Facebook Pixel
كل جهاد ننهى صلته بالله فهو مردود على أصحابه
1258 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

عن جهاد النفس محدثاً لنا بعد أن أصبحت رغباتنا المادية والمعنوية ينبغى أن تجاب، للكاتب محمد الغزالي من كتابه الجانب العاطفي من الإسلام

كتاب : الجانب العاطفي من الإسلام - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 17 ] جهاد النفس

السمة الملحوظة لأهل زماننا أنهم راضون عن أنفسهم مسارعون فى أهوائها، وهم يرون أن رغباتهم المادية والمعنوية ينبغى أن تجاب، وأن تزال من أمامها العوائق.

وعلى ضوء هذا الرأى يرسلون أحكامهم على الأشخاص والأشياء، وتتكون مذاهبهم الاجتماعية والسياسية.

وقد أسهمت بحوث علم النفس فى سوق الجماهير إلى هذا الاتجاه خشية ما يسمونه " بالعقد ". فشاع تدليل الطفولة فى ميدان التربية، وشاع بعد ذلك ترك الغرائز المختلفة تتلمس طريقها فى الحياة دون حرج أو دون رهبة.

ولانت الشرائع أمام هذا السلوك المقتحم الماضى فى طريقه لا يلوى على شىء..! وتغيرت مفاهيم الا"دب وضوابط الخلق فى أرجاء شتى كى تتجاوب مع لون هذه الحياة الجديدة.

ولسنا بصدد البحث عن أسباب هذا الاضطراب العام، وكل ما نبغى هنا أن نجدد حدود الحق التى درست ونقف الناس عندها.

نريد تحسين الحسن وتقبيح القبيح وفق منطق الدين وهدى الوحى، ثم نسوس النفوس لتألف ما هو حسن وتذر ما هو قبيح، وتعلم أن اكتمالها ومرضاة الله عنها فى التزام هذا وحده.

فى مقدمة ما يكفل للنفوس صلاحها أداء العبادات التى افترض الله عليها مهما شقت.

فالصلاة مثلا عمل رتيب موصول متجدد ما بقى الليل والنهار، وهو عمل ينبغى له قهر كل عذر، وترك كل شغل.

وهذا يثقل على أحلاس اللهو وعشاق الحياة، فإن الصلاة بين الحين والحين تنزعهم انتزاعا مما يأنسون إليه من متاع ومرح؟ أو مما يغرقون فيه من كدح واحتراف. ولذلك قال الله فى وصفها: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون)

ومجاهدة النفس لأداء هذه الصلوات الموقوتة أساس متين للكمال المنشود وكذلك القيام بجميع الطاعات التى أمر الإسلام بها، فإن هذه الطاعات مدارج الكمال المنشود، ومراحل الطريق إلى سمو الروح، ورضوان الله.

حاجة النفس الإنسانية إلى التهذيب والتزكية مثل أو أشد من حاجة العقل إلى الصقل والتثقيف.

ونحن فى هذا العصر ننظم مراحل التعليم فنقدر سنى الدراسة من عشرة إلى عشرين سنة كى نحصل على عقل مستنير مزود بقدر محترم من المعارف التى تجعله يحسن الإدراك والحكم.

أفتظن النفس تفتقر إلى أقل من هذا الأمد كى تستقيم طباعها وتعتدل ميولها، وتنضبط شهواتها وتتكون لديها القدرة على التسامى ومحبة الفضيلة والشرف؟.

إن تغليب العفة على الشره يحتاج إلى جهاد طويل.

فإذا كان المراد أن تبلغ النفس درجة تحب فيها الخير وتستلذه، وتكره فيها الشر وتزدريه فالأمر بحاجة إلى مران أطول، مران يلتقى فيه كفاح الإنسان نحو الكمال، والتوفيق الإلهى لبلوغ الشأو المقصود.

وبذلك يكون الإنسان ممن عنتهم الآية الكريمة: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم).

ونحن نلحظ فى كثير من الأحيان أن بعض الناس تفسد نفسه فسادا لا تستطيع معه أن تستبين الحق، بله أن تتبعه، وربما استمرأت العيش فى الأباطيل والجهالات كما يستمرئ جامعو القمامة العيش بين الفضلات والأقذار ما تزكمهم روائحها ولا تؤذيهم مقابحها...!!

وهذا الانتكاس قاتل للضمائر والأخلاق، موغل بأصحابه فى ليل ليس له فجر.

وكم يدعوا المرء ـ وهو يرقب هؤلاء الشاردين فى بيداء الحياة ـ : اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...

والشهوات التى تحتاج إلى رقابة وضبط زمام كثيرة، وهى متفاوتة الحدة فى آحاد الناس، ولكن أصولها ناشبة فى حياتهم على العموم.

هناك حب النفس، وحب النساء، وحب المال، وحب الظهور، هذه مثلا غرائز ما يخلو البشر من مباديها.

وقد تجد البعض فى حبه لنفسه لا يبصر غيرها، ولا يتحرك إلا بهواجس الأثرة وحدها.

وقد تجد آخر مفتونا بالثراء، يدأب ليله ونهاره فى جمع المال، يعشقه لذاته دون رغبة فى بذله مهما تطلبت الحقوق.

وقد تجد امرءًا على حاجته إلى المال يبذله كى يذكر اسمه ويذيع صيته، أو هو فى سبيل سمعته يتسلق الوعر ويتوسد الجمر.

ومن الناس من يهيم وراء الغيد كأنه ظمآن لا يجد الرى أبدا.

وعلى مبادئ هذه الغرائز تعتمد الحياة الإنسانية فى بقائها ونشاطها، ومن طيش هذه الغرائز تفسد الأرض، وينتشر الهرج والمرج، وتصاب الأعراض، وتسفك الدماء.

ألا ترى القليل من الماء يتناوله الإنسان فيذهب الظمأ وتبتل العروق، فإذا صار لجة ووقع الإنسان فى مدها كتمت أنفاسه، وزحمت أمعاءه، وأزهقت روحه؟.

وعلى طول الخط الطويل الممتد من المهد إلى اللحد يواجه الإنسان أمورا شتى تحتاج إلى فؤاد صاح وبصيرة نيرة، فإن اشتباك النفس بهموم الرزق، وفتون الناس، وتلقيها ألوان الوساوس، وتأرجحها بين جواذب اليمين واليسار، وفقرها إلى استجماع قوى كثيرة كى تحقق الخير، وكى تصد الشر، ذلك كله يستدعى جهادا متصل الحلقات.

ولن ينجح الإنسان فى هذا الجهاد إلا إذا مرن على عصيان هواه ومضى قدما على الصراط المستقيم جلدا مثابرا لا يقعده إعياء ولا يرده استرخاء...

وقد حذر الله خيرة خلله من الهوى، وبين أن اتباعه حجاب عن الله، ومزلقة عن الحق.

انظر ما قال لداود عليه السلام: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).

ويقول الله لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير).

ويقول: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).

ويقول: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق).

ويصف الكافرين بأن أهواءهم هى التى سولت لهم الزور وزينت لهم الجهل: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله).

بل يكشف أن كثيرا من الناس يرين على قلوبهم الهوى، ويكمن وراء أقوالهم وأعمالهم وأحكامهم، وينسج على حواسهم غشاوة محكمة فلا يرون ولا يسمعون إلا ما ينبع من طواياهم، أى أنهم لا يرون الحياة الخارجية على حقيقتها، بل يرونها من خلال تفكيرهم الخاص، كما ترى الجو أزرق من خلال زجاجة زرقاء.

(أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا)

إن البهيمية مذهب معروف عند كثير من الخلق، وهو أقصر طريق إلى جزى الدنيا وعذاب الآخرة.

إنه لا يكلف أصحابه إلا حب الراحة، وطلب اللذة، والاحتفاء بالنزوات العابرة والاهتياج مع الشهوات الفائرة، وإبداء الرأى دون عقل، إرسال الحكم دون عدل، وتفضيل عاجل رخيص على آجل غال.

وقد حدد القرآن مصير هذا السلوك بجلاء (فأما من طغى * و آثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى).

وتقويم جهاد ما لا ينظر فيه إلى مقدار ما يبذل من تعب، وإنما ينظر فيه قبل كل شىء إلى نية المقارنة والغاية المقصودة.

فإن اللص يسهر الليل ليختل النائمين، والشرطى يسهر الليل يحرس الأمن لقاء راتب معهود، والمتهجد يهجر فراشه ويدع لذيذ الرقاد لا لشىء إلا ليعبد ربه فى هدوء وصفاء، ويتدبر آياته فى خشوع ورجاء، مرتقبا فى الآخرة ثمار ما يغرس في الدنيا: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون).

إن سهر هؤلاء الثلاثة واحد والفرق بينهم شاسع.

فأما الأول فمجرم يستحق العقوبة بما بيت من إثم.

وأما الثانى فأجير يؤدى واجبه بثمن لو تأخر عنه قليلا لسخط وترك ما كلف به.

وأما الأخير فرجل مؤمن بالغيب والشهادة. يعرف ما يعمل، ولمن يعمل؟.

ومن هنا فنحن لا نكترث لكل جهاد نفسى، ولا لكل عناء يتجشمه البشر، مالم يكن جهادا رشيدا محكوما بإطار من هدى السماء وصحة الأداء.

إنك تسمع عن فقراء الهنود، وعن ساستهم، قصص الصيام الطويل المضنى. وهذا من غير شك إرهاق للبدن تسانده عزيمة شديدة، وإرادة غالبة.

ومع تقديرنا المجرد لقوة العزم وتماسك الإرادة لا نرى فى هذا المسلك ما يستحق التنويه والحمد.

ولو أن أحدهم دفن نفسه فى الرغام شهورا ـ كما يروون ـ ما أبهنا كثيرا ولا قليلا لهذه الحكايات. وهى عندنا تساوى استعراض العضلات الذى يقوم به فتيان الرياضة البدنية غاية ما هنالك من فرق أن هذا بالزائد. وذاك بالناقص.

هذا استعراض شبع، وذاك استعراض جوع، وفى كلا الفريقين استعداد طبيعى لما برع فيه. وهذا وذاك ليسا الجهاد النفسى الذى أقره الإسلام.

ومن الرهبان من يحيا آمادا طويلة وهو محروم من طيبات الحياة، ومن يجاهد نفسه جهادا شاقا وهو يحملها على ما تكره. ولكن ضلاله عن الحق، وجهله بالله الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، يجعل كل متاعبه تذهب سدى. ولن يزيد فيما يعانى، عن فقراء الهنود الذين شرحنا حالتهم آنفا.

ولكى يكون الجهاد النفسى صادقا لابد أن يجىء تنفيذا لخطة رسمتها الشريعة، وبينت معالمها بوضوح. ومن هنا فالجهاد المقبول لا موضع له إلا إذا كان انتهاء عن حرام أو انتهاضا إلى واجب.

الجهاد المقبول هو الذى يسبك النفس فى بوتقته لتصفو من درنها ثم تصاغ وفق القالب الذى أراده الله لها. الجهاد المقبول هو الذى يستهدف وجه الله فى كل حركة ويتحرى حكمه فى كل وجه.

وكل جهاد ننهى صلته بالله فهو مردود على أصحابه...

----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى
#الجانب_العاطفي_من_الإسلام
كلمة حرة
نشر في 18 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع