Facebook Pixel
940 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

مما أرى للجيل أن عليهم أن ينحتوا طريقهم بحثا عن الإيمان الذي لم يغرس كما يجب في طفولتهم، وربما كانت الكثير من مشاكلنا ناتجة بطريقة ما عن هذا التاخر في الغرس

حجاب “آمنة”..
عندما أخبرتني زوجتي بأن آمنة قررت أن ترتدي الحجاب.. انتابتني مشاعر لا يمكن إنكار اختلاطها.. ولا يمكنني أيضا إنكار استغرابي من كم تلك المشاعر، ومن التناقضات الموجودة فيها.. ولا أدري إن كنت متفرداً بتلك المشاعر أم أنها مشاعر مكبوتة مر بها الكثير من الآباء مثلي..
قلت يومها كلاماً متوقعاً من المباركة والدعاء.. لكني انتظرت أن أخلو بنفسي كي أحلل تلك التناقضات..

آمنة لم تبلغ الحادية عشرة بعد، من الناحية الفقهية لم تبلغ بعد المرحلة التي يجب أن ترتدي فيها الحجاب، لكنها ورثت من الناحيتين “عظاماً” جعلتها تبدو أطول من عمرها، وفي أكثر من مرة كنت أراها تعود من المدرسة ومعها أطفال صغار، فسألتها مستغربا :لم تمشين مع أطفال أصغر منك في السن؟ فردت باستغراب أكبر: إن هؤلاء معي في نفس الصف..
طولها بالمقابل لم يسلبها “قلب الطفلة” الذي تملكه…. تضحك عيناها معها عندما تضحك، ويصير فمها مربعا عندما تبكي (لذا يتحاشى الجميع ذلك!) لا تزال تلعب بالدمى، وتتشاحن مع شقيقتها الصغيرة على تلك الدمية أو سواها.. وتغار من هذا الأمر التافه أو ذاك، وتقول “مع السلامة” عشر مرات كلما خرجت من البيت، ويمكن لها أيضا أن توقظني من النوم لكي تودعني فقط وتقول “مع السلامة” رغم أنها قد ترجع قبل استيقاظي!..

آمنة لا تزال طفلة إذن في اكثر من جانب، لكنها في تلك المرحلة البين – بين، حيث لا يعود قالب الطفل ملائما، لكن القالب البديل لم يتهيأ بعد..

رغم ذلك قررت آمنة الحجاب، وسألتها والدتها أن تؤخر قرارها
لبعض الوقت بحنكة الأمهات وخبرتهن، وفعلاً تم اختبار القرار، وتجاوز بصموده فترة الاختبار، وكان رمضان فرصة لذلك كله..
و عندما اتصلت بها صديقتها ليلة بدء المدرسة، لتسألها سؤالا- نسائيا بامتياز!!- ” هل ستسرحين شعرك؟!!”.. كان جواب آمنة بفرح حاسم: لقد تحجبت..

تحجبت آمنة إذن، فلِم يشعر والدها بهذا الارتباك، وهو من كتب ودافع عن الحجاب، وابتكر اسما خاصاً بأولئك الكتاب الذين يحاولون إخراج آيات الحجاب عن معانيها..؟؟
ربما لا يتعلق الأمر بجزئية الحجاب بقدر ما يتعلق بجزئية “الأبوة”.. فالحجاب عندما تقرر ابنتك أن ترتديه سيقول لك ضمنا: إن طفلتك لم تعد طفلة بعد الآن، صحيح أنها ولدت فيما يبدو أنه الأمس، وأنك لا تزال تذكر رائحتها التي لا بد أنها تشبه رائحة الجنة، وتذكر كيف اتفقت ( أو اختلفت!!) مع والدتها على اسمها، ولا تزال تذكر خطوتها الأولى وكلمتها الأولى وأجوبتها الذكية الأولى.. إنها لا تزال طفلة في نظرك، لكنها فجأة “تشق الأرض” وتصير صبية أو تكاد، و تتخذ قرارها بنفسها، و قرارها هذا: الحجاب…
فجأة ستفهم أنها لم تعد تلك الطفلة، وأنك لم يعد بإمكانك أن تحملها على كتفيك بسهولة، وسيقول لك ذلك: إنك تقترب من حيطان الأربعين بسرعة لم تتوقعها على الإطلاق.. سيكون ذلك كله أصعب عندما يأتي قرار الزواج لاحقاً، وقرار الحجاب يعني أن ابنتك لم تعد طفلة، وسيعني ذلك لاحقاً ولو بعد حين أنها ستتزوج، لم أمرّ بهذا إلى الآن، لكني أعرف أنها سُنَّة الحياة، وأدرك أيضا أن ذلك كله سيكون صعبا جدا يوم يحدث، ليس لعقدة ذكورية شرقية كما قد يحلو للبعض أن يتخيل، بل لسبب بسيط آخر: وهو أن البنت عندما تتزوج “ينطفئ” ضوء ما في بيت أهلها…و يعود من الصعب جدا إنارته من جديد..
عندما رأيتها للمرة الأولى بعد الحجاب، وكنت عائداً من سفري، تذكرت ما قالته لي والدتها من كون الحجاب قد جعلها تشبه “فُلة”.. وفُلة- للقلة التي لا تعرف- هي نسخة إسلامية من الدمية “باربي”.. والإسلامي فيها هو الحجاب، وطقم الصلاة.. ورغم أن المقارنة واردة جداً، وأنها فعلا صارت تشبه فُلة مع الحجاب، إلا أني لم أرتح للتشبيه، فلدي موقف نظري مضاد أصلا من “باربي”.. وهو موقف لا يلغيه تحجب باربي ولا وضع طقم الصلاة ضمن إكسسوراتها، فباربي في رأيي تكرس في وعي الأطفال نموذجا معينا للجمال عموما وللأنوثة خصوصا مع تركيزها على تضاريس جسدية ينبغي إبقاء الأطفال في معزل عنها، وتكريس هذا النموذج يضع الأطفال مبكراً في سباق محموم نحو محاولة مقاربة النموذج “بالنسبة للإناث”، ومحاولة قسر أنفسهن داخل هذا القالب، وهو القالب الذي نرى كيف يتم تعميمه وتكريسه لاحقا عبر وسائل الإعلام المختلفة..
كانت آمنة إذن تشبه فُلة، وهو أمر يروق لها طبعا ولكن لا يروق لوالدها الذي يفلسف كل شيء ويعقده (ويعقد مقارنات بين “دورا” و”باربي” تنتهي بانتصار الأولى على الثانية، وهو أمر تسر له الشقيقة الصغرى لآمنة..)، ولكن في رأيي إن تحويل المرأة إلى دمية أمر خاطئ حتى لو ارتدت الحجاب، بل بالذات عند ارتدائها الحجاب.. فالحجاب (كما أفهمه، وليس كما هو مطبق!) هو تحديدا وسيلة لمنع تسليع المرأة وتحويلها إلى دمية.. بعبارة أخرى: الحجاب هو آلية لجعل المرأة فعالة ومشاركة اجتماعياً دون أن تكون أنوثتها وسيلة للتشويش أو المنافسة، وهو أمر علينا الإقرار بوجوده في كل مكان حتى في المجتمعات التي تدعي أنها تجاوزت أمور الكبت ..
الحجاب يجعل المرأة قادرة على أن تكون إنسانا دون أن تحولها أنوثتها إلى سلعة، إلى دمية، لا أستطيع أن أنكر أن الكثير من مرتديات غطاء الرأس هن مثل الدمى- سلوكاً وشكلاً- أيضا لكنهن يضعن غطاء على روؤسهن ولست بصدد إصدار الأحكام عليهن، لكني أذكر فقط أن الحجاب هو في حقيقته رمز لمنظومة فكرية وسلوكية متكاملة تضم ما سبق الإشارة إليه من تسهيل مشاركة المرأة بتحييد أنوثتها وتضم أيضا مبدأ “الفصل”- الذي صار يعد اليوم سبة وجريمة وهو في حقيقته صمام أمان لضمان نمو الأفراد والمجتمعات- وتضم مفاهيم أخرى كذلك.. لا أرى معنى للحجاب إذا كان قد شرع فقط من أجل الخروج لقضاء الحاجة كما يروج البعض، لو كان الأمر كذلك لما احتاج الأمر تثبيتاً في نص قرآني صالح لكل زمان ومكان، بل لربما وجد مكاناً مناسباً في حديث نبوي يخص الأمر بالتحديد.. لكن وجوده في القرآن يجعل منه تشريعا من أجل خروج المرأة، من أجل شرعنة مشاركتها في بناء المجتمع، من أجل عرقلة ( وليس إلغاء) تحويلها إلى دمية.. إلى سلعة .. كما هي اليوم للأسف، بل كما تساهم حركات تحرير المرأة في ذلك عبر ترويج لصورة المرأة- الدمية باعتبارها نموذجا للتقدم والحرية..
هل تفهم آمنة ذلك كله؟ ليس بعد بالتأكيد.. وسيكون من قبيل المبالغة ادعاء ذلك، لكنها تدرك تماما أن ما ترتديه على رأسها هو أكبر من مجرد قطعة قماش، وأنه يرتبط بسلوكها بشكل مباشر، وأنه هوية عليها احترامها وإجبار الآخرين على احترامها عبر ما تفعله..
سيقول البعض إن آمنة لم تختر الحجاب بالضبط، بل إننا غرسنا فيها هذا الخيار بالتدريج حتى لم يعد لديها سوى أن تعلنه، و أقول هنا: نعم وبالتأكيد، وأستطيع أن أذكر عشرات التفاصيل الصغيرة التي ساهمت في ذلك، من قضاء فترات طويلة يوم الجمعة مرتدية الحجاب قبل الذهاب الى المسجد، ومن التزام والدتها بالحجاب، و من الحوارات غير المباشرة التي تدور أمامها، كانت آمنة عندما تريد أن تلعب وتبدو كالكبار كما تفعل البنات، فإنها ترتدي الحجاب أو طقم الصلاة، بدلا من وضع الماكياج أو الإكسسورات إياها..
بالتأكيد غرسنا ذلك فيها، هل هناك من يعترض على ذلك؟ هل هناك من يدعي أنه لا يزال بإمكانية وجود خيار حر حقاً في عالم يبدأ بغرس المفاهيم في رؤوس الأطفال حتى قبل أن يبدؤوا بالكلام.. بعبارة أخرى: زميلة آمنة التي اتصلت بها تسألها إن كانت ستسرح شعرها هي أيضا تعبر عما غرس فيها من مفاهيم سواء من أهلها أو من المحيط العام بكل مكوناته، والفتاة التي ترتدي الضيق والفاضح أيضا، وتلك التي تترك الباب مفتوحا لصديقها ليدخل خلفها دون علم أهلها تعبر عما غرس في داخلها من مفاهيم…(و كذلك الفتي الذي يدخل بطبيعة الحال !) كل ما في الأمر أن الغرس كان عبر وسائل إعلامية أكثر خبثا وسطوة وقدرة.. أغلب “الخيارات” التي يختارها الناس هي تعبير عن غرس مسبق، لا أنكر هنا وجود خيار حر وفردي ناتج عن وعي مختلف، لكن ينبغي أيضا الإقرار بأن ذلك نادر جدا وغير مهم إحصائيا..
أجمل ما علق في ذهني من الأمر، هو جواب آمنة لوالدتها التي أخبرتها أنها يمكنها “تأجيل الأمر” إن أحبت، قالت لها بكل بساطة : أليس فرضاً علي؟

تلك البساطة الخالية من التكلف… من التذاكي المصطنع… من الفذلكة الفارغة… التي يتشدقون بها عندما يحاولون نزع آية الحجاب من معانيها: تاريخية النص، الحد الأدنى والحد الأعلى، الإنزال والتنزيل والنسبية والصيرورة والسيرورة والكينونة والغائية والإيدلوجيا السياسية وكل السخافات الأخرى في هذا السياق، كلها ستبدو بلا معنى أمام ما قالته ابنتي وهي ترفع كتفيها بلا مبالاة “أليس فرضا علي ؟”..
شيء آخر، كلما قرأت من أحد المتثاقفين شيئاً عن الأمر وعن كونه “صراع بين القديم والجديد” انتابتني رغبة في الضحك على رؤيتهم القاصرة، ذلك أني أنتمي الى أسرة لم تعرف الحجاب إلا متأخرا جدا، وكان والدي رحمه الله قد أرّخ لحركة السفور في العراق في أحد كتبه، وكان تأريخه للأمر منحازا بلا شك للسفور..

أدرك أني أقدم هنا “وليمة فرويدية” هائلة لمنتقدي” إذن مشكلته مع أدعياء التجديد هي كناية عن مشكلته الحقيقية مع والده ؟!!” لا، أبداً، والدي رحمه الله انتمى لجيل مختلف، كتب كتابه في الخمسينات من القرن الماضي، و قد أصيب جيله بما يكفي من الأزمات والهزائم التي جعلته يعيد النظر بكثير مما كان بديهيات بالنسبة له يوما ما، وانتهى الأمر لاحقا بتغيير كبير في موقفه قبل وفاته رحمه الله..

و ما حدث معي و مع والدي حدث أيضا مع جيلي عموما، فكثير من ابناء جيلي كان عليهم أن ينحتوا طريقهم بحثا عن الايمان الذي لم يغرس كما يجب في طفولتهم..و ربما كانت الكثير من مشاكلنا ناتجة بطريقة ما عن هذا التاخر في الغرس…

أنظر لحجاب آمنة، فلا أرى فيه صراعا للأجيال، ولا إيدلوجيا سياسية مزعومة لم أنتمِ لها يوما ما، و لكن أرى جيلا آخر أتمنى له أن يكون أفضل مني ومن جيلي، وأعرف أن الأخطار المحدقة به كبيرة، لكني أطمح أن يكون أقوى منها جميعا.. أرى جيلا آخر، أتمنى أن يكون هو الجيل الآخر القادم لا محالة، أو يساهم على الاقل في مجيئه..في التمهيد له..
هل يمكن ان يتحمل “حجاب آمنة” كل هذا الكلام؟..بالتاكيد..إذا أصررنا أن ألامر أكبر بكثير من “قطعة قماش”..

#أحمد_خيري_العمري
د.أحمد خيري العمري
نشر في 16 أيلول 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع