Facebook Pixel
حقوق التعليم للكاتب محمد الغزالي
1770 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

يولد الإنسان طفلا ضعيف البدن قاصر الفكر ٬ ثم يأخذ على مر الزمن طريقه إلى النماء البدنى والارتقاء الفكرى حتى يبلغ أشده، فما هي حقوقه من التعليم؟

كتاب : حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 15 ] : حق التعليم

يولد الإنسان طفلا ضعيف البدن قاصر الفكر ٬ ثم يأخذ على مر الزمن طريقه إلى النماء البدنى والارتقاء الفكرى حتى يبلغ أشده .

وهو لا يكبر جسما وعقلا من تلقاء نفسه . بل يتزود بمقادير منتظمة من الأغذية تكفل لعظامه أن تمتد ٬ ولعضلاته أن تكتنز.

وهو محتاج إلى أقساط منتظمة كذلك من المعرفة حتى يتفتق ذهنه ٬ وتتسع مداركه ٬ ويبصر حقيقة ما يحيط به من الأشخاص والأشياء ٬ ويعى ما يطلب منه وما يجب عليه .

لا يولد المرء عالما ٬ بل يبرز إلى الوجود غفل الصحيفة ٬ ثم يستغل حواسه فى الاتصال بما حوله ٬ وعقله للإفادة من تجاربه وتجارب الأولين .

وبذلك يتكون وجوده المعنوى ٬ الذى هو أرقى في وجوده الحسى. “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون” .

والإسلام يوثق العلاقات بين الإنسان وبين هذا الكون الذى يحيا بين أرضه وسمائه ٬ ويشد حواسه وبصيرته إلى ما يحفل به هذا العالم من أسرار وقوانين ٬ حتى لا يعيش محجوبا ولا جاهلا .

إن البلادة الفكرية رذيلة نفسية قد تكون أخطر من بعض المعاصى الشائنة ٬ ومن ثم رأينا القرآن الكريم يلفت الإنسان إلى ما حوله كى يعرف خصائصه وعجائبه ٬ ثم ينتقل من ذلك إلى معرفة من صاغه وأبدعه...

ولنستمع إلى هذا الدرس من عشرات الدروس التى امتلأ بها القرآن الكريم وهو يصل الإنسان بالكون ورب الكون . “إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون” .

حينما نطالع على وجه الأرض هذه النخل الباسقة ٬ وتلك الزروع المسطورة على أديم الحقول ينبغى أن نتساءل من أودع فى النواة والبذرة هذه الخصائص الرائعة ٬ فإذا هى بعد أن تطمر فى أحشاء الطين تتحرك شاقة حجب البرد والظلمة إلى أعلى ٬ ثم هى على تراخى الأيام تجود بشتى الثمار .

إن الذى جعل الحبة فى التربة تنفلق عن هذا الخير المكنون هو صاحب القدرة التى تجعل الليل يلد الفجر ٬ فإذا أشعته تغمر الآفاق إثر حركات الفلك فى فضائه ٬ تلك الحركات التى لا نحسها ونحن نيام أو أيقاظ ٬ ولكننا نعرفها بطول التأمل ونضبط مواقيتها التى لا تختلف أبدا. “فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم”.

ثم يمضى القرآن يفتح عين الإنسان هنا وهناك. “وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون”.

وفى هذا التفتيق الذهنى القوى تتضمن الآيات لمعا من الحقائق الإنسانية التى يعرف المرء منها نفسه ٬ ومن أين جاء ٬ وبماذا خلق . “وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون” .

ثم يعاود القرآن الكريم تذكير الإنسان بقصة الحياة فى النبات ؟ وكيف تتراص الحبوب فى السنابل ٬ وتتراكب فى الكيزان .

وكيف ترى الثمرات نضيدة ٬ كأنما فرغ المنظم توا من وضعها فى مواضعها . “وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه”

وبعد ذلك الاستعراض الرائع تختم الآية بطلب رقيق: “انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون” .

هذا الدرس الذى نقلناه هنا نموذج لعشرات أمثاله فى القرآن تكشف عن دور الثقافة فى تكوين الإنسان وتكوين الإيمان جميعا.

إن الإيمان ليس تخمينات عقل ضرير محبوس فى قفص من الأوهام الذاتية كلا . كلا .

إنه أثر اشتباك الإنسان مع الحياة والأحياء ٬ ونظراته الدائبة الفاحصة لإدراك كل شئ والإحاطة بما وراء كل شئ .

ومن هنا كان العلم والدين متلازمين ٬ بل إن أحدهما فى منطق القرآن الكريم سبب ونتيجة للآخر .

والمجتمع الذى يلده الإسلام ٬ أو يولد فيه الإسلام ٬ هو المجتمع الذى يسوده جو صحو من الدراسات الأصيلة الحرة. ينمو فيها العقل الإنسانى وتتوطد فيها أواصر الصداقة بين الإنسان وبين ما فى العالم من عناصر وقوانين .

وذلك وحده هو الطريق الذى وحده الإسلام للتعرف على الله . ثم اليقين بما جاء من عنده على لسان رسله الأكرمين .

ما هى الميزة التى جعلت كفة آدم ترجح على غيره ٬ وجعلت الملائكة نشعر بتفوقه ؟
لقد أجاب على السؤال الذى عجز الآخرون عنه ٬ عرف أسماء كل شئ وتبين أن له عقلا يدرك به ما حوله من مخلوقات الله ...

ومن هنا قلنا: إن أساس الثقافة الإنسانية معرفة الكون والحياة بيد أن هذه المعرفة وسيلة إلى معرفة أعظم ٬ هى معرفة خالق الكون والحياة ٬ ورب كل شئ ومليكه.. رب العالمين.

فمن عرف الحياة وتأدى منها إلى الإيمان بالخالق الكبير فهو إنسان ٬ أما من لم يعرف هذا العالم ٬ أو عرفه بطريقة مقلوبة لا تصله بالله فهو حيوان أو شيطان . “إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون”.

إننا لم نر كتابا مثل القرآن الكريم يربط الإنسان بالكون ٬ والعقل بالعلم والضمير بالتقوى ٬ والسلوك بالخلق.. ولذلك لا عجب إذا وجدنا فى صعيد واحد حديثا متماسكا متلاحقا عن الإنسان والقرآن والنبات والكواكب وقوانين الكون وموازين العدل !.

تدبر قوله تعال: “الرحمن ٬ علم القرآن ٬ خلق الإنسان ٬ علمه البيان” . ثم كيف قرن بين أجرام السماء وحساب دورانها وأنواع النبات ما صعد على ساق ٬ وما زحف على الأرض فقال: “الشمس والقمر بحسبان ٬ والنجم والشجر يسجدان” .

ثم قال ناصحا البشر أن يتواصوا بالعدل بعد أن ألمح إلى قيام السموات والأرض بالحق . “والسماء رفعها ووضع الميزان ٬ ألا تطغوا في الميزان ٬ وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان” .

ما معنى هذا كله ؟ معناه أن البصيرة الإنسانية مرآة تمسك الحقائق كلها على اختلاف مصادرها.

وأن الإنسان عندما يكتمل عقلا وخلقا يتجاوب مع كل شئ فى الوجود تجاوبا صحيحا وصادقا. وسبيل ذلك العلم والدين جميعا ٬ فهما سلم الارتقاء للإنسان .

إن الثقافة المنشودة هى ما يكون امتدادا لملكات الإنسان فى كل هذه المجالات.

ولأمر ما كان أول ما نزل من القرآن إشعارا بفضل العلم وأثره وقيمة القلم وخطره. “اقرأ باسم ربك الذي خلق ٬ خلق الإنسان من علق ٬ اقرأ وربك الأكرم ٬ الذي علم بالقلم ٬ علم الإنسان ما لم يعلم”.

والعلم الذى يقبل المسلم عليه ٬ ويستفتح أبوابه بقوة ٬ ويرحل لطلبه من أقصى المشارق والمغارب ٬ ليس علما معينا محدود البداية والنهاية فكل ما يوسع منادح النظر ٬ ويزيح السدود أمام العقل النهم إلى المزيد من العرفان ٬ وكل ما يوثق صلة الإنسان بالوجود ويفتح له آمادا أبعد من الكشف والإدراك وكل ما يتيح له السيادة فى العالم والتحكم فى قواه ٬ والإفادة من ذخائره المكنونة ` .

ذلك كله علم ينبغى التطلع فيه ٬ ويجب على المسلم أن يأخذ بسهم منه .
وهذا الشمول دلت عليه الآيات والسنن .

فأما الأحاديث المشيرة إلى التزود من المعارف أيا كانت فكثيرة ٬ منها قول رسول الله ` صلى الله عليه وسلم ` : ` من سلك طريقا التمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة `.

وقال: ` ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدى صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى ! وما استقام دينه حتى يستقيم عقله`.

وقال: ` لا حسد إلا فى اثنين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته فى الحق . رجل آتاه الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها` .

وقال: ` إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض ٬ حتى النملة فى جحرها وحتى الحوت فى جوف البحر ليصلون على معلم الناس الخير` .

فالسياق فى هذه السنن يوجه إلى أى علم يطلب: تعلم الخير ٬ الحكمة ٬ ما يقى من الضرر ٬ ما يقرب من النفع .

وتخصيص العلم بلون معين من الثقافة كتخصيص المال بنوع معين من الأملاك لا وجه له. ولا شك أن فى طليعة ما تجب معرفته حق الله على الناس.

وحق الناس بعضهم على بعض ٬ فإن هداية السلوك إلى الصالح العام كبيرة الأثر فى تنظيم الجماعات وتوجيه السياسات .

لكن من الخطأ أن تظن العلم المحمود هو دراسة الفقه والتفسير وما شابه ذلك من الفنون فحسب ٬ وأما ما وراءها فهو نافلة يؤديها من شاء تطوعا أو يتركها وليس عليه من حرج هذا خطأ كبير ٬ فإن علوم الكون والحياة ٬ ونتائج البحث المتواصل فى ملكوت السماء والأرض لا تقل خطرا عن علوم الدين المحضة ٬ بل قد يرتبط بها من النتائج ما يجعل معرفتها أولى بالتقديم من الاستبحار فى علوم الشريعة. `

والإسلام رسالة فريدة فى رحابتها الثقافية ٬ لا تشبهها رسالة أخرى من رسالات السماء والأرض. فإن نصوص القرآن الكريم والألوف من السنن المأثورة عن صاحب الرسالة تشكل مادة علمية تتصل بفروع الثقافة الإنسانية كلها ٬ وذاك عدا ما تميزت به من علوم العقائد والعبادات التى ليس لها مصدر يوثق به غير الوحى الأعلى.

إن الموضوعات التى تحدث فيها القرآن الكريم وتوسعت فيها السنة النبوية انتظمتمع استقرار المجتمع الإسلامىعلوما واضحة المناهج معروفة الوجهة..

فإذا تجاوزنا حقائق العقيدة ومراسم العبادة ٬ وجدنا أن الأخلاق والمعاملات ٬ والقوانين الخاصة بالأسرة ٬ والمجتمع وسياسة الدولة وعلاقاتها الخارجية ٬ ميادين مهدتها المعارف الإسلامية ولها فيها تعاليم بينة.

وهذه الأمور نفسها تناولتهاحتى يوم الناس هذامذاهب وفلسفات ونحل شتى ٬ وبنيت لها فى عواصم الأرض مدارس وجامعات.

إن الثقافة الإسلامية كما أسلفنا القول واسعة الدائرة ٬ إنها تضم إلى العقائد والعبادات دراسات قانونية ومالية وسياسية ٬ تعد الآن المادة العلمية لمعاهد مدنية بحتة. ونحن لا نحجر على العالم ٬ أن يدرس ما يشاء. غير أننا نلفت النظر إلى أن للسماء توجيهات فى هذه المجالات عرفت على وجه اليقين فى رسالة محمد ` صلى الله عليه وسلم ` . ولن يزيدها مر الزمن إلا ثباتا وتألقا .

هناك أنواع من العلوم لا صلة للدين بها لأنها تتصل بشئون الدنيا وتتبع كفاح الإنسان فى استكشاف المجاهل والإفادة من التجارب والاستزادة من الخبرات المختلفة فى كل فن.

لكن صلة الإنسان بالله ٬ وصلته بنفسه ٬ وصلته بغيره ٬ وما يتطلبه ذلك من فقه فى العقيدة والشريعة وبصر بالتربية والأخلاق ٬ قال الدين فيه كلمته ولم يأذن بتعقيبات ولا بمقترحات للواهمين ولا للخراصين..

ويؤسفنا أن معارف مزورة قد فشت بين الأجيال الحاضرة روجها الحسيون من عباد المادة الذين لا يؤمنون إلا بما يرون ويلمسون ٬ فنشأ عن ذلك الجهل المركب تغير فى فكر الإنسان وسلوكه ومثله جعل أقطارا بأسرها وحكومات قوية تعتنق الإلحاد وتربى الأطفال على الكفر والمروق من أواصل الدين ووحى السماء.

وليست المأساة فقط فى اعتناق ثلث البشرية للشيوعية ٬ إنما المأساة فى أن المنطق المادى جرف أمامه جمهرة الخلق ٬ فقلما يتصرف أحد بعيدا عن وساوسه. أما الثقة فى الله على نحو جاد يحمل الإنسان على الاستعداد للقائه ٬ فذلك شعور لا يخامر إلا أفئدة القلائل.

ويستحيل أن تكترث به صحيفة من الصحف أو إذاعة من الإذاعات . إن الخوض فى كل شىء يستغرق الأوقات كلها ٬ ولا يدع بقية للحديث عن الأوهام!! وأود أن أعترف بأن فشو المادية يعود أغلب ما يعود إلى العوج الذى أصاب الرسالات السماوية نفسها ٬ سواء أكان هذا العوج فى أصولها ٬ أو فى الحياة العملية لجمهرة المتدينين.

إن الإيمان بالروح تسرب إليه الإيمان بالخرافة ٬ والإغراق فى الخيال ٬ وإن الإيمان بالدار الآخرة تحول إلى جهل بالدنيا وغباء فى تناولها.

فكان الماديون بجنوحهم إلى الواقع وحده أدنى إلى النجاح من غيرهم. على أن الحقيقة لا يسوغ أن تذوب فى هذا الموج المتلاطم من الأفكار المضطربة والمسالك الزائغة.

وعظمة المواهب الإنسانية تعصمهم من الإخلاد إلى الأرض إذا انكسرت أحيانا الأجنحة الصاعدة بها.

ولقد أضاءت فى بقاع كثيرة من الأرض أفكار صالحة ٬ ومعارف جيدة أعادت للإنسان رشده وذكرته بأصله السماوى ٬ وأهابت أن يعيش الحق ويستمسك به ٬ وألا ينخدع بالآراء العائمة فيجرى وراء سراب.

ونحن نحتفى بإنتاج العقل الإنسانى الدائب على البحث ٬ الذى يستفيد من الخطأ قدرة على تجنبة ٬ وقدرة أخرى على دعم الحق ٬ والاعتزاز به.

• الثقافة الصحيحة بين الفكر العقلى والوحى الدينى :

قال الله تعالى: “وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون” .

فى بديهيات الهندسة أن الخط المستقيم لا يتعدد ٬ لأنه أقصر مسافة بين نقطتين ٬ ومهما رسمت من خطوط مستقيمة فهى متطابقة حتما من نقطة الابتداء إلى نقطة الانتهاء ٬ ولن يفترق أحدهما عن الآخر إلا إذا زاغ عن هدفه وانحرف عن وجهته ٬ أى إلا إذا فقد الاستقامة المفروضة فيه وهذا الذى يصدق فى مجال الحياة الحسية يصدق فى آفاق الحياة الإنسانية كلها ٬ فطريق الحق الذى رسمه الدين هو طريق الحق الذى يهدى إليه الفكر الثاقب والبصر السديد .

وهيهات هيهات أن يختلف العقل والنقل أو تتناقض ثمار الوحى والفكر ٬ ما دام كلاهما تصويرا مجردا للحقيقة كما هى دون ريبة أو عوج.

فى العلاقة بين العلم والدين يجب أن نعرف أن قول العاقل وعمله لا يختلفان ٬ وإذا كان الكون صنع الله والدين كلامه جل شأنه فيستحيل أن يكون فى المعارف الكونية ما يخالف العلوم الدينية ٬ إذ العلم ليس إلا وصفا لما صنع الله فى آفاق السماوات ٬ وتقريرا لما بث فيها من قوى وخصائص.

وهذا البيان لأفعال الله يستحيل أن يجىء فى وحى الله ما يختلف عنه أو يصطدم به. إن الدين الحق والعلم الحق هما تصوير متكامل للوجود . وقد أنزل الله آياته كى تنير الطريق للسالكين وتجلو معالمه للقاصرين .

ونحنباسم الإسلام نعتبر تصديق الحقائق العلمية دينا . ومن ثم نوجب على علماء الكون والحياة أن يروا تصديق الحقائق الدينية علما . والواقع أن جحد شىء مما جاء الدين به يقينا ٬ يساوى الجهل بالقوانين العلمية العادية .

ولا فرق فى نظرنا بين متدين يظن الأرض مستطيلة أو مربعة ٬ وبين مثقف محجوب عن أصول الاعتقاد ومراسم العبادة.

كلاهما جاهل بأجزاء خطيرة من الحق الذى قامت به الأرض والسماوات ٬ وكلاهما لا يهتدى سواء السبيل إلا إذا استدرك ما فاته واستكمل ما نقصه.

على أن القرآن الكريم ليس كتاب مباحث فنية فى علوم الكون والحياة ٬ يبنى اليقين على التأمل فى ملكوت السماوات والأرضوصف هذا العالم بكلمات معجزة حالفها الصدق على اختلاف العصور وارتقاء العقول ٬ فبقيت فى تصوير الحق براقة الدلائل ٬ لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها لأنها “تنزيل من حكيم حميد” .

وصدق هذه الكلمات لا يشغلنا عن الغاية العظمى التى نزل القرآن من أجلها فهومن قبل ومن بعد كتاب هداية جامعة للسلوك الإنسانى الصحيح...

إنه استوعب كل شىءيأمر بالخير وينهى عن الشر وأقر كل ما يقرب من الله وزجر عن كل ما يبعد عنه.

إن مراحل الصراط المستقيم مفصلة تفصيلا فى هذه الآيات الهادرة بالحق الطاردة للباطل .

ما من شىء يصون الأفئدة ٬ أو يضبط الشهوات ويمنع ضراوتها. أو يحفظ الفطر ٬ ويستبقى أصالتها ٬ إلا تكاثرت فى هذا القرآن الكريم مصادره ٬ واتقدت منائره .

ومواكب البشر التى ازدحمت على طريق الحياة تحدوها مآراب لا حصر لها ٬ إن القرآن الكريم وضع لها مبادىء الإخاء والعدالة ٬ وأحكم العلاقات التى تسودها ٬ والبرامج التى تقودها ٬ تارة بما غرس فى النفوس من مودة وأدب ٬ وتارة بما شرع من أحكام تقمع الانحراف وتحسم الاعتساف ٬ وتوفر للناس الأمن والمصلحة .

ونفاسة ما هذا الكتاب العزيز تجليها المقارنة.
فقبل أن ينزل الوحى ٬ وفى البلاد التى لم تبلغها أشعته بعد أن نزل ٬ لم يقف العقل الإنسانى جامدا فى حدود المدركات القريبة ٬ بل تطلع إلى معرفة الله ٬ وإلى استكناه طبيعة الحياة ورسالة الإنسان فيها .

وكثرت الفلسفات والمذاهب فى فهم العلاقة بين الإنسان وربه ٬ وبين الإنسان وأخيه الإنسان .

ومع أن العقل البشرى سار طويلا وحده إلا أن حصيلة فكره انتهت فى الجملة إلى المقررات الدينية الأصيلة ٬ فالإيمان بالته وحده نزعة الكثرة العظمى من الفلاسفة ٬ ولا قيمة للشذوذ ٬ وكذلك تحسين الحسن وتقبيح القبيح ٬ وتعريف المعروف وإنكار المنكر.

بل يروى أبو حامد الغزالى فى كتابه ` المنقذ من الضلال ` أن التوافق فى السياسة الخلقية والاجتماعية بين أحكام الدين ٬ ومقررات الفلسفة يرجع إلى تأثر هؤلاء بمواريث دينية عن النبوات الأولى قبل أن ترجع إلى نبوغ خاص عند هؤلاء المفكرين .

على أن فى التفكير البشرى المجرد آفات يجب أن تعرف وتحذر إن المعرفة السطحية كثيرا ما تعصف بألباب القاصرين ٬ وتعلقهم بظواهر لا وزن لها ٬ ولذلك قال أحد المفكرين العرب: إن القليل من الفلسفة يبعد عن الله ٬ ولكن الكثير منها يرد إليه جل جلاله.

الواقع أن الاغترار بقليل المعرفة ٬ والاستهانة بما وراءه من مراق عقلية بعيدة المدى: رذيلة انتشرت للأسف بين كثيرين.

وما أجمل قول الشاعر:

فقل لمن يدعى فى العلم معرفة .. حفظت شيئا وغابت عنك أشياء

ولأمر ما اتجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب: “وقل رب زدني علما” .. أجل : “وفوق كل ذي علم عليم” .

وإلى جانب السطحية نحس فى البعد عن هدايات الدين خطرا آخر هو الخلط. فقلما ظهر مذهب فلسفى وأصاب الحق فى نواحيه الإلهية والخلقية والاجتماعية كلها..

بل كثيرا ما امتلأت الحياة بتيارات يتجاوز فيها الحق والباطل والجمال والقبح وهذه الآفات برىء منا الدين لأنه وحى معصوم . “الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا” .

الدين كما جاء من عند الله هو الخلاصة النقية السهلة التى جمعت الحق كله. فى أسلوب من القول برئ من اللغو والتعقيد ٬ وهو الهدى المغنى عن تجارب الخطأ والصواب.

ومتاعب العثور والنهوض. والواقع أن الله لما ارتضى لنا الإسلام دينا أراحنا من عنت المشي فى الظلام ٬ والتردى فى هاويات الأهواء والأوهام . فما أحوجنا إلى أن نسمع دروس السماء من تراث خاتم الأنبياء يقودنا إلى الحق. ويأخذ بنواصينا إلى الرشد ٬ ويغرس فى أفئدتنا الإيمان.

إن عالمنا المعنى فقير إلى هذا الإيمان العزيز. ` إن الإيمان بالله هو: أساس الفضائل ٬ ولجام الرذائل ٬ وقوام الضمائر؟ وسند العزائم فى الشدائد ٬ وبلسم الصبر عند المصائب.

وعماد الرضا والقناعة بالحظوظ ٬ ونور الأمل فى الصدر ٬ وسكن النفوس إذا أوحشتها الحياة ٬ وعزاء القلوب إذا نزل الموت أو قربت أيامه ٬ والعروة الوثقى بين الإنسانية ومثلها الكريمة .

ولا يخدعنك عن هذا من يقول لك : إن مكارم الأخلاق تغنىب وازع الضمير عن الإيمان. لأن مكارم الأخلاق التى تواضعنا عليها ٬ للتوفيق بين غرائزنا وحاجات المجتمع لابد لها عند اعتلاج الشهوات فى الشدائد والأزمات أن تعتمد على الإيمان ٬ بل إن هذا الشئ الذى نسميه ضميرا إنما يعتمد فى سويدائه على الإيمان .

وانقياد الناس لمكارم الأخلاق إنما يكون بزاجر من السلطان ٬ أو وازع من القرآن ٬ أو رادع من المجتمع . فإذا كنا فى نجوة من سلطان القانون والدين والمجتمع لم يبق لنا وازع إلا الضمير.

ونحن فى معركة الشهوات والغرائز مع الضمائر ٬ قل أن نرى الضمير منتصرا إلا عند القلة من الناس ٬ وهذه القلة نفسها لا تستمسك بضمائرها عند جموح الشهوات إلا إذا كانت تخشى الله يا حيران !

ولو تركنا مكارم الأخلاق جانبا ٬ ونظرنا إلى حاجتنا إلى الإيمان من حيث هو سند فى الشدائد ٬ وبلسم المصائب ٬ وسكن للنفوس ٬ وعزاء للقلوب ٬ وعلاج لشفاء الحياة ٬ لوجدنا أننا عند فقد الإيمان ٬ نكن أسوأ حظا فى الحياة وأدنى رتبة فى سلم المخلوقات من أذل البهائم وأضعف الحشرات وأشرس الضوارى .

فالبهائم تجوع كما نجوع ٬ ولكنها فى نجوة من هم الرزق ٬ وخوف الفقر ٬ وكرب الحاجة وذل السؤال .

وهى تلد كما نلد ٬ وتفقد أولادها كما نفقد ٬ ولكنها فى راحة من هلع المشكلة ٬ وجزع الميتمة ٬ وهم اليتامى المستضعفين. وهى فى أجسادها تلتذ كما نلتذ ٬ وتألم كما نألم ٬ ولكنها فى راحة مما يأكل القلوب ٬ ويقرح الجفون ويقض المضاجع ٬ ويقطع الأرحام ٬ ويفرق الشمل ٬ ويخرب البيوت من المهلكات: كالحسد والكذب والنميمة ٬ والفرية ٬ والقذف ٬ والنفاق ٬ والخيانة والعقوق وكفر النعمة ٬ ونكران الجميل. وهى تعرف بنوع من الإدراك ما يضرها وما ينفعها ٬ ولكنها فى نجوة من أعباء التكليف وأثقال الأوزار ٬ ومضض الشك ٬ وكرب الحيرة ٬ وعذاب الضمير.

وهى تمرض كما نمرض ٬ وتموت كما نموت ولكنها فى راحة من التفكير فى عقبى المرض وفراق الأحباب ٬ وسكرات الموت ٬ ومصير الموتى وراء القبور ٬ والضوارى تسفك الدماء لتشبع بلا سرف ٬ ولكنها لا تسفكها أنفا ولا جنفا ٬ ولا صلفا ٬ ولا ترفا.. ولا علوا فى الأرض ولا استكبارا.

أما هذا الحيوان الفيلسوف ٬ الضعيف الهلوع ٬ الجزوع ٬ المطماع ٬ المختال ٬ المترف ٬ المتكبر ٬ المتجبر ٬ السافك للدماء الذى لا يأتيه شفاء الحياة أكثر ما يأتيه إلا من تفكيره فإنه لا علاج لشقائه إلا بالإيمان ٬ فالإيمان هو الذى يقويه ٬ وهو الذى يعزيه. وهو الذى يسليه ٬ وهو الذى يمنيه ٬ وهو الذى يرضيه ٬ وهو الذى يجعله إنسانا يسعى إلى مثله الأعلى لتسجد له الملائكة `.

إن الثقافة الإسلامية المعاصرة تحتاج إلى كثير من التأمل. فالذى لا ريب فيه أن القرآن معصوم من الخطأ ٬ وأن آياته هى لباب الحق وأن الاهتداء بها منار يقود إلى خير الدنيا والآخرة. والذى لا شك فيه أن التراث القولى والعملى للرسول لقى من العناية ما لم يلقه تراث بشر آخر ٬ وأنه فى جملته هداية نافعة ونهج مستقيم.

لكن الثقافة الإسلامية النابعة من تلك الأصول عراها من الشوائب ما يجب التنبيه إليه.

1 - انفصلت الدعوة الإسلامية عن الدول الإسلامية من زمن مبكر وتولت شئون المسلمين حكومات تصلها بالإسلام خيوط واهية ٬ وأغلبهم رؤساء أو ملوك يحترفون الحكم شهوة للسلطة ٬ ورغبة فى الثرورة.

ولم يقرب هؤلاء الحكام إلا العلماء الذين فى كفايتهم ضعف ٬ وفى أمانتهم غش فأما الراسخون فى العلم ٬ فقد تركوا لضراء الحياة ووعثاء الطريق.

فكم فى تراب التاريخ من أئمة دفنت ذخائرهم ٬ وخفيت أسماؤهم وحرمت الجماهير الظمأى من الانتفاع بهم إلا قليلا.

ولم تبال الحكومات الإسلامية الجهول أن تدع الشعوب للفراغ ٬ فشغل العوام أنفسهم بفروع الفقه والجدال فى التوافه ٬ والتعلق بالبدع والجرى وراء الأوهام . وتلك كلها آفات لم يعرفها العالم الإسلامى الأول ٬ أيام الرسول والخلافة الراشدة إذ كان الخاصة والعامة أهل جد وعقل ينزل الدين من نفسهم منزلة الوقود من الآلة الجيدة ٬ فهم يدورون به فى الحياة ليملأوه عدلاً ورحمة ٬ وتعاوناً وإنتاجاً .

2 - تسرب إلى الثقافة الإسلامية ركام وبئ من تفكير الإغريق الخرافي ٬ ومن أكاذيب الأولين . وحفلت كتب العقائد والتفسير والتاريخ بترهات ما كان يجوز أن تنشا بل أن تدرس وتروى .

خذ مثلاً ٬ قصة العقول والأفلاك التى هى أصل الوجود الأعلى عند اليونان ٬ إن هذا الكلام فى ميدان العلم لا يزن بعرة ٬ ولو كان قائله أرسطو . وهو فى ميدان الدين دجل.

ومع ذلك فقد عدوه فلسفة تدرس...!! وما كار يليق بالمسئولين عن الثقافة الإسلامية أن يأذنوا بتسربه إلى بيئتهم العقلية. ولو أن إدارة للرقابة الإسلامية تكونت لتنظيف الثقافة الإسلامية من اليونانيات ٬ والإسرائليات ٬ والنصرانيات ٬ لمحت صحائف كثيرة غاصة بهذا اللغو. والمصيبة ليست فى انتشار هذا الباطل فقط .

بل فى المقاييس الإسلامية التى أصابها شئ من الخلل فبدلا من أن تضبط النشاط العقلى بمنطق القرآن الكريم الذى لمسنا نماذج منه ٬ اختلطت بالمنطق اليونانى الذى قلما يلتفت إلى كتاب الكون المفتوح أو يتجه إلى كشف المجهول من قوى الكون وأسراره .

3 - انتشرت مع التصوف الدخيل على الأمة الإسلامية صور من الرهبانية وظلال من الجهل بالحياة الدنيا ٬ والعزوف عن أعبائها ومباهجها جميعاً . وأصبحت الفكر الشائعة عن الدين أنه عدو للحياة .

وأن وظيفته الأولى هى إعداد الناس لاستقبال الآخرة بأنواع المراسم وأشكال الطاعات . وأنهإن لم يزهد أتباعه فى هذه الحياة فهو لا يبالى بتجهيلهم فيها وانصرافهم عنها ٬ وربما يعد ذلك من كمال التقوى وأمارات حب الله..!!

وهذه التصورات كلها خيال مريضى. والذى يطالع القرآن والسنة وسيرة الخلافة الراشدة وكتب الأئمة المتبوعين يدرك أن الإسلام أبعد ما يكون عن هذا الحمق ٬ ولكن الرواسب التى شرحناها تتلقى الآن فى شتى الأذهان وتحتاج إلى جهاد أدبى موصول.

وقد أمكن أولى البصائر النيرة من علماء الإسلام ومجددى نهجه أن يشقوا الطريق وسط هذه الظلمات ٬ وأن يعلنوا حرباً شعواء على كل هذه الآفات الفكرية والنفسية التى نالت من حقيقة الإسلام ومن كرامته والتى استغلها للأسف الشديد أعداء الله وعباد المادة فى الشغب عليه والتنديد به.

إننا لا نخاف من شبهات الإلحاد على بناء الإسلام ذاته فهى تصطدم به كما تصطدم الكرة الطائرة بجدار حصين سميك . ولكن حرصنا كله على أن يخط الحق مجراه فى هذه الحياة نقيا لا تشوبه شائبة .

غير أن مرارة نحسها فى حلقونا لأن حظ العلماء النابهين لا يزال تاعسا. إن تعميم النفع بهم دونه جنادل قائمة. وإن آثارهم الأدبية سرعان ما تطوى فى حياتهم أو فى أعقاب وفاتهم.

وإن صوتهم فى معايشهم وذراريهم لا يهتم به أكثر من يملكون الأمور. أما الذين يقدمون للناس الغناء واللهو وفنون التسلية ٬ فإن تكريمهم أحياء وأمواتا من أيسر الأمور أو من أوجبها.

منذ سنوات ومصر تحتفل بالذكريات السنوية لموت نجيب الريحانى وأشباهه ٬ فهل احتفلت الجهات الشعبية والرسمية بذكرى محمد فريد وجدى ٬ وأحمد أمين وعبد الوهاب خلاف ٬ ومحمد عبد الله دراز ٬ وأحمد عبد الرحمن البنا ٬ و... ٬ وغيرهم من رجالات الثقافة الإسلامية الذين ماتوا مع هذا الجيل أو بعده؟ لا…

إن هؤلاء يموتون فى صمت أو فى ضجة ٬ ثم لا تمر أيام حتى ينسحب عليهم ذيل النسيان ...

ومن أسابيع ثارت عاصفة فى الصحف لأن إحدى المغنيات فى شيخوختها لم تجد سعة الرزق التى عرفتها فى شبابها!! واقتضى تكريم الفن ! إرسال النجدة على عجل !!

ترى كم من رجال الثقافة الإسلامية يلقون هذه الرعاية عندما يولى شبابهم ؟ إذا ورث الجهال أبناءهم غنى وجاها فما أشقى بنى العلماء

• القيمة الحقيقية للفنون :

منذ سنين طويلة وأنواع الفن من غناء ورقص وتمثيل تحظى بعناية مضاعفة ويبذل لها من التشجيع المادى والأدبى ما يستثير الدهشة.

والمال سيل غدق ٬ والشهرة آفاق عريضة ٬ والاحترام الفردى للفنان ٬ والجماعى لطبقته ٬ مقرر فى المحافل الرسمية والشعبية على سواء.

وقد أحسست شيئا غير قليل من الاستغراب لما قرأت كتابا عن الشيخ زكريا أحمد بعد وفاته بأيام قلائل.

إن هذا الشيخ لو بقى يتلو القرآن وحده لمات قبل مجئ أجله بخمسين سنة على الأقل !.

ولو أنه فقه القرآن وعلومه وتصدر للفتوى بها والخطابة فيها لمات عند مجئ أجله بعد حياة منغصة وعيشة ساخطة. .

ولكنه اشتغل بتلحين الأغانى ٬ جدها وهزلها إن كان فيها جد فعاش كريما ٬ ومات أكرم ٬ وصدر عنه بعد وفاته كتاب لم يصدر مثله بهذه السرعة عن رجالات العلم والأدب عندما وافاهم الأجل الحتم .

وتقدير ` الفنانين ` على هذا النحو يحتاج من الناحية الإنسانية والدينية إلى بعض التأمل.

فى روسيا حيث لا دين ٬ حلت الفنون حلولا جزئيا مكان الدين ٬ وحاولت أن تسد الفراغ العاطفى الذى خلخله الإلحاد ٬ وأن تشغل القلوب التى خلت من الله بأنواع شتى من المشاعر التى تصنعها الموسيقى والألحان والأغانى والتمثيليات.

ربما كان عناية الشيوعية بالفن عناية هائلة ترجع إلى هذه الضرورة النفسية ٬ ويكاد الفنانون هناك يكونون أغنى الطبقات وأهنأهم بالا ٬ وأدناهم إلى الشهرة.

وفى الغرب الرأسمالى يأخذ الفن أيضا أنصبة من العناية الملحوظة ٬ والسبب واضح. فأوروبا الغربية فى حالة تشبع وغنى فاحشين بعد أن ظلت عدة قرون تنهب ثروات للقارتين القديمتين آسيا وإفريقيا.

لقد بنت مدنها ومصانعها ومسارحها من حصيلة الاستعمار الذى أذلت به الأحرار ٬ واستنزفت به الحقوق. وهى بعد أن بلغت هذا الحد من الترف ترقص وتغنى ما تشاء.

وأمريكا كذلك فى ظروف اليسار والمتاع تجعل للهو جانبا ظاهرا فى حياتها. أما الأمم العربية والإسلامية ٬ فهى على النقيض من العالمين: الشيوعى ٬ والرأسمالى..

إنها أمم لها دين يشغل عاطفتها وفكرها بالكثير. ثم هى أمام واجبات مرهقة من البناء والتعمير تجعلها لا تعطى المجون والملاهى إلا قليلا من وقتها. ويتبع ذلك يقينا أن يكون المغنون وأهل الموسيقى والتمثيل وأشباههم فى منزلة العلماء والمفكرين والمهندسين وأمثالهم.

إن الأمة التى ترفع مقدمى المرح ٬ وتؤخر مقدمى الجد أمة مقلوبة الميزان. وتقليدنا للآخرين فى هذا المجال تقليد أعمى ٬ فلا نحن شيوعيون ٬ ولا نحن استعماريون..

عندما مات الممثل ` عادل خيرى ` كتب الأستاذ محمد زكى عبد القادر يقول:

" الفنان الممتاز منحة لا يجود بها الزمن دائما ٬ إنه لا يتربى بالدراسة والبحث والتثقيف ٬ إنه لا يصنع ٬ بل يوجد ٬ وما يتلو وجوده من دراسة وبحث وتثقيف ليس إلا من قبيل الصقل للموهبة التى هى الأساس.

ومن هنا كان الفنانون ثروة لا تقدر بمال ٬ لان المال لا يصنعها ٬ وهم يبلغون من أفئدة الجماهير ووجدانها ما لا يبلغه أحد ٬ لأنهم يخاطبون الشعور والقلب ٬ ويستخرجون منها أرق ما فيهما ٬ وأعمق ما فيهما.

وكثيرا ما يكون الفنانون موضع حسد لما ينالون من شهرة ومن مال وفير فى بعض الأحيان. ولكن الفنان الحق يبذل من فؤاده وجسده أضعاف ما يأخذ ٬ لأن ما يأخذه ليس هدفا ٬ إنما ما يعطيه هو الهدف ٬ ولذلك يعطى بغير حساب.

وهو لا يعطى من عقله الصامد. ولكن من وجدانه النابض ٬ والنبض انفعال ٬ والانفعال احتراق.

وقلما مات فنان فى عمر الزهور إلا كان موته أشبه بالاحتراق. وحتى من يموت منهم فى سن متقدمة يقترن موته حتما بما يشبه الاحتراق.

فالذين وهم من حسن الحظ قليلون يشعرون بحسد الفنان لما ينال من شهرة ومال يجب أن يذكروا أن الحياة متوازنة بطبيعتها ٬ وأنها إذ تمنح الفنان ما تمنح تأخذ منه أيضا كفاء ما تمنح " .

ونحن نرفض هذا الكلام جملة وتفضيلا ٬ فإن عد الممثلين والممثلات ٬ والراقصين والراقصات ٬ والمغنين والمغنيات أصحاب عبقريات إنسانية ممتازة تستحق التكريم ٬ ويعتبرون بها قادة محليين أو عالميين ٬ هبوط بالإنسانية وإسقاط لرسالتها.

إن مكان هؤلاء فى الحياة العامة ثانوى ٬ وسيرتهم يجب أن تخضع لرقابة صارمة تضبطها وفق واجبات الأمة ومثلها العليا ٬ ووفق مقرراتها الدينية والخلقية .

------( يتبع )-------
#محمد_الغزالي
#حقوق_الإنسان
كلمة حرة
نشر في 16 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع