1509 مشاهدة
1
0
إن إيتاء كل ذى فضل فضله أول مظاهر العدالة٬ ودعائم الاستقرار فى المجتمع، من كتاب حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة للكاتب محمد الغزالي
كتاب : حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة - تأليف : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 14 ] : الكرامة الاقتصادية (2 من 2)
ليس من الدين أن يمنح الموظف راتبا دون كفايته ٬ أو يعطى العامل أجرا دون مهارته ٬ ولو تم ذلك على أساس عقد مبرم بين الطرفين . فإن إرادة المحرج تنقصها الحرية ٬ ورضاه الظاهر إنما هو خضوع المحتاج لمن يملك البت فى أمره ..
والواجب أن يكون المرتب المبذول مكافئا للجهد المقدم ٬ قال تعالى: “ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها”.
إن إيتاء كل ذى فضل فضله أول مظاهر العدالة ٬ ودعائم الاستقرار فى المجتمع ٬ وللنفس البشرية حيل شتى فى الافتيات على الآخرين ومحاولة إرضاء الله فى الوقت نفسه فقد ترى الغنى يستأجر عاملا بعشرين قرشا فى حين أن الثمن الحقيقى لجهده خمسون قرشا ٬ ثم بعد أن يحبس لنفسه الثلاثين الباقية يتصدق بقروش قلائل ٬ على الفقراء والمساكين ٬ ويشعر بعد العطاء الذى أسداه أنه رجل صالح أرضى الله وأرضى العباد .
إن أغلب كبار الملاك ضاعف ثروته عن هذا الطريق وما نحسب هذا إلا ضربا من أكل أموال الناس بالباطل .
والتواءات السلوك الإنسانى كثيرة ٬ ونحن نرى أن العليم بذات الصدور جل شأنه لا ينطلى عليه هذا العوج . ولو أنه أعطى الكادح حقه كله لكان ذلك أجدى عليه وأرضى لربه .
ونعود لضرب الأمثال مرة أخرى حتى يتضح هذا الكلام .
هب أن الحضرى الذى نهاه رسول الله ` صلى الله عليه وسلم ` عن تلقى الركبان ٬ تمكن من استغفال الباعة من البدو ٬ واشترى منهم بضائعهم بنصف ثمنها ٬ أيغنى عنه فيما ارتكب أن يتصدق على الفقراء ببضعة دراهم ؟ كلا ٬ لقد تصدق بما لا يملك ٬ لقد تصدق بجزء من مال كان يجب أن يرده كله للبائع المغبون .
كذلك الأمر فى بخس العاملين حقوقهم التى يجب أن يستوفوها كاملة !!.
وهنا يجئ سؤال وجيه : كيف يقدر الأجر العادل ؟
والجواب : أن ذلك ليس أمرا مستحيلا إن صلحت النية وقدرت الحقوق لكن تقدير هذا الأجر يجب أن تراعى فيه عدة جهات :
أ - صاحب رأس المال الذى لا يجوز أن يهضم أو يجار عليه .
ب - المجتمع الذى ينبغى أن تقدم له السلع بثمن معتدل .
ج - العامل الذى لابد أن يحيا كريم الجانب مصون الحرمة .
والتقاء هذه الأطراف عند حل وسط يحل كل مشكلة . ونحن نعرف أن النزاع سيثور قبل الوصول إلى حل ٬ وأن الشح الذى أشربته النفوس الإنسانية سيطل برأسه من وراء شتى الرغبات .
إننى أكتب هذه السطور و 250 ألف عامل فى فرنسا يتحدَّوْنَ الدولة فى إضراب شامل لزيادة أجورهم ٬ وألوف العمال المشتغلين بطبع الصحف مضربون كذلك فى أمريكا منذ ستة شهور للغرض نفسه.
ولا عجب ٬ فإن الرغبة في رفع مستوى المعيشة لا يقف عند حد ٬ وأيا ما كان الأمر فإن هذه المنازعات سوف تنتهى عند تسوية مرضية أى عند سعر معين للعمل تقرره إرادات حرة متكافئة .
ومن الناس من يرفض مبدأ التسعير للجهود وللسلع رفضا مطلقا ويرى ترك الحياة الاقتصادية والاجتماعية تسير سيرها المعتاد ٬ وفق قوانين العرض والطلب وحدها. ويستدل لوجهة نظره بأن الرسول ` صلى الله عليه وسلم ` رفض التسعير قولا وعملا .
وندع للعلامة ابن القيم الرد على هذا الكلام :
" وأما التسعير: فمنه ما هو ظلم محرم ٬ ومنه ما هو عدل جائز ٬ فإذا تضمن ظلم الناس إكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه ٬ أو منعهم مما أباح الله لهم ٬ فهو حرام ٬ وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ٬ ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل ٬ فهو جائز ٬ بل واجب.
فأما القسم الأول: فمثل ما روى أنس قال: غلا السعر على عهد النبى صلى الله عليه وسلم ٬ فقال ناس: يا رسول الله.. سعرت لنا ؟ فقال: إن الله هو القابض الرازق ٬ الباسط المسعر ٬ وإنى لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبنى أحد بمظلمة ظلمتها إياه فى دم ولا مال ` . فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم ٬ وقد ارتفع السعر إما لقلة الشئ ٬ وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله ٬ فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها ٬ إكراه بغير حق .
وأما الثانى: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها ٬ مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة ٬ فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ٬ ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل ٬ فالتسعير ههنا إلزام بالعدل الذى ألزمهم الله به.. " .
ثم قال فى الاحتكار : " ومن أقبح الظلم: إيجار الحانوت على الطريق ٬ أو فى القرية بأجرة معينة على ألا يبيع أحد غيره ٬ فهذا ظلم حرام على المؤجر والمستأجر ٬ وهو نوع من أخذ أموال الناس قهرا ٬ وأكلها بالباطل ٬ وفاعله قد تحجر واسعا فيخاف عليه أن يحجر الله عنه رحمته ٬ كما حجر على الناس فضله ورزقه .
ومن ذلك: أن يلزم الناس ألا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون ٬ فلا تباع تلك السلع إلا لهم ٬ ثم يبيعونها هم بما يريدون ٬ فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب ٬ فهذا من البغى فى الأرض ٬ والفساد ٬ والظلم الذى يحبس به قطر السماء ٬ وهؤلاء يجب التسعير عليهم ٬ وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل ٬ ولا يشتروا إلا بقيمة المثل ٬ بلا تردد فى ذلك عند أحد من العلماء ٬ لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه ٬ فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاءوا أو يشتروا بما شاءوا ٬ كان ذلك ظلما للناس ٬ ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع ٬ وظلما للمشترين منهم .
فالتسعير فى مثل هذا واجب بلا نزاع ٬ وحقيقته: إلزامهم بالعدد ٬ ومنعهم من الظلم ٬ وهذا كما أنه لا يجوز الإكراه على البيع بغير حق ٬ فيجوز أو يجب الإكراه عليه بحق.
ونقول: إن تسعير السلع ربما استغنت عنه بعض المجتمعات الآن أعنى المجتمعات التى نضجت فيها الحرية إلى مدى واسع. أما تسعير الأعمال فلا غنى عنه فى أى مجتمع ٬ والحكومات تربط موازناتها فى أنحاء الأرض على أساس تحديد رواتب لمتستخدميها من الوزير إلى كانس الطريق. أى أن الأجور توضع ابتداء للأعمال المطلوبة ٬ ثم يبحث بعدئذ عمن يقوم بها ٬ فيستحقها لقاء ما قدم ٬ وكذلك الشركات المختلفة . والعمال ينتظمون فى نقابات تحرس مصالحهم كى تمنع عنها شرور المساومات..
وهذا التحديد للأجور يمنع الغبن ويرفع النزاع أو يضبطه تبع قواعد معقولة .
حق التملك للكسب الحلال ثابت لا ريب فيه ولا يجوز لفرد أو لأمة التعرض لهذا الحق بأى لون من ألوان العنت أو المصادرة ٬ ولا تزول الملكية عن صاحبها إلا بسبب مشروع كالبيع ٬ أو الإرث أو ما شابه ذلك مما أحصته احصاء شريعة الله.
“يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل”.
“ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما”.
“ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون” .
وقد احترم الإسلام حق الملكية احتراما تاما ٬ وأقر تصرفات العقلاء فى أملاكهم فلم يعترضها ٬ إلا أنه أثقل هذا المبدأ بالواجبات الاجتماعية النبيلة حتى يكون المال فى يد صاحبه مصدر خير له وللناس .
وسوف نفصل هذه الواجبات فى البحث اللاحق .
ولكن قبل أن نخوض فى هذا البحث يجب أن نقول : إن الإسلام تجاوب مع الطبيعة الإنسانية فى إقراره لحق التملك فغريزة الاقتناء من الغرائز الأولى فى الناس ٬ ولا معنى لمصادرتها ٬ وقد نهض العمران البشرى على نشاط هذه الغريزة الأصلية.
وبعض الفلسفات المادية أنكرت حق التملك على الأفراد ٬ وزعمت أن الملكية الفردية سر التظالم الذى شقيت به البشرية من قديم العصور .
ولو كانت الملكية الفردية كما يصفون لحاربناها دون هوادة ٬ إن الشيوعية التى تستهدف إسعاد الطبقات الدنيا من العمال والفلاحين لم تسق لهؤلاء البائسين ما منتهم به من سعادة.
والواقع أن الهوان الذى يلقاه الفلاح فى ظل مالك الأرض المستبد هو الهوان الذى يلقاه الفلاح فى ظل مدير المزرعة الجماعية.. إنه آلة وآلة هناك . وعند التأمل الصادق لا نرى الشيوعية المستبدة إلا صورة أخرى للرأسمالية المستبدة .
أما حق التملك المقرون بمرح الحرية ورحابتها فهو مع القيود التى فرضها الدين عليه مصدر رخاء عريض لأصحابه. ولجماهير العمال والفلاحين.
ومن لعمال روسيا بحقوق العمال فى أمريكا وأوروبا ؟ إن الحرية صمام الأمن للمجتمعات كلها ٬ وهى الوسيلة الفريدة لمحاربة ما يقع من أخطاء ومن مظالم . ومع أننا نحارب النظم الإقطاعية والرأسمالية التى عانى العالم منها الكثير إلا أننا نظن العامل قد يجد فى كنفها ما لا يجده فى كنف الشيوعية الكافرة ..
لماذا كان سواد الأمة قرير العين حقا فى ظل النظام الشيوعى فلماذا لا يتاح حق التصويت الحر لهذه الجماهير كى تبدى رأيها وتختار حكامها ؟ لنعد من هذا الاستطراد إلى ما نحن بصدده .
إن المالك أحرص أهل الأرض على تثمير ماله وزيادة إنتاجه. فإذا ملك هذه الحرية فإن ثمرتها عليه وعلى الشعب أجمع .
ومع توفير الضمانات التى شرحناها آنفا لتأمين العمال على حاضرهم ومستقبلهم لا يبقى مكان لتبرم بمبدأ الملكية . لكن هناك ثغرات أخرى لابد من الالتفات إليها والمسارعة بسدادها.
هناك من يريدون العمل ولا يجدونه . فهل يتركون لتأكلهم البطالة ؟ وهناك من يعجزون عن العمل من النساء والأطفال والشيوخ والمرضى فمن لهؤلاء ؟ إن الإسلام لا يدع أبدا أحد هؤلاء صريع البأساء والضراء ٬ لقد أوجب الزكوات والصدقات والضرائب حتى يتماسك المجتمع كله فلا يبقى فيه ضائع ولا محروم .
والدولة فى نظر الإسلام مكلفة بحمل هذه الأعباء جميعا . ولم نعرف نظاما اجتماعيا سبق الإسلام إلى تقرير كل هذه الحقوق .
قال ابن حزم فى كتابه ` المحلى ` : ` وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ٬ ويجبرهم السلطان على ذلك. إن لم تقم الزكوات بهم ٬ ولا فى سائر أموال المسلمين بهم .
فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذى لابد منه ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك ٬ وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة .
برهان ذلك قول الله تعالى : “وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل” .
وقال تعالى: “وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم” .
فأوجب تعالى حق المساكين وابن السبيل وما ملكت اليمين مع حق ذى القربى وافترض الإحسان إلى الأبوين وذوى القربى والمساكين والجار وما ملكت اليمين ٬ والإحسان يقتضى كل ما ذكرنا ومنعه إساءة بلا شك .
وقال تعالى: “ما سلككم في سقر ٬ قالوا لم نك من المصلين ٬ ولم نك نطعم المسكين” . فقرن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة .
وعين رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة فى غاية الصحة أنه قال: ` من لا يَرْحَم لا يُرْحَم ` .
ومن كان على فضلة ورأى أخاه المسلم جائعا عريانا ضائعا فلم يغثه ٬ فما رحمه بلا شك .
وحدث عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق: أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء ٬ وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “ من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث” .
“ ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس” . وهذا نفس قولنا . وأخبر عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه “ .
فمن تركه يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد ظلمه وأسلمه .
وعن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ` من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ٬ ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له . قال : فذكر من أصناف المال ما ذكر. حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا فى فضل “.
وهذا إجماع من الصحابة رضى الله عنهم كما يخبر بذلك أبو سعيد . وبكل ما فى هذا الخبر نقول .
ومن طريق أبى موسى عن النبى صلى الله عليه وسلم : ` أطعموا الجائع وفكوا العانى` .
والنصوص من القرآن والأحاديث الصحاح فى هذا تكثر جدا .
قال عمر بن الخطاب: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين . وهذا إسناد فى غاية الصحة والجلالة .
ويقول على بن أبى طالب كرم الله وجهه : إن الله تعالى فرض على الأغنياء فى أموالهم بقدر ما يكفى فقراءهم. فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء ٬ وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه .
وعن ابن عمر أنه قال : فى مالك حق سوى الزكاة . وعن عائشة أم المؤمنين والحسن بن على وابن عمر أنهم قالوا كلهم لمن سألهم:يعنى المساعدة إن كنت تسأل فى دم موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع ٬ فقد وجب حقك. وصح عن أبى عبيدة بن الجراح وثلثمائة من الصحابةرضى الله عنهمأن زادهم فنى فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم فى مزودين ٬ وجعل يقوتهم إياها على السواء.
فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة رضى الله عنهم لا مخالف لهم منهم . وصح عن الشعبى ومجاهد وطاووس وغيرهم. كلهم يقول: `فى المال حق سوى الزكاة ` .
وما نعلم عن أحد منهم خلاف هذا. إلا عن الضحاك بن مزاحم فإنه قال: `نسخت الزكاة كل حق فى المال `.
قال ابن حزم: وما رواية الضحاك فكيف رأيه !؟ والعجب أن المحتج بهذا أول مخالف له ! فيرى فى المال حقوقا سوى الزكاة ٬ منها النفقات على الأبوين المحتاجين ٬ وعلى الزوجة ٬ وعلى الرقيق ٬ وعلى الحيوان ٬ والديون والأروش ٬ فظهر تناقصهم !!
فإن قيل :
1 - قد روى عن ابن عباس قال: من أدى زكاة ماله فليس عليه جناح أن لا يتصدق .
2- وأنه قال فى قوله تعالى: “وآتوا حقه يوم حصاده” نسختها العشر ونفس العشر.
فنقول: أن الرواية الثانية ساقطة لضعف راويها ٬ وليس فيه الو صحت خلاف لقولنا . وأما الرواية الأولى فإنما هى أن لا يتصدق تطوعا ٬ وهذا صحيح.
وأما القيام بالمجهود ففرض ودين وليس صدقة تطوع . ويقولون: من عطش فخاف الموت ففرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده ٬ وأن يقاتل عليه . فأى فرق بين ما أباحوا له من القتال على ما يدفع به عن نفس الموت من العطش ٬ وبين ما منعوه إياه من القتال عن نفسه فيما يدفع به عنها الموت من الجوع والعرى ؟!
وهذا خلاف للإجماع وللقرآن وللسنن وللقياس . ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير ٬ وهو يجد طعاما فيه فضل عن صاحبه لمسلم أو لذمى ٬ لأن فرضا على صاحب الطعام إطعام الجائع ٬
فإذا كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير ٬ وبالله التوفيق.
وله أن يقاتل عن ذلك ٬ فإن قتل فعلى قاتله القود ، هان قتل المانع فإلى لعنة الله ٬ لأنه منع حقا ٬ وهو طائفة باغية .
قال تعالى: “فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله” . `
ومانع الحق باغ على أخيه الذى له الحق . وبهذا قاتل أبو بكر الصديق رضى الله عنه مانع الزكاة . وبالله التوفيق `.
***
أسمعت هذا الكلام الصارم ٬ ووعيت ما تضمن من تعاليم ؟
إن على الإنسان أن يقاتل دون حقه فى الحياة ٬ ودون كرامته أن تجرح ٬ وله باسم الله أن يقاوم ظالميه حتى الرمق الأخير فإما عاش سعيدا ٬ وإما مات شهيدا
ولكن الغريب أن تسمع بعد هذا البيان الحاد نباح كاتب من هؤلاء التائهين الحمر يقول لك: إن الدين أفيون الشعوب أى دين أيها البله ؟؟.
إن الإسلام نمط آخر فى الفكر والحياة فوق ما تعلمتم وفوق ما تعرفون . ماذا يفعل الإسلام بعد هذا الذى تبينته من كلام أئمته ؟ العامل يصان ويضمن أجره. والعاجز يعان ويحفظ وجهه . “فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون” .
ومجتمع تساق فيه العدالة إلى طالب ٬ والمرحمة إلى مستحقها مجتمع تنقطع منه الشكاة ٬ وتسوده الطمأنينة .
روى المؤرخون أن يحيى بن سعيد قال : بعثنى عمر بن عبد العزيز عاملا على صدقات أفريقية ٬ فاقتضيتها وطلبت الفقراء نعطيها إياهم ٬ فلم نجد بها فقيرا ٬ ولم نجد من يأخذها ! لقد أغنى عمر الناس ...!! فماذا يصنع الوالى بهذه الزكاة المجموعة ؟
قال: اشتريت بها عبيدا وأعتقتهم ٬ وجعل ولاءهم للمسلمين . كم تظن مدة خلافة عمر بن عبد العزيز ؟ إنها ثلاثون شهرا ٬ سنتان ونصف لا غير أقامها الرجل على العدل والرحمة ٬ فاستفاض الخير فى الناس ٬ فما وجد فى الجماهير التى تعمر الأرض بين المحيطين من يشكو ... كان الخليفة الراشد عند أمل الناس فيه ٬ أو عند تكليف الإسلام له : أبا برا لكل فقير ٬ وسنادا قويا لكل ضعيف .
واسمع إلى الشاعر جرير ٬ يصف فعاله للقبائل الضاربة فى فجاج الصحراء البعيدة :
كم باليمامة من شعثاء أرملة .. ومن يتيم ضعف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفى فقد والده .. كالفرخ فى العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأن به .. خبلا من الجن أو مسا من البشر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا .. من الخليفة ما نرجو من المطر
أتى الخلافة أو كانت له قدرا .. كما أتى ربه موسى على قدر
هذى الأرامل قد قضيت حاجتها .. فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وعمر لا يهتم لمدائح الشعراء ٬ ولا ينخدع بها ٬ وعندما سمع هذا التساؤل أمر بإعطاء جرير ٬ مائة درهم لفقره لا لشعره
• أوقات الراحة والفراغ :
عندما ترنو ببصرك إلى الحقول الخضراء وهى تهتز بسنابل القمح أو لوز القطن لا يجهدك أن تعرف أن فى هذا غذاء بنى آدم ٬ وأن فى ذلك كساءهم .
لكن هل الأرض لا تثمر إلا ما يسد هذه الضرورات التى لابد منها للناس ؟ لا.
إننى جلت فى أرجاء البساتين فوجدت عشرات من الأزهار والورود أبرزتها قدرة الصناع لا لشئ إلا لتكون أمام الناس منظرا رائقا ٬ يبهر النفوس بما ضم من ألوان وأصباغ ..
إن الدنيا ليست هذه الضرورات التى يكدح الناس وراءها . إنها إلى - جانب ذلك - هذا المتاع النفسى الذى يشرح الصدور ٬ ويثير فى البشر مشاعر الإحساس بالجمال.
وقد أوح الله فى هذه التربة الخصبة الأمرين معا. ما يحصد من حبوب ٬ ويجنى من فاكهة ٬ وما يشيع السرور فى أرجاء القلب من جمال وانظر وصف القرآن الكريم لآثار المطر: “وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة” .
إن كلمة بهجة هذه رقيقة ساحرة ٬ يهب منها على المكدودين نسيم مائج بالسرور والمرح . وفيها تشويق للانتفاع بزينة الله التى أخرج لعباده. ليست الحياة مادة جامدة ٬ وضرورات كالحة.
إن المرفهات والمبهجات إضافات لا تستغنى عنها الحياة فى مسيرها ٬ كما لا تستغنى الإبل عن الغناء الرخيم من حاديها اللبق. والناسفى حرصهم على المالإنما يطلبون به المزيد من المتع ٬ ويريدون أن يلبوا أشواقهم النفسية والبدنية فى هذا المجال الفسيح .
وما نرى فى هذا حرجا ٬ إن وقف عند حدود الحلال الطيب ٬ وما أكثره وأرضاه لمن يحترم حدود الله . أثبت علماء النفس أن لكل إنسان طاقة معينة يستطيع أن يؤدى فى نطاقها ما يكلف به من أعمال تأدية حسنة ٬ فإذا تواصلت جهوده ونفذت طاقته وأدركه الكلال فإنه يفقد السيطرة على أعصابه ٬ ويفلت منه زمام التفكير ٬ وتكثر أخطاؤه ٬ حتى يصل إلى حد يصبح معه عمله إن استطاع عملا لا جدوى منه ٬ فالانقطاع عنه أفضل.
والإسلام فيما افترض على الناس من عبادات يرعى هذه الحقيقة ٬ ويأبى على المؤمنين أن يأخذهم الحماس فيكلفوا أنفسهم فوق وسعها ٬ ثم تكون العقبى أن يتأدى بهم النصب إلى التعب ثم إلى الانقطاع. وفى هذا يقول صلى الله عليه وسلم : ` إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى”.
إن التعبد الحق أن يحسن الإنسان قياد نفسه فلا يجشمها ما تقبله اليوم وتنفر منه غدا.
ثم ما قيمة هذا التشديد إذا كانت معاملة الإنسان لربه ستكون صادرة عن فؤاد مرهق ٬ وذهن مغلق ؟ وهل يثمر التعب إلا هذا ؟. قال أخى: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ٬ وجعل ممدود بين ساريتين ٬ فقال: ما هذا ؟ قال: لزينب تصلى ٬ فماذا كسلت أو فترت أمسكت به . فقال: ` حلوه… ليصل أحدكم نشاطه ٬ فإذا كسل أو فتر فليرقد ` .
وعن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: “ إذا نعس أحدكم فى الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ٬ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه “ .
وفى رواية إذا نعس أحدكم وهو يصلى فلينصرف فلعله يدعو على نفسه وهو لا يدرى ` .
وعن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ` إذا نعس أحدكم فى الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأه`.
وحدث سهل بن أبى أمامة عن أبيه أنهما دخلا على أنس بن مالك وهو يصلى صلاة خفيفة ٬ كأنها صلاة مسافر أو قريبا منها . فلما سلم قال له أبو أمامه : يرحمك الله ٬ أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شىء تنفلته ؟ قال: إنها المكتوبة ٬ وإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ٬ ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه.؟
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ` لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم ٬ فإن قوما شددوا على أنفسهم ٬ فشدد عليهم ٬ فتلك بقاياهم فى الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ` . فإذا كان الله قد استن لعباده الترويح والتيسير في شئون الدين .
فكيف يرضى لهم الإرهاق واللغوب فى شئون الدنيا . إن الراحة من حق النفس والبدن والأهل والولد .
وفى الحديث: ` إن لبدنك عليك حقا ` . إن الاستجمام من العمل خير وسيلة لاستئنافه بقوة أشد وعزم أحد . ولذلك قيل : من لا راحة له لا عمل له.
وجاء فى الأثر: ` روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة ٬ فإن القلوب إذا كلت عميت ` .
والنفوس تلتمس راحتها حينا فى أنواع التسلية من لهو ولعب . وحينا آخر فى العودة إلى مشاهد الطبيعة المجردة من ماء وخضرة .
ونحن كما قال أحد الأدباء بحاجة إلى أن نحدد وقتا للعمل الصحيح ووقتا للعب الصحيح .
فان من أدوائنا الموجعة الخلط بين العمل والعبث ٬ والمزج بين الحق والباطل .
وتحديد وقت للدعابة والهزل والغناء يعين على تنقية جو الإنتاج والكدح ٬ وتغليب طابع الجد والصرامة على جنباته .
إن المسلمين لما حرموا أنفسهم الاستماع إلى الغناء اللاهى ٬ حولوا كتابهم العظيم إلى نص يتلى بتطريب وألحان .
وجاء الصوفية فجعلوا الذكر ممزوجا بالنقر على الدفوف والنفخ فى المزامير !!. وهذا هو خلط الحق بالباطل فى أقبح صوره .
فإن القرآن لم ينزل لإطراب عشاق السماع كما يحدث الآن .
وذكر الله لا يصلح مع المكاء والتصدية . ولكن النفوس لما كانت مطبوعة على حب الغناء ٬ وقد أفتى الجهال بكراهيته ٬ رأت أن تحتال على بلوغ مآربها بهذا الأسلوب الذى أساء إلى الدين فجعله هزلا .
ولو أن الجماهير بدل هذا أشبعت طبيعتها من اللهو المباح ٬ ثم بنت صلتها بالقرآن على مدارسته للعمل به ٬ أو قراءته للتأدب بأدبه ٬ لكان ذاك أجدى على الدين وعلى الدنيا ....
----------( يُتبع )----------
#محمد_الغزالي #حقوق_الإنسان
نشر في 16 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع