Facebook Pixel
طبيعة لم تغيرها عقودها
1237 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

جاء الإسلام بجملة من الضوابط الخلقية والفكرية لتبرئة التدين من هذا العوج، ولاستبقائه نقاوة فى الصدر وشرفا فى القصد واستقامة على النهج واستشرافا للرضوان الأعلى

كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 33 ] طبيعة لم تغيرها القرون

قديما، لما مس بنى إسرائيل الضر وطالت عليهم الأيام النحسات تحت حكم الفراعنة، قالوا لنبيهم الكبير موسى عليه السلام: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون).

واستمع موسى إلى شكوى قومه، وهو بهم خبير، وتساءل فى أعماقه: ترى ماذا تكون حالهم إذا ملكوا أزمة السلطة واستطاعوا تصريف الأمور؟ أيكونون خيرا من الفراعنة وأدنى إلى مرضاة الله؟ أم يكونون شرا من الفراعنة وأقبح سيرة وخلقا؟

ولم يصارح موسى قومه بما يدور فى نفسه، واكتفى بأن قال لهم هذه الكلمات: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)

وهى كلمات لها دلالات بعيدة تحمل قدرا غير قليل من الريبة فى مستقبل بنى إسرائيل لو حكموا ووقعت فى أيديهم مصاير الآخرين.. وشاء الله أن تزول دولة الفراعنة، وشاء أن تقوم لبنى إسرائيل ـ فى التاريخ القديم ـ دولة!

ونظر الناس إلى المستضعفين القدامى وقد أصبحوا سلاطين ينهون ويأمرون. وعجبت الدنيا لأن لونا آخر من الفراعنة قد برز، وصورة أخرى من الجبروت قد ظهرت.

إن اليهود لما حكموا تنفست فيهم غرائز الشر والجور، وسيطرت نوازع الأثرة والقسوة، وقطعت رؤوس أنبياء كرام، ورجال عدول! وأصبح لكلمات الشرف والوفاء رنين النقود المزيفة فاختفى التعامل بها على حين شاع الربا والخنا..

أكان موسى يخشى ذلك كله من قومه عندما قال لهم وهم تحت أقدام الفراعنة: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)

على أية حال أذن القدر لدولة بنى إسرائيل الأولى أن تقوم، وانتشى القوم بخمرة القوة فعربدوا ما شاءوا، وملأوا الأرض بالأزمات الروحية والخلقية ومفاسد الاستعلاء والهوى، ثم طويت رايتهم كما طويت راية الفراعنة من قبل، مصداق القانون الإلهى الصارم : (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين).

وتوارث الناس بعدئذ أن اليهود إذا ملكوا اختفت من الأرض العدالة والبركة، وأن عواقب نقضهم لعهد الله تتبعهم حيث كانوا.

نعم.. لقد أخذت عليهم المواثيق أن يؤمنوا فلا يكفروا وأن يصلحوا فلا يفسدوا وأن يعدلوا فلا يظلموا، والغريب أنهم يقترفون شر الآثام ثم يرتقبون جزاء المؤمنين والمصلحين الأوفياء..!

وتقوقع اليهود عمدا فى الحارات التى اختطوها لأنفسهم داخل المدن الأوروبية الكبيرة. وذلك كيلا تذوب شخصيتهم وسط الشعوب التى عاشوا بين ظهرانيها، وبقى لهم طابعهم الفذ المنحرف الذى يدعى الأصالة، أو الطريد الذى يدعى أنه المختار!

ومنذ حاولوا قتل عيسى ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ ظلت جراثيم الفتك بكل مصلح تسرح فى دمائهم، وتغريهم بأقبح الفعال. ولم يكن مستغربا أن تتنكر الدول الأوروبية كلها لهم على امتداد الأعصار والأمصار..

وإنما كان موضع الغرابة أن يستدير بنو إسرائيل إلى العرب فيبطشوا بهم، وينالوا منهم، ويمحوا معالمهم، ويدكوا قراهم، ويشتبكوا معهم فى صراع فناء!

والغرابة تجيء من أن العرب أحسنوا إلى اليهود، ولم يحاول حاكم عربى إبادتهم طوال القرون الماضية على حين حاول ذلك الأوربيون جيلا بعد جيل!

قال لى صديق ـ بعد أن ضرب اليهود المفاعلات الذرية ببغداد ـ : ليس هذا أول غدر للقوم ولن يكون الآخر! إن اليهود قتلوا عددا من علماء الذرة العرب، الرجال والنساء، قتلوهم فى معاهد العلم أو فى الفنادق التى ينزلون بها. وهم سيغيرون على أية عاصمة عربية أو إسلامية تخاصمهم دون رعاية لأى عهد دولى أو محلى! وصوت اليهود يعلو عن القيم والأخلاق أيام ضعفهم وحسب فإذا ملكوا القوة تحركوا فى كل اتجاه، وضربوا بكل سلاح.. وما دامت العصا التى تردع غائبة فلا شىء يمنع الغزو والسوط والتبجح والصياح.

إن القرآن وصف هذا المسلك الخسيس بأنه ليس سلوك بشر طيبين وإنما هو سلوك حيوانات شرسة: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون).

وعلاج هذه القطعان الخئون لا يكون بالهوادة والرفق، بل ارقبهم واستعد لهم فإذا تحركوا للغدر فاضرب من ظفرت به ضربة يطير لها قلب البعيد، وتنقض بها جموع الخونة: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين).

فى المأساة التى تمر بالعرب الآن لا ألوم إلا اليد العزلاء بين المخالب المفترسة، والعين الهاجعة بين العيون الخائنة، والصف المختل أمام جبهة متساندة من الجزارين العتاة.

قلنا إنه عندما يتحول التدين إلى حركات بدن، وإتقان شكل، فإن حقيقته تضيع وغايته تبعد أو تتلاشى. المعنى الأصيل للتدين أن يكون حركة قلب، ويقظة فكر، أما المراسم الجوفاء والصورة الشاحبة فلا دلالة لها على شىء، ومن عجز عن تصحيح قلبه ولبه فهو عما سواهما أعجز، ويوم يتولى عملا ما فى المجتمع فسوف يكون نموذجا للفشل لأنه لن يدفع تيارات الحياة إلى حيث يجب، بل ستدفعه هذه التيارات إلى حيث تشاء. وهنا الهزيمة الشنعاء للدين والدنيا.

والتدين المغشوش يبدأ بعقد صلح بين الهوى الخاص والتوجيه الأعلى، وبطريقة ما يبلغ المرء غرضه مع حسبان أنه لم يغضب الله! كذلك فعل اليهود عندما وجدوا السمك يجىء كثيرا يوم السبت ـ والصيد فيه حرام عندهم ـ ويكاد يختفى بقية الأسبوع.

وهكذا اختبرتهم الأقدار، فكيف يحتالون لصيد السمك الكثير دون العدوان على السبت؟ صنعوا حاجزا وراء السمك المقبل، وتركوه فى الماء وديعة محفوظة ثم استخرجوه يوم الأحد. (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون).

والحيلة مكشوفة، ولكن الشهوة الغالبة يعنيها فقط أن تمضى فى طريقها.

وقد جاء الإسلام بجملة من الضوابط الخلقية والفكرية لتبرئة التدين من هذا العوج، ولاستبقائه نقاوة فى الصدر وشرفا فى القصد واستقامة على النهج واستشرافا للرضوان الأعلى.

ويتجلى ذلك فى تصحيحه للمفاهيم الشائعة، أو فى تجلية معان قد يذهل عنها الجمهور الكبير لأنه مرتبط ذهنيا بالمعانى القريبة. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.. والغنى غنى النفس والطمع هو الفقر الحاضر..

إنك تلمح فى هذه التوجيهات كيف يتحول التدين من كمال نفسى إلى كمال اجتماعى، وكيف تنضح التقوى على البيئة فتملؤها بالنظام والعفة والأمان. ولما كان العرب تجارا يكرهون الكساد والإفلاس، فقد استغلت هذه الغرائز فيهم ليطلبوا الأشرف والأزكى، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم).

وجاء فى الحديث الصحيح هذا التساؤل الذى يحول الإيمان إلى سلام وشرف وخلق رفيع: "أتدرون ما المفلس. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتى وقد شتم هذا، وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا".

إنه مفلس، لأن عبادته كلها طاشت فلم تغن عنه شيئا بعدما اقتص رب العباد منه. إن التدين ليس شقشقة لسان، أو عادات أعضاء تلتوى وتنفرد، إنه قبل كل شىء قلب سليم وفكر مستقيم، ينشأ عنهما مجتمع كريم.

على هذه الطريقة فى تحديد المفاهيم الصحيحة، ولفت البصائر إلى حقائق أثمن. تأملت فيما ذكره البيهقى مرويا عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "هل تدرون ما الشديد؟ قلنا: الرجل يصرع الرجل! قال: إن الشديد كل الشديد الرجل الذى يملك نفسه عند الغضب. أتدرون ما الرقوب؟ قلنا: الرجل الذى لا يولد له! قال: إن الرقوب الرجل الذى له الولد ولم يقدم منهم شيئا ـ يعنى فى سبيل الله ـ قال: أتدرون ما الصعلوك؟ قلنا: الرجل الذى لا مال له. قال: إن الصعلوك كل الصعلوك الذى له المال لم يقدم شيئا ـ لله تعالى ـ ".

إن الشكليات التى أولع بها نفر قليل أو كثير من المتدينين لا تزيدهم من الله إلا بعدا، ولا تزيدهم للإسلام الحنيف إلا ظلما. فهل نعود إلى الحقائق المجردة نهتم بها ونعول عليها؟

----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
كلمة حرة
نشر في 10 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع