1375 مشاهدة
0
0
من كتاب الجانب العاطفي من الإسلام، لماذا يجهل بعض الناس أن ما وكل إلى ذممهم من أعمال عامة أو خاصة هو مجال خصب لكسب رضوان الله وغفرانه؟
كتاب : الجانب العاطفي من الإسلام - تأليف : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 23 ] من تجارب المربين (5 من 7) : (من حقيقة العبودية – من أخطاء العابدين )
• من حقيقة العبودية:
قال ابن عطاء الله : " لو أنك لا تصل إليه إلا بعد فناء مساويك ومحو دعاويك لم تصل إليه أبدا ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه ونعتك بنعته، فوصلك بما منه إليك لا بما منك إليه لولا جميل ستره لم يكن عمل أهلا للقبول ".
أقول : أدلة الشريعة متضافرة على أن العمل الصالح طريق الجنة، وأن العمل الطالح طريق النار، وقد وعد الله المؤمنين بالنعيم وتوعد الفجار بالجحيم، ورفض أن يسوى بينهما فى الجزاء، وعد ذلك سوء حكم، (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم * أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون).
وقد أخبر الله أن النعيم الذى يصير إليه أهل الإيمان والصلاح لا يتغير. (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم * خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم)
كما أخبر أن أهل الفسق والكفران لابد أن يذوقوا أليم العذاب (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد * قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد * قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد * ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد).
وفى هذه الآيات ـ وهى نماذج لمئات غيرها ـ ما يدل بوضوح على أن الإنسان صانع مصيره، وأنه يشق بيده طريق مستقبله، وأن القدر لا يسوق الناس إلى دار الجزاء خبط عشواء.
كلا، إنهم يجنون فى الدار الآخرة ثمار ما غرسوا فى الدار الدنيا... وكل كلام غير هذا فهو إما جهل بالإسلام أو افتراء عليه.
بيد أن من تمام العمل الصالح أن نقدره قدره، وألا نتجاوز به حدوده. فإن من ظن أن عبادة عدد سنين فى الأرض هى الثمن الحقيقى لخلود غير متناه فى السماء رجل مجازف.
ومن ظن أن الطاعات التى تقدم بها، سليمة الأداء نقية اللباب تثبت على النقد والتمحيص فهو رجل مخدوع. ومن ظن أن ما نهض إليه من ـ واجبات وما تطوع به من نوافل أرجح من النعم التى عجلت إليه فى الدنيا فهو هازل.
الواقع أن الله جل شأنه ينظر إلى نيات الخير فى قلوب أهل الإيمان فيعفو عن كثير من زللهم، ويتجاوز عن كثير من تقصيرهم، ويكثر قليلا من الأعمال التى يقومون بها. كما يكثر للفلاح حصاد زرعه، وان كان ما بذر يسيرا. ولولا هذا ما شعر بلذة الفوز أحد (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا، ولكن الله يزكى من يشاء).
إن الاغترار بالعلم رذيلة تسقط قيمة العمل، ولو أن أحدا طالب الله أن يقربه إليه، أو أن يجزل له المثوبة، ناظرا فى ذلك إلى ما بذل من جهد ما استحق عند الله شيئا طائلا.
والواجب أن يتقدم الإنسان إلى الله وهو شاعر بتقصيره، موقن بأن حق الله عليه أربى من أن يقوم بذرة منه، وأنه إذا لم يتغمده الله برحمته هلك.
هبك بذلت نفسك، ومالك له... أليس هو خالق هذه النفس؟ أليس هو واهب هذا المال…؟ فإذا أدخلك الجنة ـ بعد ـ ألا يكون متفضلا؟ وانظر إلى سلسلة الأعمال التى تؤديها خلال فترة المحيا على هذه الأرض، كم يكتنفها من علل النفس وآفات التقصير؟ إنها لو كانت أعمال غيرك فعرضت عليك أنت ما قبلتها إلا على إغماض طويل وتجاوز خطير!!
إن المؤمن يعمل، ولكنه لا يتطاول بعمله أبدا. وهذا يفسر الحديث المشهور عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لن يدخل الجنة أحد بعمله! قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته "
والغريب أن ناسا فهموا من النهى عن الاغترار بالعمل أنه إسقاط لقيمة العمل جملة! وسار الأمر فى أدمغتهم على هذا النحو، والعمل لا يدخل الجنة، فلا ينبغى أن تتعلق الهمم به، فلا ضرورة لبذل المجهود فيه!!!
ثم قرروا بعد ذلك أن العمل الصالح ليس طريق الجنة وأن الجنة هبة من الله يمنحها من يشاء ولو-لم يعمل خيرا قط. بل ذهبت الغفلة ببعض المتكلمين إلى الزعم بأنه يجوز أن يدخل الأشرار الجنة وأن يدخل الأخيار النار.
وهذا لغو من القول، وغباء فى الفكر، وافتراء على الله والمرسلين.
وليت شعرى ما يكون موقف هؤلاء عندما يقول الله للمؤمنين يوم الحساب (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون * لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون)...
ثم يستتلى الكلام الإلهى (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون * وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين)
• من أخطاء العابدين:
قال ابن عطاء الله : " من علامة اتباع الهوى، المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتكاسل عن القيام بالواجبات ".
أقول : الفروض التى يجب أداؤها كثيرة ومنوعة، وهى فى العبادات محدودة كما وكيفا ولكنها فى العادات مفتوحة الدائرة متطورة الأداء.
والمسلم مطالب بكل الواجبات التى ارتبطت بعنقه، ولا يجوز أن يوجه نشاطه إلى نافلة ما قبل أن يستكمل هذه الواجبات أولا.
إن الواجبات والنوافل أشبه بالضرورات والمرفهات، والمرء لا يشترى لنفسه عدة زجاجات من العطور وهو وأهله بحاجة إلى أرغفة من الخبز، سد الجوع أولى من هذه الزينات.
وقد رأيت ناسا من أهل الدين يذهلون عن هذه الحقيقة، وحكى لى أحدهم أنه حج عدة مرات وهو بسبيله إلى حجة جديدة، لن تكون الأخيرة...
وهذا خطأ. فلو أنه بعد حجة الفريضة تأمل فيما عليه من فروض أخرى، ولو أنه تتبع الثغرات التى شاعت فى مجتمعنا وعمل على سدادها لكان أدنى إلى الصواب، وأقرب إلى مرضاة الله، وأبعد عن أهواء النفس...
إن نفقات حجة واحدة من هذه النوافل تكفى لدفع نفقات الدراسة لنفر من الطلاب الفقراء، وهم أولى، وتكفى لرفع الحجز عن أمتعة نفر من الغارمين المعسرين وهم أولى، وتكفى لطبع بعض الكتب الدينية وتوزيعها بالمجان وذاك أجدى... الخ.
إن إنقاذ أمتنا من الجهل والفقر أوجب من إشباع رغبة نفسية فى متابعة الحج والعمرة، هذه فريضة وتلك نافلة.
بل لو أن الحاج كان تاجرا، واستغل المال فى توسيع تجارته لدعم الاقتصاد الإمملامى، واغلاق الأبواب أمام الاقتصاد الأجنبى لكان ذلك أحق من بذل المال فى التطوع بحج أو عمرة.
ذلك أن الجهاد الاقتصادى صنو الجهاد الحربى، بل إن لقاء العدو فى ميدان الدم يجىء مرحلة أخيرة بعد كفاح طويل فى عالم المال والمعرفة والدعاية والبذل.
وتنظيما للعلاقة بين الفرائض والنوافل روى عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " حجة خير من أربعين غزوة وغزوة خير من أربعين حجة يقول إذا حج الرجل حجة الإسلام فغزوة خير له من أربعين حجة وحجة الإسلام خير من أربعين غزوة " .
وفى رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " حجة لمن لم يحج خير من عشر غزوات وغزوة لمن قد حج خير من عشر حجج " .
وقد أبنا فيما كتبنا أن الجهاد الحربى، حلقة من سلسلة بها حلقات أخرى من غزو اقتصادى وثقافى.
لا تقل خطرا عن نظائرها.
إن أصحاب البصر السديد من العلماء يضعون الحدود مكبرة بين الفروض والنوافل حتى لا يقع المسلم فى تقصير مخل وهو يحاول إرضاء الله بعمل لم يوجبه عليه.
وابن عطاء الله يعد من إتباع الهوى إيثار نافلة خير على واجب قائم.
وقد رأيت بعض الصالحين يصومون يومى الاثنين والخميس ويجتهدون فى التقرب إلى الله بهذا العمل الكريم.
والصيام قربة لا ريب فيها وجهاد نفس نبيل، ولكنى أحب أن أنظر إلى الموضوع على ضوء الموازنة بين الفرض والنفل.
فمن صام رمضان فقد أدى الفريضة، فإن كان صيام أيام أخرى سيوهن قواه عن العمل فى المدرسة، إن كان مدرسا، أو العمل فى الديوان إن كان موظفا، فالفطر أولى به.
لأن هذا التنفل سيعجزه عن القيام بفريضة تعليم التلامذة، أو يعجزه عن القيام برعاية مصالح الجمهور، وكلا العملين فريضة بالنسبة له.
ولماذا يجهل بعض الناس أن ما وكل إلى ذممهم من أعمال عامة أو خاصة هو مجال خصب لكسب رضوان الله وغفرانه؟.
لقد كنت ألحظ ـ بأسى ـ أن بعض الأطباء يحب أن يعظ الناس فى المساجد!
لماذا؟ إن الكشف الدقيق على مريضه هو العبادة الأولى المطلوبة منه، ولا يغنى عن هذه العبادة أن يجيد بعض خطب أو يطيل بعض ركعات ـ عدا الصلوات المكتوبات.
إن صلاته بعد الأوقات الخمس هى علاجه المرضى واستكشاف عللهم، وتيسير الشفاء لهم بكل ما هنالك من وسائل...
لقد قلت: إن الفروض كثيرة، وإذا كانت محدودة فى ميدان العبادات فهى مطلقة فى الميادين الأخرى، وأمتنا فقيرة إلى الجد فى الميادين كلها وإلا جثت على ركبتيها أمام أعدائها.
ولذلك يجب أن تنظم جهود العابدين، حتى لا تقل فى ناحية وتكثر فى ناحية أخرى. ويجب إبراز الفروض أولا حتى لا تضطرب الأوضاع وتختل الموازين وتتبدد الجهود هباء.
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى
#الجانب_العاطفي_من_الإسلام
نشر في 18 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع