1466 مشاهدة
0
0
إننا نحاول بشق الأنفس جمع الشتات وإحياء الموات.. وما ندرك سهما من نجاح إلا إذا أرينا الله من أنفسنا الصدق، من كتاب علل وأدوية للكاتب محمد الغزالي
كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 14 ] المعالم الأولى فى عظمة محمد صلى الله عليه وسلم
ملكتنى الدهشة وأنا أقرأ كيف أسلم عكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أمية، وكيف استقبل النبى الكريم بمشاعر الحفاوة والفرحة هذا الإسلام الذى تأخر كثيرا، وسبقته عداوات رهيبة.
أما صفوان فأبوه أمية بن خلف الذى تولى تعذيب بلال وكاد يزهق روحه تحت وطأة الصخر واللهب، والذى لم يدع بابا لإيذاء الإسلام ونبيه إلا ولجه! ولذلك لما رآه بلال فى (بدر) أسيرا صاح: أمية رأس الكفر! لا نجوت إن نجا! وأجهز عليه.
وأما عكرمة فأبوه فرعون الوثنية، وموقد العداوة والبغضاء ضد عقيدة التوحيد ومعتنقيها، وقد سماه المسلمون أبا جهل بدل اسمه القديم أبى الحكم لشدة ما يلقون من بطشه.
ولم يكن ابنه ـ حتى فتح مكة ـ خيرا منه! بل إن عكرمة وصفوان وآخرين من ذوى الشراسة والتعصب رفضوا السلام الممنوح لأهل مكة وقرروا المقاومة لآخر رمق.
فلما يئسوا من النتيجة تركوا جزيرة العرب فارين بكفرهم إلى أرض أخرى. ولكن لله قدرًا آخر، وهو أعلم بخلقه!
إن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ المنتصر لم يكن طالب ثأر، ولا ناشد قصاص، كانت الرغبة المستولية عليه أن يفتح أقفال القلوب، وأن ينقذ التائهين الحيارى، وأن يعالج الأخطاء القديمة بالرفق، وأن يلقى الأحقاد بالعفو، وأن يحبب الناس فى الإسلام، وأن تقر عيناه برؤيتهم يدخلون فيه أفرادا أو أفواجا.
إنه رحمة مهداة، إنه رسول يقود العباد إلى ربهم وليس بشرا ينزع إلى التسلط والجبروت، ما انتقم لنفسه قط، ولا طلب لها علوا فى الأرض.
ولنسرد الشواهد على ذلك من أحداث التاريخ..
جاء عمير بن وهب إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول له: يا رسول الله.. صفوان بن أمية سيد قومى خرج هاربا ليقذف بنفسه إلى البحر وخاف ألا تؤمنه! فأمنه فداك أبى وأمى، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " قد أمنته ".
لكن صفوان لم يطمئن، وطلب من عمير علامة تشعره بالأمان! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمير: " خذ عمامتى ـ التى كانت على رأسه يوم الفتح ـ فأره إياها ".
ورجع صفوان ، وحضر معركة حنين مع المسلمين، ورآه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند توزيع الغنائم يرمق بإعجاب واديا مليئا بالإبل والغنم! فقال له النبى الكريم: " يعجبك ذلك "؟ قال: نعم! قال: " هو لك ".
فقال صفوان: ما تطيب نفس أحد بمثل هذا العطاء إلا نفس نبى.. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
كان الرجل في ريبة من أمره، لعله كان يحسب محمدا صلى الله عليه وسلم طالب ملك أو عاشق مال وجاه! فلما رأى نفس النبى صلى الله عليه وسلم لا تطلع فيها ولا تعلق لها بشىء جل أو هان من هذا الحطام، أدرك أنها النبوة فأعلن للفور تصديقه بها.
يقول بعض المستشرقين: لم لم يعامل زعماء اليهود بهذه السماحة؟ ونجيب بأن صفوان وأشباهه كانوا فى عماية من أمرهم، وما انشرحت صدورهم للإيمان إلا بعد فترة طويلة أو قصيرة، أما زعماء اليهود فكانوا يعرفون النبى صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك فقد ظاهروا عليه الوثنيين مفضلين الشرك على التوحيد، ومرجحين مصالحهم الجنسية على الأرض والسماء، فكيف يترك هؤلاء؟
* * *
أما قصة إيمان عكرمة فهى أجدر بالتأمل الطويل، جاءت امرأته (أم حكيم) وكانت قد أسلمت يوم الفتح- فقالت: يا رسول الله.. هرب عكرمة، خائفا أن تقتله فأمنه! فقال: "هو آمن ".
وأدركت المرأة زوجها عند الساحل، وقد ركب سفينة يريد الإبحار بها بعيدا فنادته قائلة: جئتك من عند أوصل الناس، وأبر الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك، وعد معى فقد استأمنت لك رسول الله.
قال ابن عساكر: فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " يأتيكم عكرمة ابن أبى جهل مؤمنا، فلا تسبوا أباه! فإن سب الميت يؤذى الحى ولا يبلغ الميت ".
ولما أقبل عكرمة وثب إليه النبى صلى الله عليه وسلم، متعجلا ليس عليه رداء، من فرحه بمقدمه! وعرض عليه الإسلام، فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى الحق، وإلى كل أمر حسن جميل، قد كنت والله فينا- قبل دعوتك هذه- أصدقنا حديثا وأبرنا برا.
وأعلن الرجل إسلامه فى مشهد نابض بالصدق، كاشف عن مستقبل عامر بحب الله ورسوله.
وكان مطأطئا رأسه حياء من النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: يا رسول الله.. استغفر لى كل عداوة عاديتكها، أو مركب أوضعت فيه أريد إظهار الشرك والصد عن سبيلك.
فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له.. فقال عكرمة: أما والله ما أدع نفقة كنت أنفقتها فى الصد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها فى سبيل الله، ولا قتالا قاتلت فى الصد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه فى سبيل الله.
***
بهذا الخلق العظيم كان صاحب الرسالة الخاتمة يصنع السلف الأول إنه لم يصنعهم على هذا الغرار ليؤمنوا به وحسب، إنه يريد أن يؤمنوا وأن يحملوا إلى غيرهم الإيمان وأن يزيحوا من أمامه العوائق، إنهم بناة تاريخ مديد، ودعائم رسالة تستوعب الزمن كله.
إن صحابة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تشدهم إليه جاذبية معنوية كهذه الجاذبية المادية التى تربط الشمس بكواكبها وأقمارها، وتنظم ما أودع الله فيها من طاقة وضوء.
فلننظر كيف وفى عكرمة بعهده لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال التاريخ : عندما التقى الروم والعرب فى معركة اليرموك وضع خالد خطته على أن يتحمل قلب الجيش الإسلامى عبء المعركة، وأن يحتفظ هو بالجناحين ليلتف بهما حول الروم فى الوقت المناسب.
والروم أضعاف المسلمين أربع مرات، فكيف إذا تصدى لهجمتهم القلب وحده؟ كان الموقف صعبا جدا، وتهشمت صفوف أمام وطأة الرومان، وزلزلت أقدام البعض.
وهنا صاح عكرمة: قاتلت رسول الله فى مواطن كثيرة وأفر اليوم؟ ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فانضم إليه أربعمائة من طلاب الشهادة، ومن وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا، وقتل منهم خلق كثير.
بيد أن قلب الجيش صد الهاجمين حتى مكن خالدا من الإطباق عليهم بجناحيه فهزموا هزيمة محت دولة الروم من الشام كله.
ألا ترى التربية النبوية فى موقف عكرمة والرجال الذين آزروه؟
وانظر أثر هذه التربية فى موقف آخر، روى الطبرانى أن أبا بكر رضى الله عنه استنفر المسلمين لقتال أهل الردة، فساروا إلى اليمامة وكذابها مسيلمة وكانوا فى منعة وعدد وأهبة، فهزموا المسلمين ثلاث مرات.
فقال ثابت بن قيس، وسالم مولى أبى حذيفة: " ماهكذا كنا نقاتل مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعلا لنفسيهما حفرة فدخلا فيها وكان ثابت يحمل راية المهاجرين، ولم يترك الصاحبان العظيمان مكانهما حتى قتلا فيه.
أما عباد بن بشر من الأنصار فقد نادى فى قومه: احطموا جفون السيوف ـ اكسروا أغمادها ـ وتميزوا عن الناس، وأخذ يصيح أخلصونا أخلصونا.
فأحاط به أربعمائة من الأنصار ما يخالطهم غيرهم ، وزحفوا إلى الحديقة التى تحصن بها مسيلمة وأتباعه واقتحموا بابها، وتتابع أهل الفداء حتى احتلوها، وقتلوا الكذاب الذى أثار هذه الفتنة، ثم غسلوا الجزيرة غسلا من هذه الأقذار.
إن أعدادا كبيرة من أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذهبوا شهداء فى معارك الجهاد ضد الوثنيين والكتابيين، ولكن فناء فى الحق هو عين البقاء.
والدارس المحايد الذى يرى آثار النبوة فى شمائل أولئك الرجال الشجعان، إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ مات يقينا غير أن روحه بقيت يتحرك بها أصحابه فما غرسه فى دمائهم لم يذهب سدى.
لقد أشربوا منه حب الله، وطلب رضاه، والتمهيد للقائه، والشوق إلى جنته، فأقدرتهم هذه العواطف الجياشة على تهديم أسوار الباطل وكانت عالية. وتلاشت إمبراطوريات استعصت على الفناء قرونا متطاولة.
وتميز أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمرين لم يعرفا فى تاريخ النبوات الأولى.
لقد نقلوا الوحى السماوى كله فما سقط منه حرف، ونقلوا السنة المحمدية كذلك، وربوا من الأتباع من عمل عملهم، فإذا الإسلام يبقى فى أصوله النظرية مصونا من كل شائبة.
وظل هذا التواتر للقرآن الكريم كلمة كلمة، وللسنة فى الجملة، فتوفرت للرسالة الخاتمة عناصر الخلود، وظلت وسوف تظل كلمة الله الأخيرة للخلائق أجمعين حتى انتهاء الدنيا.
أما الأمر الآخر، فإن الصحابة رضى الله عنهم هم الذين جعلوا عالمية الرسالة حقيقة واقعة فإن النبى عليه الصلاة والسلام لحق بالرفيق الأعلى ودينه لم يتجاوز حدود جزيرة العرب، وقد علم الأصحاب الكرام أنه مبعوث للعالم كله، فشرعوا ينساحون فى الأرض مبشرين ومنذرين.
ولم يكن الطريق سهلا، فإن رعاع العرب داخل الجزيرة العربية حاولوا إعادة الليل المدبر وإحياء الجاهلية المسحوقة، كما أن مجوس الفرس وصليبيى الرومان اعترضوا بالعنف مسار الدعوة.
غير أن الجيل الذى رباه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان صلب المعدن، شديد البأس، جمع بين الصرامة والكرامة، فلم تلن قناته، ولم يضرع أمام قوى الباطل! إنه نازلها كلها حتى كسر شوكتها وأسقط دولتها.
إن تربية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الجيل معجزته الكبرى بعد القرآن الكريم، إنى أحس فى أولئك الأصحاب ذوب نفسه عليه الصلاة والسلام، ونبل شمائله، وعمق عبادته وحبه الجارف لذات الله واستعلائه الفذ على مآرب الدنيا.
وصحبة العظماء نعمة جليلة، إن ساعة مع جليس صالح تنفحك من خلائقه ما ينفحك حامل المسك، كما ذكر ذلك النبى الكريم، نعم.. قد تستفيد فكرة نيرة أو خلة طيبة، أو قدوة حسنة ذاك فى لقاء عابر، فكيف إذا طال اللقاء ودامت العشرة؟
ذكر مطعم بن جبير أن قلبه كاد يطير من الرغبة والرهبة والخشوع وهو يسمع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ بسورة الطور فى صلاة المغرب.
فكيف بمن صلى وراءه بالقرآن كله آلاف الركعات؟ وخالطه فى شئون حياته وتقلبه بين الناس؟
إنه جيل لا نظير له فى تاريخ الرسالات، وتعرف ذلك بالموازنة العادلة.
فـ (بطرس) أحد الحواريين الكبار، وقد صحب عيسى بن مريم طويلا ومع ذلك فعندما تعرض هذا النبى الكريم للاضطهاد، وشرع خصومه من اليهود والرومان يقاومون تعاليمه بغضب، وصدرت الأوامر للشرطة بمطاردة النصرانية واعتقال أتباعها وتعرض عيسى لحرج شديد!.. فى هذه الآونة ألقى القبض على (بطرس) وسئل: أتعرف عيسى بن مريم؟ قال: لا ! وأنكر عدة مرات أن ليس له به صلة.. لقد آثر النجاة بنفسه.
أذكر هذا الموقف الغريب وأقرأ هذه القصة، أسر المشركون زيد بن الدثنة، وساقوه إلى ساحة القتل، وأحاطوا به فى لحظاته الأخيرة ليشمتوا ويشتفوا! قال له أبو سفيان ـ والرمح موجه إلى بطن زيد ليغرس فى أحشائه ـ أنشدك بالله يا زيد.. أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك، ونضرب عنقه، وأنك سالم فى أهلك؟
قال زيد: والله ما أحب أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الآن فى مكانه الذى هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه، وإنى جالس فى أهلى.
قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا.
وقتل الصحابى الوفى المحب لله ورسوله، وهو الآن يمرح فى بحبوحة الجنة! جمعنا الله به، منة وكرما.
الفرق بين بطرس وزيد، هو الفرق بين أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسائر الناس، إنهم طراز آخر من البشرية الزاكية، ومن ثم قلنا: إنهم جزء من حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجهاده وزكاته ومجلى لأمجاد إنسان ضخم شاء الله أن يخرج العالم على يديه من الظلمات إلى النور.
والرجولة الجادة التى تميز بها أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حصنت دينه من التحريف، إن حاخاما مثل شاول تظاهر بالنصرانية، واستطاع أن يجعل التوحيد تثليثا، وأعجز الأتباع الذاهلين عن الاحتفاظ بما لديهم فضاع ولم يعثر له على أثر.
أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد يئس الشيطان أن يعبد فى أرضهم، أو يغير كلمة من وحيهم، كانوا أشداء فى صون الحق ودمغ الباطل! كانوا تلامذة أذكياء لنبى المرحمة ونبى الملحمة ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بث فيهم روحه فأضحوا وكأنهم صور مصغرة له.
من أجل ذلك غار عليهم ودفع عنهم وحمى أعراضهم، روى الترمذى عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " الله الله فى أصحابى، لا تتخذوهم غرضا بعدى! فمن أحبهم فبحبى أحبهم، ومن أبغضهم فببغضى أبغضهم! ومن آذاهم فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله! ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ".
والتعبير بالإيذاء ناضح بفظاعة الجريمة قال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا).
ولست أزعم ولا زعم غيرى أن الصحابة معصومون ولا أنهم فى الفضل سواء، وإنما أقرر أنهم صناعة سماوية عالية، وقد نجحوا فى تبليغ رسالة غيرت تاريخ العالم، وأن نظامهم الأخلاقى يضارع فى دقته القوانين العلمية. وأن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا غير هو الذى قدر ـ بفضل الله ـ على إحكام هذا الجيل، وإبداعه على هذا النحو.
والآيات الأخيرة من سورة الفتح أوضحت هذه المعانى بإيجاز: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا).
والإظهار المذكور يقوم على البرهان، وتجلية الحقائق وكشف الشبهات قبل أى شىء آخر. فإذا استنسر الضلال، واحتقر البرهان قامت الحرب..
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا .. فالحرب أجدى على الدنيا من السلم!
ثم يقول تبارك اسمه: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم).
لابد من الشدة فى وجه محاولات التحريف والكيد وإذلال الدعاة! لا عزة للفرعنة والإفساد! من الخير ألا تبقى جراثيم الحميات القاتلة حرة فى الفتك والاغتيال.
وإلى جانب هذا المسلك يجب أن يكون المرء حلو الشمائل دمث الأخلاق مع البرآء، والأخيار، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد حياء من العذراء فى خدرها فإذا انتهكت لله حرمة لم يقم لغضبه شىء.. وكذلك ربى أمته.
ويطرد وصف المؤمنين فيقول تعالى: (تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود).
الإنسان الصادق الشريف تبدو فى أساريره سيماء الصدق والشرف وتنطبع فى وجهه فسحة من أدب وخشوع، وتدبر قول الشاعر:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه .. ثمال اليتامى، عصمة للأرامل!
وبياض الوجوه وسوادها ليسا انتماء إلى جنس أبيض أو أسود، وإنما هما نضج الطوايا الطيبة أو الخبيثة، وما يكسوها من تهلل أو خزى.
والأمة الإسلامية أمة عبادة لله، ودعوة إلى هذه العبادة، وانشغال بتكاليفها بالغدو والآصال، وتوكل على الله، ورجاء فى بره وارتقاب دائم لفضله ورضاه.
قال تعالى: (ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل).
لا مكان هنا لذكر ما ورد من إرهاصات عن النبوة الخاتمة فى الكتب السابقة، بل نحن لا نعول عليها فى شىء! وإنما نتأمل فى ختام الآية، وكيف بدأت الأمة الإسلامية ضعيفة العود كالنبتة الخضراء الطرية لو داسها حيوان بظلفه لأماتها، ثم كيف نما هذا الزرع، وتحولت الساق الغض إلى شجرة باسقة وانضم إليها غيرها فإذا الحقل المتموج يتحول إلى غابة من الأشجار الباسقة، لو صعد الرجال على أغصانها لحملتهم.
هكذا كنا وهكذا صرنا ( كزرع أخرج شطأه ـ فسائله وسلالاته ـ فآزره ـ انضم إلى جواره مثيله ـ فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع).
فى صحراء الجزيرة المنقطعة عن الحضارات كلها صنع محمد عليه الصلاة والسلام أمة عجبا، قال العدو فى وصف مقاتليها: إنهم رهبان بالليل فرسان بالنهار.
هذه الكلمة تشير إلى طبيعة البناء الذى قامت عليه أمتنا. إنه من الداخل تعاون على البر والتقوى، تآخ فى السراء والضراء، ومن الخارج رباط مستديم لمؤازرة الخير ومدافعة الشر.
وميزة الرسالة التى اضطلعت بها أمتنا أنها لا تسكت عن معروف ولا تسكت على منكر، وأنها تشتبك باسم الله مع شياطين الإنس والجن لتكف بأسهم وتكسر عدوانهم.
ولولا ظهور الإسلام لبادت حقائق وفضائل، وصارت الإنسانية قطيعا آخر من الوحوش الضارية لا تتحرك إلا بغرائز السوء.
إن الأمة التى رفعت علم التوحيد هى وحدها التى قلمت أظافر القياصرة والأكاسرة والفراعنة، واحتضنت سواد الجماهير وقال نبيها لمن يريد طلبه: "ابغونى فى ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم " .
أين هذه الأمة الآن؟ وأين صوتها فى المجامع العالمية؟ وأين النماذج التى تقدمها لديننا العظيم؟
لا أقدر على الجواب! إننا نحاول بشق الأنفس جمع الشتات وإحياء الموات.. وما ندرك سهما من نجاح إلا إذا أرينا الله من أنفسنا الصدق.
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
نشر في 09 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع