1308 مشاهدة
0
0
إذا تحدث الإنسان عن مستقبله وضرورة الإعداد له ولا يعنى ذلك بداهة لفته عن حاضره وصرفه عن مواجهته، من كتاب علل وأدوية للكاتب محمد الغزالي
كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 30 ] دنيا وآخرة
التعريف بالآخرة حق، وهو شىء آخر غير التجهيل فى الدنيا! كما تحدث إنسانا عن مستقبله وضرورة الإعداد له ولا يعنى ذلك بداهة لفته عن حاضره وصرفه عن مواجهته.
لكن بعض المربين والدعاة تغيب عنه هذه الحقيقة فيسىء أكثر مما يحسن، ويترك فى النفوس انطباعا بأن الدين عدو الدنيا، وإن أحدا لا يبلغ حقيقة التقوى إلا إذا عاش وهو يعانى كآبة المنظر فى الأهل والمال، أو إلا إذا عاش وهو جاهل بحقائق الحياة وقوانين المادة وسنن الله فى كونه.
واختلال الميزان العقلى فى هذه النظرة السيئة أنشأ أجيالا من المسلمين لا تفقه دينا ولا تملك دنيا، بل لعله من أهم الأسباب فى التخلف الحضارى الذى أهان المسلمين فى المشارق والمغارب..
نحن لا ننكر أن الدين أطال الحديث عن الدار الآخرة، وبث فى النفوس الأشواق إلى نعيم الجنة كما بث فيها المخاوف من عذاب النار، لكن هذا الإسهاب فى الوعد والوعيد هو لتهذيب الغرائز وكبح جماحها، ومنع طغيان العاجلة على الآجلة، وإخراج المرء من القوقعة الأرضية التى يحتبس داخلها غالبا. وفتح بصيرته على آفاق أوسع وحياة أخلد.
أما القصور فى فهم الدنيا، والغربة على سطح الأرض، والعجز عن امتلاك زمام الحياة، فهذا كله لا يدل على تقوى، بل يدل على طفولة فكرية يضار بها الدين وتنكس بها ألويته وتتقهقر بها تعاليمه.
وليت شعرى ماذا يفيد الإسلام من رجل مكن الله له فى الأرض فلم يتمكن، أو جعلها له ذلولا ليركبها ويبلغ بها غايته، فإذا هى تجمح به، وتسقطه من فوق ظهرها، وإذا هو طريح الثرى والعجز؟ وما العمل إذا استطاع ملاحدة ومخرفون امتلاك أسرار الحياة ثم طوعوا ما يملكون لدعم كفرهم وتغليب أهوائهم؟
إننى أشعر بالأسى لأن نفرا من المتحدثين فى الدين ليس على مستوى هذا الحديث، وقد قال علماؤنا: إنه لكى يصح العمل ويقبل لابد من صدق النية وسلامة الطريق! ويعنى سلامة الطريق، أو صحة الطريق بعبارة أجلى، أن يتم العمل وفق العقل أو النقل فلو أن امرأ صام عن الكلام لا عن الطعام ما قبل صومه، ولو أن امرأ صلى بغير ركوع ولا سجود ما قبلت صلاته، لابد من موافقة الشارع فيما رسم، كذلك لابد من موافقة العقل فيما وكل إلينا شكله وموضوعه، فلا يقبل جهاد بالعصا فى وجه الدبابة، ولا جهاد بالخيل فى وجه التفجير الذرى!
والغريب أن الأعمال الصالحة فى هذا الميدان العقلى أضعاف مثيلاتها فى الميدان النقلى! والمسلمون المعاصرون فى كلا الميدانين زائغو البصر مضطربو الخطى، والخلخلة التى تسود أجواءهم العلمية تثير الفزع، وتجعلنا نخشى على المستقبل.
وسمعت خطيبا يشرح سورة (التكاثر) ويزهد الناس فى الدنيا ويسوق نصوصا أكثرها مقبول بيد أنى شعرت بحيرة، وكنت أقرب إلى الضيق منى إلى الرضا..
إن النهى عن الأكل فى صحاف الذهب والفضة وارد، غير أن سوق هذا إلى الخدم والعمال لا مساغ له! والأمر بالعدل بن الزوجات مطلوب، وتوجيه هذا الكلام إلى نزلاء السجون شىء مضحك وما أزعم أن عامة المسلمين أحسنوا مواقفهم من الدنيا واستغنوا عن النصح الطيب. فأغنياء المسلمين وفقراؤهم سواء فى الحاجة إلى فهم طبيعة الحياة، سواء قل نصيبهم منها أو كثر..
إن كلمة (ألهاكم التكاثر) بالغة الدقة فى تصوير رذائل الحياة، وهناك تنافس مجنون على جمع الحطام شغل أصحابه عن الوظيفة الصحيحة للمال، ذلك أمر مذموم يقينا، لأنه عبادة للدنيا وذهول عما وراءها.
أما الأموال التى قال الله فيها: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) فإن جمعها وتنميتها حق، والمفروض أنها لا تلهى مؤمنا عن واجباته، بل هى صون لهذه الواجبات وتحصين لها، محور هذه السورة هو التعريف بالآخرة لا التجهيل فى الدنيا ولا التزهيد فيها..
إن هذا الإعلام بحقائق الآخرة تكرر ثلاث مرات فى قوله تعالى: (كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون).
والتعريف بالآخرة ليس تجهيلا بالدنيا أو صرفا عنها كما يتصور البعض فربما أوجب عليك الإسلام أن يكون لك مال قارون، على ألا يكون لك كبره أو شحه أو فساده.
إن الصعلكة لا تقيم جهازا للجهاد ولا تبنى جامعة للمعرفة، إنما ينشئ ذلك كله كثرة لا تلهى وسعة لا تطغى ودنيا يسخرها مالكها لخدمة الدين.
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
نشر في 10 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع