1868 مشاهدة
0
1
الابتداع فى الدين نزعة تسيطر على نفر من المتدينين ، وتزين لهم أن يخترعوا من عند أنفسهم أفعالا وأحوالا ثم يجعلوها ضميمة، ويطلبون إلى الناس الأخذ بها
كتاب : دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين - تأليف : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 14 ] : معنى الابتداع وأنواع البدع
الابتداع فى الدين نزعة تسيطر على نفر من المتدينين ، وتزين لهم أن يخترعوا من عند أنفسهم أفعالا وأحوالا ثم يجعلوها ضميمة أو جزءا من الدين الإلهى ويطلبون إلى الناس الأخذ بها ، كما يأخذون ما جاء من عند الله سواء بسواء.
وقد رفض الإسلام "الابتداع " رفضا قاطعا للأسباب الآتية:
ا ـ إذا أقررنا هذه الضميمة الجديدة إلى الدين ، ورأينا الدين الأصيل محتاجا إليها حقا ، فمعنى ذلك أن الله أنزل الدين ناقصا ، وهذا باطل ، قال تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). وقال رسول الله : " إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" .
2 ـ إقرار هذه الإضافات التى صنعها الناس يعنى إعطاء البشر حق التشريع فى العقائد والعبادات وما إليها..
وهذا الحق انفرد به رب العالمين: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) وفى القرآن الكريم حملات شداد على من يحلون ويحرمون وينسبون إلى الله ما لم يأذن به: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم).
والزيادات المخترعة مرفوضة سواء ابتدعها أفراد أو مجامع ، إذ لا حق لأحد ابتداء أن ينشئ شريعة من عنده ، فإن ما ينشئه هو الهوى والضلال.
3 ـ انشغال العقل الدينى بالتحوير فى الدين أضر إضرارا بالغا بشئون الدنيا ، إذ إن المتدينين بددوا طاقتهم العقلية فى اختراع ما لا قيمة له ولا خير فيه ، والأصل فى شئون الدين الاتباع وفى شئون الدنيا الابتداع ـ لحديث أنتم أعلم بشئون دنياكم ـ ولكن هؤلاء المخبولين قلبوا الآية فطوروا تعاليم الدين وجمدوا شئون الدنيا ، وكان ذلك سببا فى تخلف الأمم وضياع رشدها..
4 ـ التعلق بالبدع المحدثة يتم على حساب السنن الأصيلة نفسها ، والذين يخترعون أشياء ليعبدوا الله بها يتحمسون لها وتكون أقرب إلى هواهم من التعاليم الثابتة عن الله ورسوله ، والجهد الذى يبذل فى أداء هذه المبتدعات قلما تبقى معه طاقة للقيام بما أمر الله ورسوله ، فما تنهض بدعة إلا على أنقاض سنة.
5 ـ طبيعة الدين العموم ، فقد وضع الدين كى ينتظم البشر كلهم ، والأثر النفسى الخاص لتألف ما لا ينهض حجة لتعميمه ، وأذكر أن أحد المتأدبين أرانى صلوات على رسول الله كتبها واستجادها ورأى نشرها بين الجماهير ، فلما قرأتها رأيت فيها عاطفة حارة،
فقلت: عاطفة مقدورة ، ورأيت فيها جملا غامضة ومتكلفة فلم أقف عندها طويلا ، وإنما قلت للمؤلف استبق ذلك كله لنفسك ولا تشغل به الناس.
قال: كيف؟
قلت: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم الناس كيف يصلون عليه فى أحاديث صحيحة ، ونفذ المسلمون ذلك بعد تحيتهم لله فى كل قعود أخير من الصلوات الخمس ، فلا مكان بعد ذلك لما ألفت!
قال: إنه يترك أثرا حسنا فى النفس.
قلت: فى نفسك أنت ، وليس من حقك أن تكلف الناس بما استحسنت ووقتهم ملك الله أولا ، وملكهم هم أخيرا ، وليس لك أن تستغله فى أمر من عند نفسك. إن الصلاة الواردة لا تستغرق نصف دقيقة ينصرف الناس بعدها إلى معاشهم ومعادهم ، وإذا كان ما ألفته يعجبك فاقرأه وحدك ، ولكن لا تجعل قراءته فريضة ولا نافلة ، فإن الفرائض والنوافل وضع إلهى ولا مجال لبشر هنا أن يلزم أو يستحب ، فليس لأحد من خلق الله أن يقول لعباد الله: شرعت لكم كذا وكذا ، ضموه إلى صلواتكم وزكواتكم ليكون إلى الله قربى.
وما الفارق بين شخص يضع حديثا وينسبه إلى رسول الله ، وآخر يضع مسلكا أو تقليدا أو عملا ما ثم يزعم أنه دين مستقيم وطريق إلى الآخرة؟ كلاهما قد اقترف أقبح الكذب.
• أخطاء نستلفت النظر إليها ونحذر منها :
إن المتدينين عندما يهن إيمانهم ويذهب رشدهم يرتكبون واحدا من ثلاثة:
الأمر الأول: أن يعطلوا النصوص ويميتوا أمر الله ، وهذا عصيان جرىء.
الأمر الثانى: أن ينقلب ترتيب التكاليف فى أذهانهم فيقدموا الصغير ويؤخروا الكبير وتضطرب أوزان الأمور ، فتراهم يتجاهلون العظائم ويتقعرون فى التوافه ، كهذا الذى سأل الحسن البصرى عن الصلاة فى قميص به دم البعوض!
فقال له الحسن : ممن أنت؟
قال: من العراق!
قال: تسألون عن دم البعوض ، وتستبيحون دم ابن بنت رسول الله؟!
وقد صور أبو الطيب المتنبى هذا الاعوجاج النفسى فى فهم الدين بقوله:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم؟! يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!
وذلك فى قوم يحسبون قمة التدين إزالة شعر واستبقاء شعر.
والأمر الثالث: أن يستحسنوا ويستقبحوا من عند أنفسهم لا من عند الله ، ويختلقوا بدعا كثيرة فى شئون الدين وأصوله وفروعه ، تعمل فى الدين عمل السرطان فى الجسم ، ما تزال تنمو حتى تجهز عليه.. والابتداع ، وإن كان مرفوضا جملة وتفصيلا ، إلا أنه متفاوت الخطر والضرر ، إذ هو كالعصيان لا يقبل شىء منه أصلا ولكن منه صغائر وكبائر ، وللصغائر حكمها وللكبائر حكمها.. ومن هنا فالحرب التى توجه ضد البدع الصغيرة دون الحرب التى تعلن على البدع الكبيرة ، والفزع من مرض كالزكام لا يبلغ الفزع من إحدى الحميات التى يغلى منها الدماغ.
وقد رأيت بعض المعنيين بالسنة يسوى بين الأمرين ، ويعامل المبتدع الصغير بنفس الشراسة التى يعامل بها المبتدع الكبير ، متعللا بالحديث "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار".
قلت له: أرأيت قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا). إننى لا أستطيع تطبيق الآية على مقترفى الصغائر ، وإن كانت لونا من العصيان.
وإذا كانت البدع متفاوتة الشر فلنعرف أقسامها كما ذكرها العلماء حتى نحسن الخلاص منها بالتى هى أحسن..
ونكتفى هنا بما تعم فيه البلوى. من البدع ما هو حقيقى ومنها ما هو إضافى:
الأول مثل الطواف ببعض الأضرحة على نحو ما يفعل الحجيج بالكعبة المشرفة. وظاهر أن جوهر هذه البدعة لا صلة له بالدين.
• البدعة الإضافية :
أما البدع الإضافية ، فهى أشياء دينية الأصل أتى بها على هيئة لم يقل بها الدين. فقراءة آيات من سورة الكهف مثلا حسن يوم الجمعة ، لكن جعل هذه القراءة من شعائر صلاة الجمعة ، وجمع الناس على سماع السورة أو بعضها قبل الصلاة لم يقع قط على عهد الرسول والسلف الأول.
ومثل تأليف أوراد خاصة لتلاوتها فى أوقات معينة وبأعداد معينة.. بحجة أنها ذكر لله مثلا أو صلاة على رسوله..
• البدع التَّركية :
ومن البدع ما هو فعلى وتركى ، والقاعدة الكاشفة لذلك أن ما تركه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع وجود الداعى وانتفاء المانع ، فتركه سنة وفعله بدعة!! كان الناس يموتون ، ولم يتجاوز الأمر عند موتهم الدفن بعد صلاة الجنازة ثم قبول العزاء على نحو عابر لا افتعال فيه.
وربما كلف جيران الميت بإعداد الطعام لأهله ، فإن مصابهم شغلهم عن إعداده لأنفسهم.
لكن مسلمى اليوم رأوا أن يجتمعوا عقب الوفاة فى أندية أو سرادقات يستمعون فيها إلى القرآن ، ويستقبلون فيها الوفود ، وتوزع فيها السجائر والأشربة ، ويتكلف فيها أهل الميت ما يبهظهم.
والجماهير ترى أن قراءة القرآن فى حشد يضم المعزين لا بد منه.
ولكن العلماء مجمعون على أن الرسول وصحابته لم يفعلوا هذا مع وجود الداعى له وهو الموت وطلب الثواب وانتفاء المانع ، فالأمن مستقر والتجمع سهل…
وما دام الأمر كذلك فالترك سنة والفعل بدعة. وكم سن أشياء لم يفعلها السلف الأول حرص المسلمون اليوم على إقامتها وإدامتها وكأنها دين ، بل قد تكون عندهم أهم وألزم من الدين الثابت الصحيح!!
والأستاذ حسن البنا رأى ـ فرارا من الاصطدام بحراس البدع الإضافية والتركية ـ أن يدخل الموضوع فى دائرة الخلاف الفقهى : والخلاف الفقهى يتحمل وجهات النظر المتباينة. ومن ثم لم ير حرجا من ترك مؤذن يضم الصلاة على رسول الله إلى ألفاظ الأذان! ولم ير حرجا من ترك الأسر الكبيرة والصغيرة تتكلف فوق طاقتها لأداء مراسم التعزية المخترعة..
والواقع أن صنيعه رضى الله عنه كان سياسة موقوتة لتجميع الأمة على أمهات الدين وقواعده المهددة ، فقبل المكروه اتقاء للحرام ، من باب ارتكاب أخف الضررين..
والحق أن البدع صغراها وكبراها لا يمكن إقرارها. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد عليه " ، وإن كان العلاج يحتاج إلى بصرة وأناة..
إن شر هذه المحدثات بعيد المدى فى المجتمع الإسلامى ، وأذكر أن موظفا فى فى دائرة عملى كان يغلبه النوم أحيانا كثيرة ، وعرفت أنه ينتمى إلى إحدى الطرق الصوفية ، فطلبت منه أن يطلعنى على الورد المقرر ، فلما استبنته وجدته يفرض ترديد عدد من أسماء الله الحسنى ، وبعض الكلمات والآيات بما يبلغ مليون كلمة كل ليلة ، فعرفت سر نوم المسكين وأشفقت أن يفقد يوما ما عقله.. وهذا الصنف من الناس يوشك أن يختفى لغلبة الحياة العصرية بصبغتها المعروفة…
ولكن الذين يريدون الأوبة إلى الدين يجدون فى طريقهم هذه الأوراد فينتقلون من ضلال إلى خبال…
وفى ذلك يقول الإمام الشهيد: "وكل بدعة فى دين الله لا أصل لها: استحسنها الناس بأهوائهم ـ سواء بالزيادة فيه أو النقص منه ـ ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التى لا تؤدى إلى ما هو شر منها". "والبدعة الإضافية والتركية والالتزام فى العبادات المطلقة، خلاف فقهى لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان ".
----------( يُتبع )----------
#محمد_الغزالي
#دستور_الوحدة_الثقافية_بين_المسلمين
نشر في 14 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع