1650 مشاهدة
0
0
اعذرني. واغفر لي قسوتي في بعض الأحيان. أقول لك: اعذرني، فعذري أن إحساسي بالأيام المعدودات يجعلني في أحيان كثيرة نزقاً متوتراً سريع الغضب والتهور
يا صديقوأحياناً أقسو عليك، وأنت تعرف أن ذلك من حرصي عليك، وأنا أعرف أن قسوتي هذه – أحياناً– ليست عقلانية ولا مبررة.. وأعرف أيضاً أنك قد خطوت –في ثمانية أشهر، هي كل رصيدك الآن– خطوات واسعة، جعلت هذه الأشهر الثمانية أشهراً ضوئية خارج مقاييس الزمن التقليدية، وعلى الأخص خارج مفهوم الساعات الرملية – للزمن.
لذلك أقول لك: اعذرني. واغفر لي قسوتي في بعض الأحيان.
أقول لك: اعذرني، فعذري أن إحساسي بالأيام المعدودات يجعلني في أحيان كثيرة نزقاً متوتراً سريع الغضب والتهور.
إنني أشعر بالزمن يتفلت من أصابعي– وأيضاً من أصابعك – وأحس أن وقتي بدأ ينفد – ووقتك أيضاً – وشعوري هذا يشدني من شعري وبقسوة، ويجعلني (أحياناً فقط!) متوتراً مشدوداً.
ووقتي ينفد، ووقتك ينفد، والكلمات تزدحم في فمي، ولا أكاد أجد وقتاً لأسطرها على الورق، ولا الشجاعة لأقولها.
وتتزاحم في فمي كلمات لم أقلها، تكاد تختفي..
ولذلك أتصرف أحياناً بما يبدو من الخارج أنه مزاجية ونزق وسرعة غضب.
عرفت لماذا؟. لأنني مخنوق. لأن الكلمات في فمي تخنقني.
* * *
وحدي في محطة قطار غامضة ونائية ومهجورة.. القطار الأخير المنطلق منها يكاد يرحل، وأحاول اللحاق به، أقفز من دكة المحطة العالية وبين قضبان السكة الحديدية. أركض لألحق به. أكاد ألحق به. لكنه يسرع، ولا أجد فيه مقبضاً تمسك فيه يدي..
وصوت صفيره يكاد يصمُّني، الدخان المنبعث منه يكاد يخنقني..
ويكاد يرحل، وأحاول اللحاق به..
* * *
وأشعر بنفسي مشدوداً على عقارب ساعة هائلة، تكاتها تكاد تحفر في رأسي، أحسها مثل قنبلة موقوتة محشورة بين تلافيف دماغي. كل لحظة أقول لنفسي: ستنفجر الآن، ستنفجر الآن.
ولم تنفجر بعد. لكنني أعلم أنها ستنفجر في آنٍ محتوم..
نعم. الوقت يدركنا معاً يا صديق. وأنت تدرك ذلك (ربما أكثر مني، لكني أحسه أكثر منك) وبين إدراكك وإحساسي سيصفِّر الحكم معلناً انتهاء المباراة..
نعم. إنها أيام معدودات، مهما طالت سيحدث ذلك.
ولأني أعرف أن ما حدث منذ البداية لم يكن مصادفة ولا اعتباطاً– حاشا لله أن يفعل ذلك- فإني أعلم أن علي أن أقول كل ما علي أن أقوله قبل أن ترحل – علي أن أؤشر هنا وأن أغرس هناك وأترك أثراً هنا وعلامةً هناك.. وإذا لم يحدث ذلك – أعني إذا أدركني الوقت ومضى قطار الأيام المعدودات قبل أن أفعل ذلك، فإني سأعلك الندم بقية عمري، وسيظل يعذبني ذلك، وسأظل أتحسر على كل ذرة رمل فاتتني وانهمرت من الخانة العليا في الساعة الرملية دون أن أحولها لتصير تربة خصبة.
عليَّ أن أقول كل ما علي أن أقوله، ليس لدي خيار في ذلك، الأمر أكبر منك، بالضبط كما هو أكبر مني، وعما قليل، بعد أيام معدودات، سيتبخر الشيء الشخصي في الأمر، ويبقى ما هو عام.. وتصير هذه الكلمات –والأوراق المعدودات– ليست لك وحدك، وليست مني وحدي.. وإنما.. من آخرين.. ولآخرين.
وكل ذلك، في أيام معدودات؛ علي أن أستغلها أجود استغلال.
من "الذين لم يولدوا بعد"
نشر في 19 أيّار 2019
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع