1662 مشاهدة
1
0
فى زحام الحياة والناس يلهثون وراء مآربهم القريبة والبعيدة، هناك أشخاص آخرون يصغون إلى نداء آخر يجىء من وراء القرون، ويتردد صداه على اختلاف الليل والنهار
كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 18 ] تأملات وخواطر فى مناسك الحج
فى معركة الخبز التى تسود الأرجاء، وترهق الأعصاب! وفى زحام الحياة والناس يلهثون وراء مآربهم القريبة والبعيدة! كان هناك أشخاص آخرون يخلصون بأنفسهم بعيدا، ويصغون إلى نداء آخر يجىء من وراء القرون، ويتردد صداه على اختلاف الليل والنهار!
إنه نداء قديم جديد! قديم لأن أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام أول من أعلنه، وصدع بأمر الله حين قال له: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق).
وجديد لأن خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله ـ صلى الله عيه وسلم ـ ندب إليه وقاد قوافله ووضع مناسكه وبين ما رصد الله له من جوائز، وربط به من منافع.. وكان آخر عهده بالجماهير الحاشدة وهى تصيح إليه فى حجة الوداع يزودهم بأحر وصاياه، وأحفلها بالخير والبر.
إن وفود الحجيج وهى تنطلق صوب البيت العتيق مخلفة وراءها مشاغل الدنيا، وهاتفة بأصوات خاشعة: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك، إن هذه الوفود تؤكد ما يجب على الناس جميعا لله سبحانه وتعالى، من طاعة مطلقة، وانقياد تام، وذكر وشكر وتوحيد وتمجيد.
هل العالم يتذوق هذه المعانى؟ ويستشعر حلاوتها؟ كلا، فما أكثر التائهين عن الله، والمتمردين على حقوقه! ما أكثر العابدين بغير ما شرع، والحاكمين بغير ما أنزل! إن هؤلاء العاصين نغمة شاذة فى كون يسبح بحمد ربه: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون).
دع هؤلاء التائهين، وأرمق الوفود المنطلقة صوب مكة تجأر بالتلبية، ويسيل بها البر والبحر والجو! إن جؤارها بالتلبية يصدقه كل شىء فى البر والبحر والجو! فالملبى حين يرفع عقيرته مناجيا ربه، ومصدقا أخاه، ومقررا أشرف حقيقة فى الوجود، يتجاوب مع الملكوت الساجد طوعا وكرها! أو يتجاوب مع الملكوت الذى يبارك رحلته ويحترم حجته.
وفى ذلك يقول الرسول ـ صلى الله عيه وسلم ـ: "ما من ملب إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا عن يمينه وشماله " .
ما هذا التأويب الذى يصحب سفر الحاج ومتقلبه بالليل والنهار؟ لقد ذكرت غناء داود بأمجاد الله، وكيف كانت ترانيمه تملأ الوهاد والنجاد، وتردد الجبال صداها تكاد ترق لخشوعها! وتصغى إليها الطير الغاديات الرائحات تكاد تهبط لعذوبتها.
يقول الله سبحانه فى ابتهالات داود: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب).
كذلك ترجع الأرض عن يمين وشمال هتاف الحجيج وهم يهتفون من أعماق قلوبهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ".
إنه هتاف ينفرد به أتباع محمد ـ صلى الله عيه وسلم ـ ، وحملة راية التوحيد! أما غيرهم فهم بين معطل ومشرك وجاحد منحرف.. إن لهم هتافا آخر يمثل عبوديتهم للتراب ولما فوق التراب من دنايا وخزعبلات.
وبعد أسفار تطول وتقصر يبلغ الحجيج مكة المكرمة ليطوفوا بالبيت العتيق، إنه المسجد الذى يستقبلونه فى كل صلاة، فيرونه ببصائرهم وإن لم يروه بأبصارهم! ولماذا يستقبلونه؟ لأنه أول بقعة وضعت فى الأرض ليعبد فيها الركع السجود ربهم وحده، مهدها الخليل إبراهيم عليه السلام بعد عراك طويل مع الوثنية المستكبرة العنيدة!
كان إبراهيم ـ عليه السلام ـ رجلا أعظم من ألوف الرجال أعلن الحرب على هذه الحجارة المقدسة، واشتبك فى خصام مر مع المتعصبين لها وهم كثير! فى طليعتهم أبوه وقومه! وأشرف على الموت فى هذا الصراع لولا أن الله أبقاه ليكمل رسالته..
فلما جاء إلى مكة بنى هذا البيت الشامخ، ودعا أن يحفه الله بالأمان، حتى لا يساور العباد القلق وهم بين يدى الله! ودعا أن يطهر الله القلوب من ظلال الوثنية. ودعا أن يكون من ذريته نبى يحرس الوحدانية وينشر العلم والتقوى، وأن يقود أمة تسلم لله وجهها وتخلص قلبها..
كيف لا يجىء المسلمون هنا وتاريخهم المادى والروحى يرتبط بهذا المكان، وذكريات الوحى الأول والخاتم ترف فى ربوعه كلها؟
إنهم يجيئون ليترجموا عن وفائهم ويقينهم، ولتبقى دورات التاريخ متصلة المبنى والمعنى، لا يمر عام إلا أقبلت الوفود من كل فج كأنها الحمائم تنطلق إلى أوكارها، يحثها الشوق إلى مهاد التوحيد وحصنه: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
وليس للطائفين بالبيت نجوى إلا مع الله وحده، شغلهم الشاغل ترديد الباقيات الصالحات، والتقدم بضعف العبيد إلى القوى الكبير أن يجيب سؤالهم ويحقق رجاءهم! ماذا يقولون؟ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر.. ثم يدعون: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
إننا نهدى هذه الكلمات الجليلة، وهذا الدعاء الرقيق إلى المستشرقين والمبشرين الذين يشيعون أن المسلمين يعبدون الكعبة! شاهت الوجوه! وبئسما افتريتم، إن المسلمين ما يعبدون إلا الله وحده ويرون ما فى الكون من ناطق وصامت عبدا لله وحده. وفى أداء مناسك الحج يقول الله سبحانه: (فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون).
إن الوفود القادمة من القارات الخمس على اختلاف لغاتها وألوانها وأحوالها يجمعها شعور واحد، وتنتظمها عاطفة دينية مشبوبة، وهى تترجم عن ذات نفسها بتلبية تهز الأودية! ويتحول ما أضمرته من إخلاص إلى هتاف باسم الله وحده، لا ذكر هنا إلا لله! ولا جؤار إلا باسمه! ولا تعظيم إلا له! ولا أمل إلا فيه! ولا تعويل إلا عليه.
إن المسافات تقاربت، بل انعدمت، بين ذكر لله يمر بالفؤاد كأنه خاطرة عابرة، وبين ذكر لله يدوى كالرعد القاصف من أفواج تتدافع إلى غايتها لا تلوى على شىء، ولا يعنيها إلا إعلان ولائها لله الذى جاءت لتزور بيته.
لقد رأيت فى العواصم الكبرى تظاهرات تطلب كذا، وتهتف لكذا! أين هذه من تلك؟ أين الثرى من الثريا؟ أن أولئك الحجيج المكرمين يحيون رب الأرض والسماء، ويوثقون علاقة العالم بسيده، ويؤكدون الوظيفة الحقيقية للإنسانية، وهل خلق الناس إلا لعبادة الله وطلب رضاه..؟
وفى يوم معين من السنة، ومكان مخصوص من الأرض، تلتقى الوفود المقبلة من المشارق والمغارب، تلتقى وفود الرحمن فى صحراء عرفة، فى ملابس لا تصلح لخيلاء ولا موضع فيها لزينة أو امتياز، الناس شعث غبر! تكسوهم سيماء العبودية والتجرد والافتقار إلى الله.
لقد حطوا الرحال هتا ليتفرغوا لتمجيد الله وتوحيده، وطلب مغفرته ورحمته! فى مكان وزمان معينين فرض الله على المسلمين من شاطئ الأطلسى إلى شاطئ الهادى أن يتلاقوا هنا ليعلنوا أساس حضارتهم وسياستهم، إنه التوحيد الذى جاهد المرسلون كلهم من أجله!
فلا عجب إذا كان الشعار المرفوع سحابة النهار، وزلفا من الليل "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير"
العرب والعجم والترك والهنود والزنوج وغيرهم وغيرهم من خلق الله يصرخون بهذا الشعار!
إن الأصنام القديمة سقطت، بيد أن أصناما أخرى ظهرت وسرقت أفكار الناس ومشاعرهم، وربما رأيت أفرادا وشعوبا يزحمون أرجاء الدنيا، ويحيون ويموتون ما يرفع أحدهم بصرا إلى السماء، ولا يرفع كف ضراعة إلى خالقه، لأنه لا يعرفه..!
إن الأمة الإسلامية وحدها هى التى ورثت الحقيقة، وعرفت العقيدة الصحيحة، وهاهى ذى ترسل وفودها إلى الأرضى المقدسة معلنة فى المكان والزمان اللذين فرضهما الله، أنه لا إله إلا الله.. عليها نحيا، وعليها نموت، وفى سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله.
ويوم عرفة فريد فى معناه ومظهره، لا تسمع فيه إلا تأوهات التائبين، وأنين الخاشعين، وضراعة المفتقرين، إنها الإنسانية المستجيرة بربها، النازلة بساحته مؤملة فى خزائن لا تنفد، وعطف لا يغيض.
ولقد جاء فى السنة الشريفة: "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهى بأهل الأرض أهل السماء، يقول: انظروا إلى عبادى جاءونى شعثا غبرا ضاحين ـ أى بارزين للشمس ـ جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتى ولم يروا عذابى.. فلم ير يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة" .
وفى حديث آخر: " ما رئى الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه فى يوم عرفة! لما يرى فيه من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام " .
إن إثراء الجانب الروحى هدف ظاهر من أعمال الحج وأقواله حتى تعود وفود الرحمن جياشة العواطف بحب الله وخشيته ، متآخية على تنفيذ وصاياه وإعظام حقوقه.. ولكن الجانب السياسى لا يمكن إهماله أبدا، إذ ما يصنع الحجيج عندما يعودون إلى بلاد اعتدى عليها المجرمون واستباحوا حرماتها؟ أو عندما يعودون إلى بلاد كثرت فيها الفتن وماج خلالها المستضعفون؟
إن الله سبحانه منح الأقوياء المعتدين فرصة التوبة إليه والإفراج عن عباده المأسورين! فإذا أبى أولئك انتهاز الفرصة فما العمل؟ (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق).
من أجل ذلك نزلت سورة براءة، وشاء الله أن تقرع مسامع الحجاج فى السنة التاسعة للهجرة كى يحددوا موقفهم ممن حاربوا الإسلام وظلموا أمته ودنسوا شعائره، ولم يحترموا يوما كتابه وسنته لقد قيل لأولئك الحجيج: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله).
نعم لا يجوز أن تترك هذه الحشود الهائلة يوم الحج الأكبر دون توجيه جامع تلقى به خصومها. صحيح أنهم فى محاريب ذكر، وساحات تسبيح وتحميد! وأوقات تبتل إلى الله ونشدان لرضاه!
لكن من قال: إن كسر العدو ليس عبادة؟ والسهر على هزيمته ليس تهجدا؟ إن صيحة الله أكبر تفتتح بها الصلاة لينأى بها المؤمن عن مشاغل الدنيا، ويفتتح بها الجهاد لتكون كلمة الله هى العليا، ولتجف بها دموع البائسين وآلام المستضعفين!
ومن هنا نفهم قول الله سبحانه للمحتشدين فى عرفات، ولمن وراءهم من جماهير المؤمنين فى كل مكان: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم).
الواقع أن آلام المسلمين قديما وحديثا متشابهة، والأحداث التى تنزل بهم شرقا وغربا تدل على أفئدة خربة ونفوس مظلمة! ويجب أن تتوحدجبهة الدفاع بعد أن اتفق المهاجرون على الكيد والتحدى. الحج عبادة تقيمها قلوب ساجدة وأيد مجاهدة، فهل نحسن الحج؟ أم نذهب ونعود ونحن لا ندرى؟
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
نشر في 09 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع