1167 مشاهدة
1
0
الإنسان عادة محاصر بمطالبه القريبة والبعيدة يفكر فيها ويكترث بها من كتاب علل وأدوية للكاتب محمد الغزالي
كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 8 ] من نفحات اليقين
الإنسان عادة محاصر بمطالبه القريبة والبعيدة يفكر فيها ويكترث بها. وكلما اشتدت وطأتها زاد همه وربما نشاطه! فما يكاد يستيقظ مع الصباح حتى يبدأ تلبية هذه المطالب، مواصلا السعى مرحلة بعد أخرى فإما بلغ غايته فرضى، أو عجز فسخط، وهكذا طوال عمره.
ترى ما هذه المطالب المسيطرة؟
البعض يدور حول نفسه فما يدرى غيرها... وهناك من يفكر فى (الرب) الذى خلقه فسواه، وفى الحقوق المفروضة له فهو يجعل لله وفرائضه نصيبا من حياته يقل أو يكثر.
لكن لماذا تكون القسمة كذلك؟ امرؤ يكدح لنفسه، وآخر يتجه بين الحين والحين إلى ربه؟
إننا نحب أنفسنا يقينا، والعاقل حين يكدح لربه يرقب منه أن يصون يومه وغده ويحفظ عليه معاشه ومعاده، نعم، إنه يزرع لنفسه وأهله ولكنه يقرن الحصاد المنشود ببركة الله الواهب المحمود. فهو فى طيات عبادته لربه يحيى مجده وينتظر رفده على سواء.
الإيمان الحق أن يكون الله فى قلبك وأنت تقطع الليل والنهار على ظهر الأرض.
يقول علماء المادة: إن الطبيعة لا تعرف الفراغ. وهذا صحيح، فالإناء الخالى من الماء مملوء بالهواء، ترى هل الفؤاد الخالى من الله فارغ من كل شىء؟
كلا، إنه مملوء بشىء آخر حتما.. مملوء بالأثرة أو الحقد، أو عاكف على عبادة صنم حديث. والأصنام الحديثة فى عصرنا كثيرة، من بينها الثراء والجاه والشهرة، وسائر الشهوات العاصفة. ولذلك جاءت الآية الكريمة تقول: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا).
إن الغفلة عن الله تبعها وعى للشهوات ويقظة لشتى المآرب الهابطة. ومن هنا انفرط العقد النفسى، وفشا التسيب الاجتماعى: ونشأت مع التقدم العلمى أهواء جامحة تتسم بالصفاقة والتبجح عرى الروح والجسد جميعا.
وفى القرآن الكريم أمر بإكثار ذكر الله ، واستدامة هذا الذكر مع تجدد الزمان. يقول سبحانه وتعالى: (اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا). (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون).
وقد تأملت فى هذه الأوامر، وعرفت حكمتها! إن الغرفة التى ينقطع عنها (تكييف) الهواء سرعان ما يغلبها الجو العام. والقلب الذى ينقطع عنه تيار الذكر سرعان ما تتسلل إليه الأحاسيس الرخيصة، وما دام لا يشتغل بالخير فستقتحمه الشرور.
ومن هنا جاءت الوصية بالتذكر المستمر، التذكر الذى يشعر المرء فيه بالحاجة إلى الله والافتقار إلى إرشاده وتسديد خطاه، والخوف من أن يتركه الله وحده فى هذه الحياة.
والويل لمن حرم العناية العليا إنه يركض فى الدنيا ركض الوحوش ثم يعود آخر الشوط صفر اليد، بل قد يكون مثخنا بالجراح مثقلا بالهزيمة.
إن استكانة المرء إلى ربه ضمان نجاحه ونجاته، وذاك معنى قوله تبارك اسمه: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين).
لكن ما معنى هذا الذكر؟ هل هو استغراق عقلى؟ أو سياحة نظرية؟ أو خلوة نفسية بعيدة عن الناس؟ أو مراحل من التأمل الذاتى المطلق؟
إن الإجابة على هذا السؤال لا نجىء بها من عند أنفسنا، وإنما نجىء بها من القرآن الكريم وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم وسنته الشريفة.
وسنرى أن المنشود سلوك ظاهر، وعمل بارز، ووجهة فى الحياة تصبغ كل شىء بالربانية وتسوق الأحياء إلى ربهم سوقا رفيقا ساميا يرفض الدنايا ويؤثر الآخرة. لأن عبادة الحياة ليست شيمة المؤمنين: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون).
لعل أول آثار الذكر الصحيح الارتقاء بالضمير حتى لا يسف إلى الرذيلة، أو يلم بما يغضب الله. وقد جاء فى الحديث عن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنى أخاف الله " .
وكره المعصية مع إمكانات فعلها نقاء خلقى رائع، وفى سيرة يوسف الصديق ما يستدعى الإعجاب والأسوة وهو يقول لمن طلبن منه السقوط: (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين).
وإنه لشىء رفيع حقا أن يؤثر الإنسان السجن على الفاحشة. ومن الناس من يحسب الاستحواذ على ملكة أغرمت به شيئا مشرفا!
إن الحيوانية فى هذا العصر لها منطلق وضيع بالغ الوضاعة قد يغريها بالدنايا ثم يدفعها إلى الفخر بها.
والقلب الكبير يستمد عظمته من رقابته لله والتزامه لوصاياه.
وربما وضع بعضهم فاصلا بين الحياة الخاصة والحياة العامة، فالتزم مثلا أن يخدم وطنه بأمانة، وأن يدافع عن قضاياه بقوة، ثم ينثنى إلى حياته الخاصة فلا يحترم قيدا ولا يضع حدا، ويتصرف فى الظلام كيف يشاء.
والإسلام برىء من هذا الازدواج، إنه نقاء فى السر والعلن، وصفحة واحدة يستوى فى نصاعتها ما لله وما للناس. عن ثوبان رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لأعلمن أقواما من أمتى يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة فيجعلها الله هباء منثورا !
قال ثوبان: يا رسول الله: صفهم لنا جلهم.. أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم! قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها " .
ليس الذكر المطلوب أن تنشق الحناجر بالهتاف لله ، أو يطول الإحصاء فى ترداد الأسماء الحسنى، فإذا انكشف النقاب عن المخبوء وجدت الوحشة والعجز.
الذكر المطلوب عمل إيجابى يغلب أعتى الغرائز ويسيرها وفق مراد الله طوعا أو كرها. فالمال مثلا محبوب للإنسان، ربما غلب حبه فكسبه صاحبه من أى وجه وربما غلب كنزه فشح به صاحبه فى مواطن النفقة. هنا يبرز عمل الذكر الصحيح عفة فى الكسب وعطاء عند الحاجة.
وهذا هو معنى قوله جل وعز: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها).
وجاء عن جابر بن عبد الله فى خطبة سمعها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذى بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة فى السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا " .
والذكر الذى يقتل داء البخل معناه الثقة فيما بيد الله، وأنه مخلف كل ذاهب ومنجز كل موعود، وأن المال فى الحقيقة لمالكه الأعلى وأنه موضوع تحت يدنا امتحانا ليظهر: أنتشبث به أو نطيع واهبه؟
وقد يخبث صاحب المال، ويحاول إمساكه، والظهور بطاعة الله فى عبادات أخرى وهيهات.. فإن الغنى إذا شح بماله لم ينفعه عند الله أن يطول صيامه أو تطول تلاوته، أو تطول قراءته للأوراد فى الصباح والمساء.
نوع واحد من الذكر هو الذى يجديه، الذكر الذى يحمله على البذل فى هذه الدار، ابتغاء ما عند الله فى الدار الأخرى. النجاة فى هذا الذكر وحده. ويتدخل ذكر الله تدخلا عميقا فى أشد الساعات رهبة فى حياة الإنسان، ساعة مواجهة الموت، إن النفس البشرية ليست آلة طيعة فى يد الإنسان يأمرها فتطيع، كما يغمز كاتب الآلة أزرار آلته فإذا هى تطبع الحروف المطلوبة..
كلا.. إن حب الحياة ناشب بكل عضو من أعضاء البدن، وكل خطرة من خطرات الحس، وستحاول النفس البقاء ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وقد تتبعت مشاعر عدد من فرسان العرب المعدودين، وهم يواجهون الحتوف، فرآيتهم يصفون بصدق حركات نفوسهم وكيف قاوموها، تدبر قول عمرو بن معدى كرب :
فجاشت إلى النفس أول مرة .. فرده على مكروهها فاستقرت!
وقول قطرى بن الفجاءة:
أقول لها وقد طارت شعاعا .. من الأبطال: ويحك لن تراعى!
فإنك لو طلبت بقاء يوم .. على الأجل الذى لك لن تطاعى!
وقول عبد الله بن رواحة:
أقسمت يا نفس لتنزلنه.. لتنزلنه، أو لتكرهنه
والقرآن الكريم يكلف المؤمنين عند ملاقاة الموت أن يكثروا من ذكر الله، فإن ذلك أعون لهم على الثبات، فإما النصر وإما الشهادة. أيا كانت النتيجة فهى إحدى الحسنيين، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون).
وإعمال الروية مع مراقبة الله وتدبر العاقبة أدل على الرشد وذاك معنى قول الأحنف بن قيس : أسرع الناس إلى الفتنة أقلهم حياء من الفرار.
وفى الحديث عن عبد الله بن أبى أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر فى بعض أيامه التى لقى فيها العدو، حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: " يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " .
قال ابن كثير رحمه الله: وفى الحديث المرفوع يقول الله تعالى: " إن عبدى كل عبدى الذى يذكرنى وهو مناجز قرنه.. " .
وكان العرب يفخرون بذكر أحبتهم فى هذه اللحظات على نحو ما قال عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل منى .. وبيض الهند تقطر من دمى!
وذكر الله أزكى وأشرف.. وفى الحروب الباردة ـ بتعبير أهل العصر ـ يحتاج المجاهدون إلى ذكر الله كما يحتاج المقاتلون سواء بسواء، فإن حماة العقائد المضطهدة والمبادئ المستضعفة تمر بهم أوقات مزعجة وأزمات شداد لا يحميهم فيها إلا ذكر الله والاعتماد عليه.
وفى الأيام الأولى من جهاد الدعوة وتأدب المشركين يقول الله لنبيه: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا * رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا * واصبر على ما يقولون).
وأهل الحق يبدءون نصرته فرادى مستوحشين وسط مجموعات تضيق بهم، بل تضيق عليهم بحق الحياة. وإذا كان لهم فى المستقبل أمل فهو الاستناد إلى الله والاستمداد منه.
والواقع أن ثقتهم فى أنفسهم لا تنبع من يومهم الراهن، وإنما تنبع من غد يسوقه الله لهم حافلا بالنصر، ولذلك فهم يذكرون ربهم ليمضوا فى طريقهم: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
ولما كانت الحياة يسرا وعسرا وحلوا ومرا فإن جماهير البشر لا تستغنى إبان متاعبها عن هذا الذكر الذى يعينها على اجتياز المضايق برجاء وقدرة. وفيمن تؤمل؟ إلا فى الحى الذى لا يموت.
بعد هذه النماذج المفردة لأحوال الذاكرين ينبغى التنبيه إلى أن الجماعة الإسلامية تبنى وجوديها المحلى والعالمى على ذكر الله، والشهادة بوحدانيته. فهى ليست جماعة تعتز بدم معين، أو يتعاون أبناؤها على تحصيل منافع معينة، لا..
إنها جماعة ربانية يعنيها ابتداء إقام الصلاة والهتاف باسم الله مع كل أذان، قبل طلوع الشمس وبعد الغروب. وجهادها الفذ هو لتأمين الطريق أمام كل راغب فى عبادة ربه، يجعل هذه الحياة الدنيا مهادا لما بعدها من خلود طويل.
العلو لاسم الله لا لفرد أو لجنس، فإن الله تعالى يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا). وكم كان سلفنا الأول جليلا ورائعا عندما طوف بالمشارق والمغارب كادحا لتكون كلمة الله هى العليا.
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
نشر في 09 تموز 2018