1367 مشاهدة
0
0
إن الإيمان الصحيح المقبول يجئ وليد يقظة عقلية واقتناع قلبى٬ إنه استبانة الإنسان العاقل للحق، ثم اعتناقه عن رضا ورغبة
كتاب : حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة - تأليف : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 8 ] : الحرية الدينية
الإيمان الصحيح المقبول يجئ وليد يقظة عقلية واقتناع قلبى ٬ إنه استبانة الإنسان العاقل للحق ٬ ثم اعتناقه عن رضا ورغبة.
وقد عرض الإسلام نفسه على الناس فى دائرة هذا المعنى المحدد ٬ غير متجاوز له فى قليل ولا كثير.
قصاراه أن يوضح مبادئه ٬ وأن يمكن الآخرين من الوقوف عليها فإذا شاءوا دخلوها راشدين ٬ وإذا شاءوا تركوها وافرين. “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.
إن الحرية الدينية فى أرحب مفاهيمها هى التى حددت وظيفة صاحب الرسالة!
ما وظيفة صاحب رسالة يحترم هذه الحرية ويبنى عليها سياسته ؟
إنها لا تعدو الشرح والبيان ٬ واستخدام القلم واللسان فى تحبيب دينه للناس وترغيبهم فى قبوله.
وقد كان محمد ` صلى الله عليه وسلم ` مثلا فريدا فى سلوك هذا النهج .
إن الوحى الذى تنزل كان محور دعايته فهو يقرؤه على الناس ويسجله فى صحائف هادية لمن يرغب فى الاطلاع ..!
هذه هى خطته فى إبلاغ رسالته. “نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد”. “فذكر إنما أنت مذكر ٬ لست عليهم بمسيطر” .
وربما نفر من هذه الرسالة من لم يؤمن بألوهية قط ٬ وربما نفر منها عبدة الأصنام ٬ وربما نفر منها اليهود والنصارى.
ليكن فليأخذ كل امرئ وجهته التى ارتضاها أما أنت فاثبت على الهدى الذى شرح الله صدرك به. “فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير”
والقارئ اللبيب يرى أن الكتاب العزيز قد تناول المعارضين له والكافرين به بأساليب شتى ٬ ليس من بينها قط إرغام أحد على قبول الإسلام وهو عنه صاد ٬ كل ما ينشده الإسلام أن يعامل فى حدود النصفة والقسط ٬ وألا تدخل عوامل الإرهاب فى صرف امرئ انشرح صدره به.
ولم يكن على الإسلام من بأس ٬ ولن يكون عليه بأس أبدأ لو أصر ألوف المنتسبين إلى الأديان الأخرى على البقاء في معتقداتهم.
فكلمة: “لكم دينكم ولي دين” . وكلمة: “لي عملي ولكم عملكم” .
هذه الكلمات وأمثالها مما تردد فى صدر الإسلام هى التى ظلت تتردد فى أواخر العهد المدنى ويخاطب بها كل إنسان.
فالإسلام لم يفرض على النصرانى أن يترك نصرانيته ٬ أو على اليهودى أن يترك يهوديته ٬ بل طالب كليهما ما دام يؤثر دينه القديم أن يدع الإسلام وشأنه ٬ يعتنقه من يعتنقه ٬ دون تهجم مر أو جدل سيئ .
كن مسيحيا أو إسرائيليا ٬ ولكن لا تكن خصما للإسلام ونبيه وأتباعه تتمنى لهم الشر وتتربص بهم الدوائر .
وإذا استفحل فى نفسك الكره لهذا الدين ٬ فاحذر أن يتجاوز فؤادك إلى الحياة الخارجية عراكا مسلحاً ٬ وإلا فأنت الملوم .
واسمع إلى قول الله فى سورة البقرة يخاطب أهل الكتاب . “قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون” .
وفى سورة آل عمران: “وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد”.
وفى سورة النساء بعد ما ذكر تفضيل اليهود للوثنية على الإسلام قال لهم: “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا” .
وفى سورة المائدة وهى آخر السور نزولا تحدد وظيفة الرسول بهذه الآيات: “ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون” ويقول: “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين” .
فى سورة التوبة وهى التى أعلنت الحرب على طوائف من أهل الكتاب ترى السورة ختمت بهذا التوجيه . “فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم”.
لم يقل فإن تولوا فعليهم اللعنة ٬ أو لابد لك من مقاتلتهم حتى يتخلعوا عن دينهم ٬ ويدخلوا فى ديننا ٬ كلا.. إن توليتم فالملجأ إلى الله من كيدكم إن أغراكم الشيطان بكيد ٬ أو دفعكم إلى حرب.
والواقع أن الإسلام لم يشتبك فى قتال مع النصارى أو اليهود إلا بعد أن وصل هؤلاء وأولئك إلى منزلة فى السلوك والسياسة عريت عن الشرف والعدالة ٬ وبعدت عن مرضاة الله كما يصورها موسى وعيسى أنفسهما ٬ فهم تمردوا على أنبيائهم قبل أن يتمردوا على محمد ` صلى الله عليه وسلم ` وهدموا حدود الحلال والحرام كما ألت إليهم قبل أن يهدموا حدود الحلال والحرام كما بينها القرآن الكريم وكما شرحها النبى المتواضع النبيل محمد بن عبد الله ` صلى الله عليه وسلم ` ٬ وفى مثل هذه الحالات تكون موالاة الكافرين خيانة لمبادئ الحق ٬ ويكون النزول على إرادتهم تسليما مطلقا للباطل وأهله.
ومع ذلك ٬ فان القتال الذى وقع لم يشترط الإسلام لانتهائه شروطا تخرج الناس عن الحق كما يتصورونه ٬ وتدخلهم فى الحق كما يصوره. كلا. هناك شروط يرضاها الجميع ٬ وتتفق مع أفهام الفريقين المتنازعين مهما ضاقت أو اشتطت. هى العدل والرحمة ٬ ودائرة العدل والرحمة رحبة الآفاق ٬ واسعة الأقطار ٬ يتعاون فيها أهل الأديان جميعا على حسن الجوار ٬ وكرم اللقاء بل إنها تتسع للمؤمنين ٬ ولمن لا يدين بدين.
إن الحرية الدينية التى كفلها الإسلام لأهل الأرض لم يعرف لها نظير فى القارات الخمس ٬ ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة ٬ ومنح مخالفيه فى الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار مثل ما صنع الإسلام .
وقد كانت أوروبا وهى أرقى هذه القارات فى العصر الأخير من النماذج الرديئة لحرية التدين ٬ بل إن الحروب الدينية التى اشتعلت فى أرجائها وبقيت إلى اليوم فى مخلفاتها السياسية والثقافية معا حروب دمرت الضمير الإنسانى وألصقت به معرات بالغة السواد.
وإذا كان الإسلام حيث يسود يمنح الآخرين حرية العقل والضمير فإن الآخرين إذا سادوا سلبوا أتباع الإسلام حقوقهم ٬ وأذاقوهم عذاب الهون ٬ من أجل ذلك نريد أن نبسط الكلام مرة أخرى فى حقيقة الإسلام وموقفه من اليهود والنصارى.
إننا إذا وصفنا الإسلام بأنه دعوة إلى الوحدة الدينية العامة ما عدونا الصواب
إنه دعوة إلى الإيمان بالله رب العالمين ٬ وإلى احترام الرسالات التى جاء بها من لدنه جميع الأنبياء والمرسلين.
أى أن المسلم مكلف أن يؤمن بموسى مثل إيمانه بمحمد ٬ وأن يؤمن بعيسى مثل إيمانه بمحمد ٬ فإذا كفر بواحد منهما ٬ أو تناوله بقالة سوء فقد انسلخ عن الإسلام. “قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون” .
وهو يسابق اليهود إلى الإيمان بالتوراة التى أنزلت على موسى . ويسابق النصارى إلى الإيمان بالإنجيل الذى أنزل على عيسى . وإيمانه بالكتابين السابقين ضميمة لابد منه للإيمان بالكتاب الخاتم .
“ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ٬ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ٬ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون”
فالإسلام هو يهودية موسى مع زيادة جديدة ٬ وهو نصرانية عيسى مع زيادة جديدة ٬ ولو أنصف الأتباع القاصرون على ما لديهم دون هذه الزيادات ما وجدوا فى الأمر شيئا يستثير الخصومة التى حرقت الأجيال ٬ ووسعت شقة الخلاف دون مسوغ ظاهر ...
وإذا كان المسلم يرى نفسه تابعا لموسى وعيسى فماذا ينقم اليهود والنصارى منه ؟
قد يقال: ينقمون هذه الزيادة التى انفرد بها
والجواب: فليسعهم ما وسعه! وأن الدين الجديد لا يقترح عليهم إذا رفضوه إلا أن يحاسنوه ٬ وأن يقروا أصله كما أقر أصولهم
وفى مجتمع يضم أناسا مختلفى الدين قد يثور نقاش بين هؤلاء وأولئك من الأتباع المتحمسين ٬ وهنا نرى تعاليم الإسلام صريحة فى التزام الأدب والهدوء . “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون”.
ولا بأس بمساجلات عقلية تسودها روح المباريات الرياضية ٬ وتترك فيها الفرصة للإنسان أن يتأمل ما عنده ٬ ويكتشف قيمته الحقيقية ٬ والقرآن الكريم به حشد رائع من الاستدلالات الوثيقة التى تناولت بالرد الشبه السائدة لدى معارضيه ٬ والشبه التى يمكن أن يختلقها الجدل ولن تعرف الأعصار المتطاولة حتى قيام الساعة كتابا مثل القرآن الكريم يعرض قضية الإيمان ويدعهما بأنواع الأدلة معتمدا على حرية العقل والضمير وحدها فى إحقاق الحق وإبطال الباطل ...
“أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ٬ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ٬ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ٬ أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون” .
وأنت ترى محمدا ` صلى الله عليه وسلم ` فى هذا الدفاع عن قضية التوحيد يطلب من خصومه الدليل وينضم فى دفاعه عن توحيد الله إلى الأنبياء الذين سبقوه والكتب التى جاءوا بها .
إن الجو الذى ينتظر ميلاد الإيمان الصحيح فيه هو جو الحرية النبيلة والطمأنينة الشاملة ٬ وهو ما ينشده الإسلام للناس كافة ٬ قد يؤمن بعض الناس بالرشوة وقد يؤمن بعض آخر بالسيف ٬ وقد ينتقل الإيمان بطريق التوارث من الأسلاف إلى الأخلاف ٬ لكن المثل الأعلى الذى رسمه القرآن الكريم للإيمان ٬ هو تفكير هادئ واع فى آفاق الأرض والسماء ٬ يعود المرء منه وهو معلق القلب برب الأرض والسماء.
هذا ما تعلمناه من القرآن الكريم حين يقول: “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ٬ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ٬ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ٬ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا” .
أما التقليد المجرد ومتابعة الآباء فيما يأخذون ويتركون ٬ والسير وراء القافلة المنطلقة دون معرفة هدف أو تبين طريق هذا ليس شأن الإنسان ٬ إنه شأن القطعان وجماعات الدواب التى يسيرها صفير مبهم تأكل وتشرب وتفترق وتلتئم على طنينه دون فهم
وهل عاب القرآن الكريم على عباد الأصنام إلا هذا المسلك “وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ٬ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون” .
يقول الإمام الشيخ محمد عبده: ` إن التقليد بغير عقل ولا هداية شأن الكافرين ٬ وإن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به فمن ربى على التسليم بغير عقل ٬ وعلى العمل ولو صالحا بغير فقه غير مؤمن.
فليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان بل القصد أن يرتقى عقله وترتقى نفسه بالعلم ٬ فيعمل الخير وهو يفقه أنه الخير النافع المرضى لله . ويترك الشر وهو يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته ` .
• حول حرية الارتداد :
من أولئك المؤمنين الأحرار الذين رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ` صلى الله عليه وسلم ` رسولا تتكون الأمة المسلمة والدولة المسلمة ٬ ويتأسس مجتمع تحكمه شبكة من الشرائع الدينية تتغلغل فى أنحائه كلها كما تنتشر شبكة الأسلاك الكهربائية ٬ أو أنابيب المياه فى العواصم الكبرى.
وعمل العقيدة فى هذه التعاليم هو عمل الروح فى الجسد.
ومن عناصرها وآثارها تتمهد الدعامة التى تنبنى عليها ` دار الإسلام ` بكل ما تحفل به هذه الدار من نظم عامة وتقاليد مقررة ومسالك مرسومة.
وذلك أن الإسلام عقيدة وشريعة ٬ والداخل فيه عن طواعية إنما يعلن انتظامه مع واجبات الحياة الجديدة وحقوقها.
إن الإسلام ليس عقيدة قلبية مجردة ٬ بل هو سلوك اجتماعى بعيد الآماد ٬ يتعرض لحياة الإنسان من المهد إلى اللحد ٬ ويمد سرادقه ليشمل المدرسة والمحكمة والبيت والشارع والسوق والديوان ٬ وما خفى من أحوال النفس ٬ وما علن من شئون الدولة.
وعلى ضوء هذا التقرير الصادق نسأل : هل الإسلام يبيح حرية الارتداد عنه؟
أوَ بعد هذا البيان الذى ظهر منه أن الإسلام إيمان ونظام معا ٬ يتجه السؤال هكذا: هل يبيح الإسلام حرية الخروج عليه؟
ومن حق دين تلك طبيعته ألا يسارع بالرضا ! فليس فى الأولين والآخرين نظام يعطى على نفسه صكا بحرية الخروج عليه!!
ولنكن صرحاء فى مواجهة حرية الارتداد هذه!..
هب رجلا يريد أن يكفر بالله ويكون شيوعيا . إن الشيوعية تعنى لا إله ٬ والحياة مادة ٬ ولها بعد ذلك نظر خاص فى الأساس الاجتماعى الذى تقوم عليه الدولة . فهل يطلب من الإسلام أن يقر ببلاهة حرية الارتداد على هذا النحو ؟
هب رجلا يريد أن يكفر بالله ويكون وجوديا . إن الوجودية فلسفة تضع كل قيد عن السلوك الإنسانى وتنكر ما نسميه عبادات وفضائل وتقاليد ٬ وتجعل الدنيا انطلاقا فوضويا لا زمام له ٬ فهل يطلب من دين رسالته عقيدة وشريعة أن يأذن بهذا الشرود باسم الحرية ؟
قد تقول: إن الارتداد عن الإسلام إلى غير دين قط ٬ ربما وضعت أمامه العوائق حماية للنظام العام وصيانة للقانون القائم .
ولا بأس من تقييد حرية الارتداد فى هذا المجال ...
ولكن إذا أراد امرؤ أن يتهود أو يتنصر فهل تمنعه ؟
والجواب: أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الإيضاح حتى تعرف هذه القضية على حقيقتها . فإن الإسلام واجه ناسا يدخلون فيه خداعا ٬ ويخرجون منه ضررا فهل ينتظر من دينه وبطبيعته عقيدة قلبية وشريعة اجتماعية أن يقابل هذه المسالك ببلادة ؟ كلا .
لقد أباح لليهود والنصارى أن يعيشوا إلى جواره فى مجتمع واحد لهم فيه ما للمسلمين وعليهم فيه ما على المسلمين ٬ فلماذا يترك هؤلاء أو أولئك دينهم ويدخلون الإسلام ثم يخرجون منه ؟
لقد حاول اليهود قديما الإساءة إلى الإسلام بهذا الأسلوب . “وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ٬ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ٬ يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم” .
وربما حاول غير اليهود ذلك فى أى وقت. وحرية الارتداد هنا معناها الوحيد: إعطاء الآخرين حرية الإساءة إلى الإسلام ٬ وإهانة عقيدته والاحتيال على شريعته. فهل يقبل هذا منطق سليم ؟
ولنفرض أن يهوديا أو نصرانيا أسلم لغرض ما كالزواج بامرأة مثلا. أفليس من حماية اليهودية أو النصرانية أن يعاقب أى خارج منهما لغرض دنئ ٬ إذا فاته عاد إلى دينه الأول.
إن التنقل بين شتى الأديان ليس أمرا سهلا ٬ ولا ينبغى أن ينظر إليه بقلة اكتراث.
وهناك حقيقة أشرنا إليها فى صدر هذا البحث ونرى حقا علينا أن نعود لبسط القول فيها .
إن الارتداد قلما يكون أمرا قلبيا وحسب..! ولو كان كذلك ما أحس به من أحد. إن الارتداد فى أغلب صوره ستار نفسى للتمرد على العبادات والتقاليد والشرائع والقوانين ٬ بل على أساس بناء الدولة نفسها ٬ ومواقفها من خصومها الخارجيين. ولذلك كثيرا ما يرادف الارتداد جريمة الخيانة العظمى . وتكون مقاومته واجبا مقدسا .
على أن الارتداد فى ظلال النظام الإسلامىي مثل شذوذا منكرا . لا يمكن بتة تصور بقائه مع استقرار الأنظمة العامة وتوفير المهابة والنفاذ لها .
ولقد علمت أن الإسلام يتناول بقوانينه كل شئ فى المجتمع فى كل لحظة من النهار والليل. فكيف يكلف باستبقاء شخص ارتداده القلبى إلى طعن وشغب أو على الأقل إلى عدم تعاون وفقدان ثقة ؟
ولكى تعرف الشمول فى طبيعة الإسلام وإحاطة قوانينه بأرجاء المجتمع دانيها وقاصيها ننقل هذه الفقرات من السياسة الشرعية لابن القيم رحمه الله ٬ وهى وان وصفت وظائف الدولة على عهده إلا أنها بينة الدلالة على وصف الجهاز التنفيذى للدولة الإسلامية والأهداف التى يعمل لها ٬ وغرضنا من إبراز هذا الشمول بيان استحالة قبول الردة فى مجتمع هذه سماته وتلك واجباته.
وقال: ` وجمع الولايات - أى الوظائف- الإسلامية : مقصودها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ٬ لكن من المتولين الموظفين من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن ٬ والمطلوب منه: الصدق ٬ مثل صاحب الديوان ٬ الذى وظيفته أن يكتب المستخرج والمصروف: ومثل النقيب والعريف الذى وظيفته: إخبار ولى الأمر بالأحوال.
ومنهم من يكون بمنزلة الآمر المطاع ٬ والمطلوب منه: العدل ٬ مثل الأمير والحاكم والمحتسب.
ومدار الولايات كلها على الصدق فى الإخبار والعدل فى الإنشاء وهما قرينان فى كتاب الله تعالى ٬ وسنة رسوله ` صلى الله عليه وسلم ` قال تعالى: “وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا” .
وقال النبى ` صلى الله عليه وسلم ` لما ذكر الأمراء الظلمة: ` من صدقهم بكذبهم ٬ وأعانهم على ظلمهم ٬ فليس منى ولست منه ولا يرد على الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منى وأنا منه وسيرد على الحوض `.
وقال تعالى: “هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ٬ تنزل على كل أفاك أثيم” . ` فالأفاك ` الكاذب. و ` الأثيم ` الظالم الفاجر . وقال تعالى “لنسفعن بالناصية ٬ ناصية كاذبة خاطئة”.
وقال النبى` صلى الله عليه وسلم `:”عليكم بالصدق ٬ فإن الصدق يهدى إلى البر ٬ وإن البر يهدى إلى الجنة ٬ وإياكم والكذب. فإن الكذب يهدى إلى الفجور والفجور يهدى إلى النار`.
قال: ` ومن الولاة جماعة تختص بإقامة الحدود ٬ من القتل والقطع والجلد ٬ ويدخل فيها الحكم فى دعاوى التهم التى ليس فيها شهود ولا إقرار ٬ كما تختص ولاية القضاء بما فيه كتاب وشهود وإقرار ٬ والنظر فى الأبضاع والأموال التى ليس لها ولى معين ٬ والنظر فى حال نظار الوقوف وأوصياء اليتامى وغير ذلك .
وأما ولاية الحسبة : فخاصتها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة ٬ وأهل الديوان ونحوهم ٬ فعلى متولى الحسبة أن يأمر العامة بالصلوات الخمس فى مواقيتها ٬ ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس ٬ وأما القتل: فإلى غيره ٬ ويتعاهد الأئمة والمؤذنين ٬ فمن فرط منهم فيما يجب عليه من حقوق الأمة ٬ وخرج عن الشرع ألزمه به واستعان فيما يعجز عنه بوالى الحرب والقاضى.
واعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة: أهم من كل شئ فإنها عماد الدين وأساسه وقاعدته ٬ وكان عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم يكتب إلى عماله: `إن أهم أمركم عندى الصلاة ٬ فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ٬ ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة` .
ويأمر والى الحسبة بالجمعة والجماعة وأداء الأمانة والصدق ٬ والنصح فى الأقوال والأعمال ٬ وينهى عن الخيانة وتطفيف المكيال والميزان. والغش فى الصناعات والبياعات ٬ ويتفقد أحوال المكاييل والموازين وأحوال الذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات فيمنعهم من صناعة المحرم. على الإطلاق كآلات الملاهى ٬ وثياب الحرير للرجال ويمنع من اتخاذ أنواع المسكرات.
ويمنع صاحب كل صناعة من الغش فى صناعته ٬ ويمنع من إفساد نقود الناس وتغييرها ٬ ويمنع من جعل النقود متجرا فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد مالا يعلمه إلا الله .
ومضى ابن القيم يحصى ما يجب على الموظفين أن ينفذوه من تعاليم الشريعة حتى لترى المجتمع الإسلامى متماسكا أشد التماسك بروح الإسلام السارى فى أوصاله كلها.
فما يكون للمرتد مكان وسط مجتمع على هذا النحو.
----------( يُتبع )----------
#محمد_الغزالي #حقوق_الإنسان
نشر في 16 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع