Facebook Pixel
1101 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

عند مقارنة نصوص القرآن بنصوص بقية الكتاب السماوية في النسخ المتوفرة حاليا، نجد أن القرآن يحتوي على حد أدنى من النصوص التي يمكن أن تؤول وتفهم باتجاه التجسيم

سألني أحد الأخوة عن حقيقة قولي في كتاب " ليطمئن عقلي" أن " العرش" هو " غرفة التحكم"..
وفي المقطع التالي السياق الذي جاء فيه الأمر ...لأنه لا يمكن أن يفهم إلا من خلال سياقه...كأغلب ما يقال.
مع كل الأحترام للجميع..
******

عند مقارنة نصوص القرآن بنصوص بقية الكتاب السماوية في النسخ المتوفرة حاليا، نجد أن القرآن يحتوي على حد أدنى من النصوص التي يمكن أن تؤول وتفهم باتجاه " التجسيم"، في الكتب السابقة هناك نصوص كثيرة يفهم منها أن الله ظهر بصيغة مادية للبشر - في هذا العالم - أحيانا بشكل سحاب أو عمود دخان - وأحيانا بشكل بشري يدخل في صراع مباشر مع البشر، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا..
في القرآن لا توجد نصوص بهذا الاتجاه، لكن هذا لا ينفي وجود آيات يمكن أن يفهم البعض منها وعلى نحو خاطيء التجسيم، لكن هذه الآيات لا تصف الله في حالة " تفاعل مع البشر" أو في هذا العالم ( وهما الأمران اللذان كانا واضحين في الكتاب السابقة)..
من أهم هذه الآيات الآيات التي تتحدث الاستواء، العرش، الكرسي
ويمكن ربط وفهم هذه الآيات بثلاث نقاط ارتكاز أساسية:
الأولى – هي المظلة الواسعة التي تفسر كل ما يتعلق بصفات الله (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، وهي قاعدة عامة تشمل كل صفاته عز وجل، وتذكرنا دومًا بأن كل ما نعرفه من صفات "بشرية" لا تشبه ما قد يتوافق اسمًا مع صفات الله عز وجل، مع وجود تشابه عام في المدلول، فالسمع والبصر البشريان معروفان، لكنهما محدودان بالطبيعة البشرية التي تجعل كلًا من البصر والسمع مرتبطين بمسافة محدودة، ومرتبطين بعضو أو أداة للسمع أو البصر، أما الله عز وجل السميع البصير والذي ليس كمثله شيء، فسمعه وبصره غير محدودين بمسافة أو بحاجز، وكذلك لا يرتبطان بعضو، تعالى عز وجل عن ذلك.
الثانية - سياق الاستخدام المتعلق بكل من هذه المفردات في القرآن الكريم: كيف وردت هذه المفردات وما هو السياق العام للآيات قبل أو بعد ذكر هذه المفردات.
لفظ (العرش) مثلًا ورد عشرين مرة في القرآن الكريم، 19 مرة منها تتعلق بعرش الرحمن، ويمكن بسهولة ملاحظة أن سياق الاستخدام في هذه المواضع هو سياق "القوة والقدرة والسيطرة على مقادير الأمور". كما في:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54).
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (يونس: 3).
(لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء: 22).
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون: 116-115).
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (التوبة: 129).
كلها سياقات تشير إلى قوته وقدرته وتحكمه، واستمداد هذه القوة منه.
الثالثة – ربط كل ما سبق مع استخدام هذه المفردات عند العرب، فالعرش مثلًا كان يعني عدة معانٍ عند العرب من ضمنها: سرير الملك، والبيت، والسقف، والمُلك. وعرش الرجل: قِوام أمره وعزه. وعَرْشُ الكَرْمِ: مَا يُدْعَمُ بِهِ مِنَ الْخَشَبِ، وعَرَشَ الكَرْمَ يَعْرِشُه ويعرُشه عَرْشاً وعُرُوشاً وعَرَّشَه: عَمِل لَهُ عَرْشاً، وعَرَّشَه إِذا عَطَف العِيدان الَّتِي تُرْسَل عَلَيْهَا قُضْبان الكَرْم، وعرَشَ يعْرِشُ ويعرُش عَرْشاً أَي بَنى بِناءً مِنْ خشبٍ. والعُروش والعُرُش: بُيُوتُ مَكَّةَ، وَاحِدُهَا عَرْشٌ وعَرِيشٌ، وَهُوَ مِنْهُ لأَنها تَكُونُ عِيداناً تُنْصَبُ ويُظَلَّلُ عَلَيْهَا. والعَرْش: الأَصل يَكُونُ فِيهِ أَربعُ نَخْلات أَو خمسٌ، وإِذا نبتتْ رواكِيبُ أَربعٌ أَو خمسٌ عَلَى جِذْع النَّخْلَة فَهُوَ العَرِيشُ، والعَرِيشُ: شِبْهُ الهَوْدَج تقْعُد فِيهِ المرأَةُ عَلَى بَعِير .

ما الذي يربط بين هذه المعاني المتعددة؟ الأصل هو الفعل (عرش) وهو المكان الذي ينشأ من دعم دوالي العنب بالخشب أو العيدان، بحيث تلتف هذه الدوالي وتكون (عريشًا) مظللًا في وسط كَرْم العنب، وهو المكان الذي من المتوقع أن يلجأ إليه صاحب الكَرْم أثناء وجوده في الكَرْم، لأنه مكان ظليل ويحميه من الشمس.
البيت، وخصوصًا بيوت مكة التي كانت تبنى من (العيدان) أو النخيل ثم يظلل عليها، لا تشكل فرقًا كبيرًا عن (عرش الكَرْم) إذ أن الفكرة نفسها.
الهودج، على البعير، يبدو غير بعيد عن المعنى ذاته، عيدان، أو أعمدة خشبية، تحاط وتظلل بقماش أو بأي شيء آخر يؤدي الوظيفة نفسها.
بهذا التدرج، يمكننا أن نفهم كيف كان شكل عرش الملك، نتخيل دومًا أن عرش الملك كرسي ضخم فخم مزين بالذهب أو ما شابه، لكنه في الحقيقة أريكة (السرير عند العرب لم يكن يعني الفراش كما نستخدمه اليوم بل كان يعني الأريكة) وهذه الأريكة مغطاة بقبة (تسمى الحجلة) والتي تستند بدورها إلى قوائم (كما في الهودج أو بيوت مكة) وهذا الوصف من مجموع ما تعنيه كلمات (الأريكة، السرير، والحجلة) في لسان العرب، وهو مطابق لبعض ما وصلنا من منحوتات تبين عروش الملوك الفرس (الأقرب للعرب جغرافيًا، وكان العرب يعرفون عروش الملوك الفرس وكذلك عروش البيزنطيين بأنها كانت متقاربة في الشكل).
عرش الملك إذن لم يكن كرسيًا ضخمًا، بل كان أقرب إلى (غرفة مصغرة)، ربما داخل غرفة أو قاعة أكبر، لكنها كانت (غرفة) متمايزة عما سواها.
ما الذي كان يحدث في هذه الغرفة – العرش؟
كان يحدث (التحكم) بكل شيء. كل الأوامر الملكية، كانت تصدر في (العرش) وعن (العرش)، بل إن كلمة العرش صارت ببساطة تعني المُلك، لذلك عندما يموت ملك ويرثه ولي عهده، يقال: انتقل العرش إلى فلان..
العرش إذن -حسب مفهوم العرب آنذاك - هو (غرفة الحُكم).
كيف يخدمنا هذا بفهم العرش في الآيات القرآنية الكريمة؟
كل ما مضى من المعاني يقرب لنا والله أعلم أن (العرش) هو البُعد الذي يجري فيه التحكم بالكون ككل، – لا أريد أن أقول المكان أو الحيز في هذا السياق. ربما يمكن القول – والله أعلم – أنه البُعد الذي تجتمع فيه كل القوانين التي وضعها عز وجل، ومن خلالها يتم التحكم بكل شيء.
بعبارة أبسط، للتوضيح فقط، العرش أقرب إلى أن يكون (غرفة العمليات) أو (غرفة السيطرة) ، تعالى الله عز وجل عن كل تشبيه.
ماذا عن (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) (الحاقة: 17)..
من السهل على العقل التجسيمي تخيل أن هذا العرش "مادي" – بالمعنى الذي نفهمه من المادة - ويحمله ثمانية ملائكة، وإعادة فهم كل شيء بناء على هذا التخيل المادي البعيد تمامًا عن "ليس كمثله شيء" و"لا تدركه الأبصار"..
لكن العقل الذي يتشكل بناء على مفاهيم "غير حرفية" ويربط الآيات ببعضها سيفهم المعنى باعتباره تنفيذ الملائكة لأوامره عز وجل، خاصة أن السياق يتحدث مرة أخرى عن يوم القيامة.. (علينا أيضًا هنا أن نتخلى عن تصورنا الذهني للملائكة الذي يحولهم إلى أيقونات هوليودية).

وماذا عن آية (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (هود: 7)؟
أن يكون عرشه على الماء، وأن يكون الماء هو أصل الحياة وأصل كل شيء حي (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء: 30) فإن هذا يتفق مع كون العرش هو للتحكم والسيطرة على العمليات، فهو قائم (على) أصل الحياة.

من " ليطمئن عقلي"....
د.أحمد خيري العمري
نشر في 17 نيسان 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع