1432 مشاهدة
0
0
فى الثقافة والتربية والأخلاق، التربية المنشودة والحاجة إلى إحياء الثقافة الذاتية، من كتاب مشكلات في طريق الحياة الإسلامية
كتاب : مشكلات في طريق الحياة الإسلامية - تأليف : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 8 ] الفصل الثاني : فى الثقافة والتربية والأخلاق (2 من 2)
• التربية المنشودة
• الحاجة إلى إحياء الثقافة الذاتية:
وأشعر فى هذه الأيام بأن الحاجة ماسة إلى إحياء ثقافتنا الذاتية ، وتنقية جوها وتوسيع دائرتها ، فإن الاستعمار الثقافى الملحاح نجح فى إعطاب شخصيتنا المعنوية ، وفتنة ألوف مؤلفة من عقائدنا وعباداتنا وأخلاقنا ، كما نجح فى بلبلة ألسنتنا وطىِّ شرائعنا وتحقير شعائرنا ، ودفعنا فى المجتمع الدولى بلا صبغة حقيقية وهوية متميّزة ، وهذا هو الانهزام التام .
إن الرجل عندنا قد ينال أعلى الإجازات العلمية فى الطب أو القانون ، وقد يُّعيَّنُ فى أعلى المناصب بأوروبا وأمريكا ، لكن صلته بدينه صفر ، وعلاقته بجنسه هواء ، على حين يكون زميله اليهودى كالإعصار فى خدمة الصهيونية ، وزميله النصرانى أسرع من البرق فى خدمة الاستعمار ، فهل هذا المسلم البارد الشعور أوالمرتد القلب يُجدى على أمته شيئاً؟ إنه كالجندى المرتزق بسلاحه يخدم أى مبدأ على ملء بطنه وإيثار عاجلته ..
وانتشار التعليم المدنى فى بلادنا على أساس تجريده من ثقافتنا الذاتية ، وانتماء المحدَّد شىء يضر ولا يسرّ ، ويقلق ولا يطمئن . .
وعندما نعود إلى قواعدنا الروحية والفكرية لابد من تجنب محظورات كثيرة.
* العقائد عندنا أقلّ كمّاً وكيفاً من الكتب التى تعرضها ، ومجادلات الفراغ التى حفَّت بها والتى شعَّبت قضاياها دونما سبب . . وهى تُستفاد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فى وقت قليل ، والمهم أن تتشبث بالقلب ، وتتحول إلى قوة دافعة ، ونور يضىء الطريق . .
* العبادات وعلومها ليست بحراًّ طامّاً لا ساحل له . إنها فى ديننا سهلة الفهم والأداء ، ويوجد ناس يحبون أن يشرحوا الطهارة للصلاة فى شهر من الزمان ! إن هذا المسلك ضرب من البطالة المقنّعة ، وقد شاع فى عصور شتى اعتبار الكلام فى الإسلام هو العمل الأول والأخير به . وما كان سلفنا العظيم كذلك قط ، كان يتعلم دينه فى ساعات قلائل ، ثم يشق ميادين الحياة به مستبطناً روحه ، منطلقاً إلى أهدافه فى جد وصدق . نعم قد يوجد متخصصون فى دراسات معينة ، وللتخصص رجالاته ومطالبه، كأى ميدان علمىِّ آخر .
* بناء الأفراد على الأخلاق الفاضلة ، وبناء المجتمعات على التقاليد الشريفة ركن ركين فى دين الله ، والتربية كالزراعة و الصناعة عمل يحتاج إلى جهد طويل، وتشترك فيه عناصر كثيرة ، وليس كلاماً مرسلاً ، أو خطابة حماسية .
كيف نخلِّص النفوس من الحرص والحقد والكبر والرياء؟ كيف ننشىء ناساً يحبون الإتقان ، ويعشقون الجمال والإجادة ويرفضون الخلل والفوضى ؟ فى أمة يكره دينها الأمر الفرط ، لماذا ينتشر التسيُّب فى إداراتها ؟ وفى أمة يُبْنى فقهها على النظافة لماذا تنتشر القمامة والوساخة ؟
إن تقاليد الرياء تقتل الرجال والنساء فى أكلهم وشربهم ولباسهم وزواجهم وأحوالهم كلها ، أين السهولة والإخلاص والبساطة ، وديننا أساسه الفطرة ؟ ! .
أحياناً أنظر إلى حضارة الغرب فأجدها- على ما بها- أقرب إلى فطرة الله من ضروب التكلف والتزوير التى نمارسها بالليل والنهار. فنغضب ربنا ونشقى أنفسنا!. ما أفدح الثمن الذى تدفعه أمتنا للحفاظ على تقاليد ما أنزل الله بها من سلطان ، وعلى تزويق الظاهر مع خواء الباطن !
• التربية المنشودة :
إن التربية المنشودة ليست شيئاً سهلاً ، إنها معاناة وجهد يقوم بهما المربِّى والمربَّى معاً وتشترك فى تحقيق النتيجة عناصر أخرى ، فى مقدمتها : البيت والبيئة والسلطة الحاكمة ، كما يشترك الماء والشعَاع ، والحر أو البرد فى إنضاج الثمار . .
وعظة المنبر ، ونصيحة المدرس وحدهما لا تصنعان الناشئ ، وإن كان لهما أثرهما . إن علم المنطق ، كما عرفوه ، آلة قانونية تعصم الذهن عن الخطأ فى الفكر ، ومع ذلك فهذا العلم لا يصنع مفكراً .
وعلم العروض والقوافى قد يحصى بحور القصائد ، ويكشف ما فى التفاعيل من خبن وقبض ، وهيهات أن يصنع شاعراً.
وقد ألفنا أن نتلقى الدين كلاما أو رسوما ، بيد أن هذا التلقى لا يصنع زكاة الأنفس ، ولن تفلح نفس فقدت هذه الزكاة ، ولن يفلح امرؤإذا تحرك عقله تحركت معه قيود الخرافة أو الأوهام التى نسجها الخيال .
والعناصر المؤثرة فى التربية لابد من تجانسها وتناسقها ، أى : لابد أن ينتظمها ولاء واحد ، وأن تتدافع إلى هدف واحد ، فإذا كان البيت مسلماً ملتزماً بتعاليم الدين فإن عمله سيبطل أويضعف إذا كانت الحكومة علمانية والمدرسة مدنية.
والخلل الذى نلاحظه على المسلمين المعاصرين يعود كثِفْلٌ ضخم منه على هذا التقطع والتضاد فى وسائل التوجيه ، فإن الاستعمار العالمى استمات فى إقامة أجهزة اجتماعية واقتصادية وسياسية تضرب التربية الإسلامية بخبث وقساوة ، فما ينجو إلا من عصم الله .
وأكره أن أحمِّل الاستعمار كل هزائمنا المادية والأدبية ، وأن أفرَّ من تبعات التقصير الذى عرقل خُطاى من قديم ، إننا نحن المسلمين عُنينا بجانب من الأخلاق وأهملنا جوانب ذات بال ، وظننَّا أن هذا الإهمال يغفر أو يُجبر بالانتماء إلى عقيدة ما ، والمداومة على عبادة ما .
أخذنا من الأخلاق جوانبها القريبة ، فقد نفهم الأمانة على أنها الوديعة ، ونردّ ما استودعنا الآخرون إياه ، أما أن المنصب أمانة ، لا يجوز استغلاله لمأرب خاص ، ولا يجوز الإخلال بأعبائه الجسام فهذا شأن آخر . .!
ويغلب أن يكون طلب المنصب للاستغناء والاستعلاء ، والبحث عن الذات لا البحث عن مصالح الأمة . .
والصدق خلق معروف ، ويغلب أن نصدق فى القول لا فى العمل ، لأن الصدق فى العمل صعب ، إنه إحقاق الحق وإبطال الباطل ، والتزام السنن التى قامت عليها السماوات والأرض .
وقد يتقاضانا هذا أن ننتخب الأصلح ، ولو كان من غير قرابتنا ، وأن نؤثر بالوظيفة فقيراً ونطرح غنيّاً ، وليس يقدر على هذا إلا الرجال .
وحب النفس من طباع البشر ، فإلى أى مدى يهيمن هذا الطبع على مسالكنا؟ إن السيادة تقدم ، فيسبق الرجل المرأة ، ويتخطى الكبير الصغير ، ويتحرك هذا الشعور الهابط فى عشرات المعاملات ! الكل يقول : نفسى نفسى ! فهل هذا السلوك هو التفسير المنتظر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه "
هل وضعنا تنفيذا عمليا يكفكف شرور هذه الأنانية الصغيرة ويواري هذا الإحساس الحيواني في دماء الناس ؟
إن الله كتب الإحسان على كل شىء ، ونكاد نحن قد قررنا التقصير فى كل شىء !
وقد بحثت عن السبب وراء هذا الخراب النفسى ، وهُديتُ إلى شىء قد يكون الحق ، أو بعض الحق ، إن المغالاة فى تقدير الجانب الغيبىِّ من الدين تتم على حساب الجانب العملى أو الواقعى ، وهذا خطأ ! .
رأيت تاجرً يبيع السلعة لأحد الناس بأغلى من سعرها ، فقلت له : لِمَ تغبنُ هذا المشترى وهو مسترسل معك؟ قال : ألا تعرفه ، إنه فلان الذى ينكر كرامات الأولياء! قلت: ينكرها أو يقرها ، يجب أن تعامله بشرف ! قال : هذا قليل الدين و . . قلت له : ليكن يهوديّاً أو نصرانيّاً فاستغلاله لا يجوز ، والخداع حرام مع المؤمن والكافر . . أتظن إيمانك بالكرامات مُسقطاً لفضائل الأخلاق . !
ولاحظت أن شاباً يتكلم بحقد عن أحد الدعاة ، قلت : ما تنقم منه؟ قال: ما يعرف السنة ! ألا ترى إسباله لثوبه؟ وما يحسن الصلاة ! يقعد وقدماه على هيئة كذا ! قلت : تكره مسلماً وتتمنى له الشر لهذه الصغائر؟ إن تضخيم هذه الأمور دليل مرض نفسى ، ومعصية قلبك أبعد عن المغفرة من اضطراب مظهره ، ولعله أقرب إلى الله منك . . !
وعلى هذا النحو ترى رجلاً يتبع مذهباً فى العقيدة ، أو فى فقه الفروع ، فيحسب أن اهتداءه إلى هذا المعنى ، أو إلى هذا المسلك ، قد جمع له المجد من أطرافه ، فلا حرج عليه أن يتصرف كيف يشاء ، وكأنما قال الله له : افعل ما شِئْتَ فقد غفرتُ لك !! .
ومن هنا استهان كثير من الذاكرين أو الدارسين لبعض السنن ، بمعاقد الأخلاق وقواعد الآداب ، كما استهانوا بشئون الحياة ، وضبط مجراها ، وامتلاك زمامها ، فكانوا نكبة على الدين والدنيا معاً ، ولقى الإسلام على أيديهم هزائم نكراء !! .
والأمراض الخُلقية التى تصاب الأمم بها مع انتشار الفساد السياسى كثيرة ، وهى تختلف من عصر إلى عصر ، ولسنا بصدد إحصائها ، وإنما نتساءل فقط : ماذا يعنيه تزوير انتخابات فى قطرٍ ما ؟
إن هذا التزوير يُحدث دماراً أخلاقيّاً أوسع من الدمار المادىّ الذى يحدثه أى زلزال رهيب ! جيش من الرجال ذوى المناصب الكبرى والصغرى يتحول إلى خلية نحل فى مصنع للأكاذيب واسع الدائرة ، هادر الآلات ، يعاون بعضه بعضاً فى اختلاف الآراء وتسجيلها ، وتصعيدها وترحيلها من بلد إلى بلد ، ثم تلتقى آخر الأمر كما تلتقى شبكة المجارى القذرة لتخبر العالم كله أن فلاناً أحرز من أصوات الناخبين كذا وكذا . . ونجح نجاحاً كاسحاً . .!!
وعندما يُمسى الناس ويصبحون على هذا التكاذب المفضوح ، أيكون الصدق عملة رائجة أم مُزْجاة ؟ أتستقر فى المجتمع تقاليد الشرف أم تقاليد اللصوصية ؟ أيتقدم أهل الأدب والتقوى أم يُهال عليهم التراب ؟! .
إن دعائم التربية تحتاج إلى حراسة مشددة بعد أن يتم استنقاذها من هذا البلاء المبين ! . وعرض ثقافتنا الذاتية على الناس فى هذه الأيام ينبغى أن يصحبه ما اكتنفها على مرّ العصور . ونحن نذكر على عجل أن المسلمين فى العصر النبوى ، ثم فى عصر الخلافة الراشدة ، لم تكن لديهم هذه البحوث المطوَّلة فى أصول الدين وفروعه ، كانت آيات أو سور من القرآن الكريم ، وجملة من الأحاديث الصحيحة هى كل ما يعرفون ـ حاشا المتخصصين وأهل الفتوى ـ وكان فقه العبادات يتناقل بالأسلوب العملىِّ ، ثم يتوجه الجمهور بعد ذلك إلى الكدح والجهاد وإعلاء كلمة الله.
ثم استفاضت الدراسات الدينية ، وكثرت البحوث فى كل ميدان. تُرى هل هذه السعة للتحلِّى والتسلِّى أم لمزيد من الخشية والتقى . ؟
المقرر عندنا أن المرء مسؤول عن علمه ماذا عمل به ؟
والذى رأيته وأنا أعمل فى ميدان الدعوة من أربعين سنة أو يزيد ، أن أكثر هذه المعارف فضول ، وأن الناس يقبلون عليها تزجية للفراغ ، ومدافعة للبطالة ، وأن عشر ما يعلمون يكفيهم فى فقه الإسلام كله ، ويبقى عليهم بعد ذلك أن ينصرفوا إلى العمل المثمر .
والقرن الرابع عشر ينتهى ، ثم يجىء القرن الخامس عشر ، ومشكلات الأمة الإسلامية تتعقد وتتضاعف .
والليالى من الزمان حبالى .. مثقلات يَلِدْنَ كلَّ عجيبة !
الأعداء تنمو أطماعهم، وتربو ضغائنهم ، وتتقارب مسافة الخُلْفِ بينهم ، والتخلُّف الحضارى عندنا يثير الأسى ، ومع ذلك كله فإن بعض حملة العلم الدينى يَسْتَحْى من الآراء المدفونة ما يثير الغثيان ! .
وبدلاً من أن يُوجِّه شباب القرن الجديد إلى العمل المناسب لخدمة دينهم ، يديرهم فى حلقة مُفْرغة من القضايا التى أوجدها الفراغ أيام الفراغ.
قلت لواحد من هؤلاء : إن الفكر الدينى سَمِنَ ونما له كرش من هذه القضايا، وما تعود له صحته إلا إذا ذهبت هذه السمنة ، واختفى هذا الكرش ، واشتغل المسلمون بعلوم الحياة التى ينصفون بها دينهم المُحْرَج ، ويردون بها أعداء متوقحين .
وهنا نتكلم عن الثقافة الأخرى المقابلة لثقافتنا التقليدية ، أو العلم الذى لا وطن له كما يقال ! ..
لقد فكرت يوماً فى " المطبعة ومخترعها " ورددت لو أن هذا المخترع النابه رجل مسلم عربى أو غير عربى ، فإن المعروف لدينا أن أول كلمة فى وحى الله لنبينا (اقرأ) لكن هذا الجهاز بدأ ساذجاً فى الصين ، ثم تحسن كثيراً فى ألمانيا ، وبلغ حداً من الكمال فى هذه الأيام بعيدا عن أرض الإسلام.
تساءلت : لماذا ! إن هذا الاختراع وغيره ولد ونما بعيدا عن مجتمعاتنا ، فهل نحن بشر دون البشر؟
وسمعت صحافياً يقول عن خبرة : إن الصحراء الغربية مليئة بالنفط . فقلت : لماذا لا يستخرج؟ قال : إن الشركات الأجنبية ترجئ ذلك إلى حينه ! قلت : وما دخل الشركات الأجنبية؟ قال : هى التى تملك أدوات التنقيب ، وتتعرف بأجهزتها على الأماكن الحافلة بالمادة الثمينة ! وهمست إلى نفسى : ونحن لا نعرف الأماكن ، ولا نملك الأدوات ، لماذا ؟
ويجب أن نعرف الإجابة على هذه الأسئلة . إننا لسنا فوق المساءلة ! إن المسلمين الآن خُمْس العالم أو ربعه ، ولهم دينهم ودعاواهم وآمالهم ، لقد كان المفروض أن يكونوا للعالم مرشدين ، فماذا أزرى بهم؟ وكان مفروضاً أن تكون يده العليا بالعطاء الأدبى والمادى فماذا عراهم ؟
هل لدينا أثر فى هذا العجز؟ والجواب السريع : كلا كلا ، فما يوجد كتاب ينتمى إلى السماء فيه تنشيط للعقل ، وإطلاق للمواهب كالقرآن الكريم .
وماذا بْعد أن يقال للناس إن الله سخر لكم الكون كله ، سماءه وأرضه ، فاهبطوا واصعدوا وسيحوا وقرُّوا كيف تشاؤون . (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة )
هل المسلمون دون البشر ، ففى بصرهم قصر ، وفى هممهم بلادة ؟ كلا كلا ، فقد سادوا العالم كله أعصاراً ، ودخلوا فىِ عراك فناء أو بقاء مع أعتى أمم الأرض ، وخرجوا من ميادين الوغى منتصرين بعد جِلاد وحشىِّ !!
إذن ما السبب فيما عرا العقل الإنسانّى ـ بعد ـ من خمول ـ وما أصاب جماهير المسلمين من كَلال سلَّطَ عليهم ذئاب الأرض تنهشهم من كل جانب ، ذئاب الأرض؟ لا بل ذبابها . ! ؟
إن يهوديّاً من " لوس انجلوس " بالولايات المتحدة جاء إلى فلسطين يطلق الرصاص على أهل " الخليل " يريد استخراجهم من مساكنهم واحتياز الأرض لنفسه !
إن البغاث بأرضنا يستنسرُ !!
• أصبع الاتهام:
وأقول فى إيجاز وصراحة : إن أصابع الاتهام تشير إلى صنفين من الحكام والعلماء جرُّوا على أمتنا هذا التخلّف المهين خلال قرون متطاولة ، وكانوا السبب فى الأمراض التى أقعدتها فى وقت انطلق فيه أهل الأرض ينسفون العقبات ، فلم يكفهم أن بلغوا السحاب حتى غزو الفضاء ، ولم يكفهم أن بنوا الجوارى فى البحر كالأعلام حتى غاصوا فى أجواف البحار يحملون معهم " الرؤوس النووية " ذات الدمار الشامل.
فى رأيى أن الاستبداد السياسى من أول أسباب الشلل الفكرى عند المسلمين ، إنه ليس هيناً أن يسير الإنسان فى الطريق خائفاً يترقب ، فقد تهوى عصا على أمِّ رأسه تودى بحياته ، أو تناله صفعة على قفاه تودى بكرامته ، أو يُّؤخذ بتلابيبه فيرمى فى السجن لا يدرى شيئاً عن أهله وولده !!
إن الحاجة إلى الاستقرار النفسى كالحاجة إلى القوت ، وكان الخليل إبراهيم يقدر حقوق الإنسان الأدبية والمادية معاً عندما جأر ـ قبيل إنشاء مكة . (رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات)
والجندى المأمور بضرب الناس لا يبالى أن يسحق تحت حذائه أكبر مُخٍّ فى العالمين ، لأنه لا يميز بين مخ ومخ ، ولا يدرى إلا أنه مكلّف بالضرب ، إنه آلة بشرية فى يد جبار ..
وعندما يصف القرآن الكريم سياسة الفراعنة يسلك الآمر والمأمور فى نظام واحد : (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) قد يضفى على الجميع الطابع العسكرى القاسى : (هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود * بل الذين كفروا في تكذيب * و الله من ورائهم محيط)
المستبد لا يرى إلا نفسه ، ولا يبصر إلا مصلحته ، ولا يقرِّبُ منه إلا من يتملقه ويترضاه ، وأذكر أنه فى بقعة ما فى أرض الله ـ لا أقدر على تحديدها ـ ركب وزير مع رئيسه ، الذى كان يقود سيارته للتسلية ، فاصطدمت السيارة بشجرة على جانب الطريق ، ونزل الوزير مسرعاً ليقول لسيده : إن قيادتك للسيارة صحيحة ولكن الشجرة كانت تقف خطأ . !!
فى هذا الجو الكالح من الزلفى والاستعلاء تموت المواهب النفسية ، فإذا انضم إلى الاستبداد الأعمى تضييق فى الرزق ، وأضحى المال عطاء يمرّ من بين أصابع الفرد الحاكم ، فهو يقبض ويبسط ، فعفاء على الأخلاق والذمم . .
عندما كنت أقرأ قصة اختراع الآلة البخارية كنت أرى الشباب الإنكليزى يتابع ببصره رفع البخار لغطاء الآنية ، ويفكر بأناة فى استغلال هذه القوة لمصلحة البشر ، كان مطمئن البال وهو يتأمل ويستنتج ، إن أحداً لن يجرَّه إلى دار العمدة ليضرب مائة سوط على تصرفه ، إنه لن يقف أمام ضابط يقول له : فكر فيما ينفعك " يا روح أمك " كما يجرى على كثير من الألسنة فى الشرق الإسلامى ! كانت الكرامة الأدبية والمادية قد تقررت للجماهير فى بلده بثمن رهيب ، دفعه ملك إنجلترا من رأسه . !!
ولا أستطيع التوسع فى هذا البحث ، وحبذا لو تولت لجنة جامعية استقصاء آثار الحكم الفردى على الفكر الإسلامى فى شتى العصور .
***
أما دور المتحدثين فى الدين الذين وقفوا النشاط العلمى ، فيظهر أولاً فى البحوث الكلامية الغيبية ، والفروع الفقهية الوهمية ، والكراسات التى حفلت بحَشْو لا آخر له ، ثم عدَّت ذلك كله هو العلم الذى لا علم معه.
وبذلك قطعت الطريق على طب ابن سينا ، وكيمياء جابر ، وبصريات ابن الهيثم ، ولوغاريتمات الخوارزمى ، بل إن معرفة التقدم العلمى عند العرب لا تجد مراجعة إلا فى مكتبات الغرب ، وعند المنصفين من المؤلفين الأوروبيين ! .
أما جهود آبائنا فى الكون والحياة والطب والفنون الحربية فهى أقل من أن تذكر أو يؤرخ لها ! .
إن الجهاز العصبىَّ للإنسان يضنيه ما اخترعه الغلاة والمخرفون من عبادات وأوراد ، ولا يبقى له وقت يستجمُّ فيه ، ويعكف بعده على التأمل والاختراع ..
عندما يكلَّف مسلم ـ بعد ما ورد من أذكار اليوم والليلة ـ أن يقول : يا لطيف عشرة آلاف مرة ، فماذا يبقى له من فكر يكتشف به المجهود أو يخترع به شيئا . ؟
لو استراح فى نومه وقام ، يتدرَّب على عمل عسكرى فى البر أو البحر أو الجو ، لكان ذلك أجدى عليه وعلى الإسلام ، إن ربنا ـ تبارك اسمه ـ أعفى المجاهدين من قيام الليل حتى يوفر لهم القدرة على جهاد النهار ، وكذلك أعفى التجار حتى يتفوقوا فى الميدان الاقتصادى ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قام بالآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه.. " .
لكن الفكر العام عند جمهور المسلمين أن علوم الكون والحياة نافلة ، ونحن نستميت فى تفهيم الشباب الآن أن كلمة التوحيد مهددة ما لم نبرع فى هذه العلوم . !
وقد رأيت أحد طلاب الطب يقتنى أسفاراً ضخمة فى الفقه والحديث ، فأشحت عنها قائلا: أولى بك أن تقتنى هذه الأسفار الضخام فى المعرفة التى تخصصت لها ، لماذا لا تنافسون أطباء " لندن " و" باريس " فى رسوخهم وشموخهم بالمزيد من الاطلاع والتعمّق؟
وذكرت أن طبيباً شاباً من أصدقائى كان يتحدث مع أستاذ له فى " الخلية " فإذا الأستاذ يمد يده إلى رفًّ قريب ويتناول مجلداً كبيراً ويناوله الطبيب الدارس ، وإذا المجلَّد كله عن " الخليَّة " الحية وما أودع الله فيها من أسرار . .
إن ألوفاً مؤلفة من الكتب العلمية تساند الحضارة الحديثة ، وتضمن لها هيمنة على شئون الدنيا فى كل ناحية من نواحي الحياة ، والقوم يدرسون بعشق هذه المواد كلها فى الوقت الذى أجد فيه طالباً جامعيّاً فى إحدى الكليات العملية مشغولاً بالرد على الجهمية !!
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى
#مشكلات_في_طريق_الحياة_الإسلامية
نشر في 07 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع