانت الضربة القاضية للإسلام؟
نعم، في كتاب الياسنا وهو أحد الكتب التي يتألف منها " الآفيستا" هناك ذكر لخمس صلوات يومية، كلها بمواجهة الشمس أو بوجود النار ( التي تمثل نور الله أو حكمته بالنسبة لهم)، وهي ليست " مفروضة" ويمكن لأي كان أن يصلي بالطريقة التي يرغب بها دون وجود شكل محدد لهذه الصلاة.
مبدئيا لا مشكلة، ونعرف جميعا أن " فرض الصلوات الخمسة" في الإسلام جاء بعد الإسراء والمعراج، بعد 10 سنوات تقريبا من الوحي. لو أن الأمر مجرد استنساخ بشري من دين آخر، مالذي جعله يتأخر 10 سنوات؟!
لكن علينا أن ننتبه أيضا إلى أن هذا الاتهام " بالاستنساخ من الزرداشتية" ليس قديما. بل هو اتهام حديث، وهذا غريب قليلا، تعرض الإسلام إلى شتى الاتهامات أول ظهوره، من جنون نبيه إلى كونه يأخذ ما يقول من " نجار رومي"..لكن لم يقل أحد عن الصلوات الخمسة: ها هو يأخذ من المجوسية، علما أن المجوسية كانت موجودة في بعض أطراف الجزيرة العربية والعراق وكان العرب يعرفون حتما ( عبر تجارتهم) عن هذه الصلوات الخمس الموجودة عند المجوس في حالة وجودها – ولكن لا توجد اي إشارة إلى هذا تاريخيا، علما أن القرآن نقل أقسى الاتهامات، وكذلك فعلت المصادر التاريخية التي نقلت أقسى الاتهامات وأخطرها دون أي حذف أو إخفاء، فلماذا يتم التعمية على هذا الأمر – إذا كان موجودا أصلا؟!
هذا يجعلنا نحاول التدقيق في المصداقية التاريخية لهذا الإدعاء، بالذات في موثوقية الكتب التي حملت هذا الإدعاء.
الحقيقة هي أن كتاب الأفستا الأصلي الكامل يعد مفقودا، وأقدم نسخة مختصرة تضم أجزاء منه تعود إلى القرن التاسع الميلادي، أي بعد قرابة قرنين من دخول الإسلام إلى فارس وسقوط الإمبراطورية الساسانية، وهذا يجعل من الصعب جدا التسليم بوجود صلوات خمسة في الزرداشتية قبل انتشار الإسلام.
قصة المعراج إلى السماء في الزرداشتية لأحد الكهنة ( آردا فيراف) تعود لكتاب يسمى ( كتاب آردا فيراف) والباحثون المعاصرون يعتبرون أنه كتب في القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي، أي بعد قرابة ثلاث أو أربعة قرون من انتشار الإسلام.
علما أنه من المعروف أن القرن العاشر الميلادي شهد محاولة أحد النبلاء الزرداشتيين في شمال شرق فارس إعادة تأهيل الزرداشتية عبر استكتاب أربع كهنة زرداشتيين لنسخ وترجمة كتاب يسمى ( خوادي ناماق كتاب الملك) إلى اللغة الفارسية المحكية آنذاك، وهذا الكتاب شكل الأساس لاحقا للشاهنامة التي كتبها الشاعر الفارسي فردوسي، والتي أرخت بشكل إسطوري ملحمي للإمبراطورية الساسانية، ومن غير المستبعد ايضا تسرب جزء كبير من الثقافة الإسلامية إلى نسخة خوادي ناماق.
لا أروج هنا لمؤامرة مفادها أن المجوس فعلوا ذلك عمدا لكي يوحوا لمن يأتي بعد قرون أن الإسلام أخذ منهم الصلوات الخمسة...لكن التأثيرات تحدث بشكل طبيعي..
الزرداشتية أقدم من الإسلام فعلا، ومن المسيحية أيضا، لكن نصوصها ظلت تتطور وتتغير إلى ما بعد ظهور هذين الدينين..
من الجديد القادم...