1280 مشاهدة
0
0
لابد من ضبط النفس وكبت شهوات كثيرة تهدم ولا تبنى وتقعد ولا تقيم وهذا معنى لعبادة الصوم التي يستغربها العصر الحديث
كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 31 ] عبادة يستغربها العصر الحديث
أظن الحضارة الحديثة تكره الصوم وتنكر فلسفته! فهى ـ بشقيها الغربى والشرقى ـ تعبد الجسد، وتلبى رغباته وتستغرب اعتراضها، ثم هى لا تمد البصر إلى أبعد من هذه الحياة الدنيا، فما بعد الموت وهم لا مساغ لتصديقه ولا للإعداد له! ويعنى ذلك إشباع النهمة إلى هذه الحياة العاجلة، وانتهاز الفرصة للوجود هنا كى ننال كل شىء، إذ لا شىء بعد.
وقد صور القرآن الكريم هذا الإحساس المادى المغرق بقوله: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون).
والتشبع من الحياة قبل أن تنتهى، وينتهى معها الوجود كله هو تفكير الجاحدين للألوهية، المستبعدين لليوم الآخر، المعولين على أعمارهم فوق هذا التراب وحده! وربما كان ذلك مسلكا شاذا أو نادرا بين الأقدمين، ولكنه الآن مسلك شائع بين جماهير من الضائقين بالأديان سقيمها وسليمها.. وهؤلاء يقينا هم المعنيون بقوله سبحانه: (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم).
إن أحدا من هؤلاء لا يفرط فى تناول طعامه، بل لا يفرط فى تناول سيجارته من أجل ثواب يتخيل، إنه عبد يومه وحسب..
وقد نتساءل: كيف يوصف أولئك (المثقفون) بأنهم يأكلون كما تأكل الأنعام مع أنهم يحسنون التفكير والإنتاج؟
والجواب أن الأكل عند هؤلاء مصدر الطاقة اللازمة للبدن والرفاهة المطلوبة للحياة فهو غاية تقصد لذاتها، ولا يقبل إرجاؤها أو انتظار بديل عنها فى عالم الغيب. إن المتعة فى هذه الدار وحدها، وذاك ما شرحته آيات أخرى: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون).
أو قول الله فى تحديد الدائرة التى يحيا الكافر داخلها: (إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور * بلى إن ربه كان به بصيرا).
وشريعة الصيام لها محور آخر تدور عليه، وأشواق أخرى ترنو إليها، وهى تناقض مناقضة تامة قصة أن الحياة جسد لا روح، ودنيا لا آخرة..
إننا نحن المسلمين نعتقد أن الوجود الإنسانى طويل ذاهب فى الطول، وأن الموت ليس نهاية له كما يتصور البعض، إننا بالأسلوب الذى نحيا به هنا، نصنع المستوى الذى نحيا به هناك، فإذا عرفنا ربنا فى هذه الأرض نضر وجوهنا يوم لقائه، وكان لنا عنده مهاد صالح.
أما عبيد التراب فالويل لهم! (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين).
بيد أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الشرح، فإن بعض المتدينين ظن ذكر الآخرة إضاعة للدنيا، وظن ترجيح الروح توهينا للجسد، وحسب أن التسامى الروحى وكسب نعيم الآخرة إنما يتمان على حساب عافية واهنة، ودنيا غلبها الذبول!
والحق أن هذا جهل بالإسلام وظلم لتعاليمه، فإن الدين لم يطلب أكثر من إحكام الرقابة على الغرائز البشرية حتى لا تطغى وتزيغ، والمرء إذا استجاب لكل رغبة، وسارع لكل شهوة فقد كرامته وأدبه لا محالة!
ويعجبنى قول الشاعر العربى:
إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل .. عليك بروق جمة ورواعد!
إذا أنت لم تترك طعاما تحبه! .. ولا مقعدا تدعى إليه الولائد!
تجللت عارا لا يزال يشبه .. سباب الرجال نثرهم والقصائد
نعم.. فلابد من ضبط النفس وكبت شهوات كثيرة تهدم ولا تبنى وتقعد ولا تقيم... وهذا معنى الصوم، وأثره المنشود. ولا شك أن قمة الكمال فيه أن يتم إيمانا واحتسابا، فإن الفضائل كلها تتهاوى وتفقد رصيدها السماوى عندما يقارنها الرياء أو الغش ونسيان الله..
والدين يضع الدنيا موضعها الصحيح، فلا يبخسها ولا يغالى بها، لو كان عمر الآخرة عشرة أضعاف عمر الدنيا لوجب توزيع الاهتمام على شئون الدنيا والآخرة بهذه النسبة! فكيف والآخرة أخلد وأجدى؟ ومع ذلك فإن الدين ما استهان بالدنيا، وإنما رفض الاغترار بها والتكاثر فيها والاحتباس فى مآربها (والله عنده حسن المآب).
فهل نفهم هذه الحقائق العالية من رمضان ومن فريضة الصيام فيه والقيام فى لياليه؟
إن سعارا ماديا محرقا يجتاح المدن والقرى ليباعد الناس عن ربهم، وعلى المؤمنين أن يطفئوا هذا السعار، وأن يحموا حقيقة الشهر المبارك وأن يجعلوا من الصيام المفروض مجلى للروحانية المقبلة على الله المؤملة فى رضاه.
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
نشر في 10 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع