1271 مشاهدة
0
0
الحرية السياسية من كتاب حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة للكاتب الشيخ محمد الغزالي
كتاب : حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة - تأليف : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 6 ] : الحرية السياسية
إذا منح الله الإنسان عقلا فلكى يفكر به ويهتدى بنوره فتلك وظيفة العقل ٬ وثمرته المرجوة ٬ والله جل شأنه يكره أن يهدر إنسان هذه المنحة فيحيا أحمقا وهو يستطيع الرشد ، بليدا وهو يستطيع النظر.
وإذا ذرأ الله الناس على فطرة سليمة ينبعثون منها كما ينبعث السهم إلى غايته. فهو يأبى عليهم عوج الطبع ٬ وزيغ الخطو ٬ وضلال الوجهة.
إن المهندس الذى يبتكر آلة لتدور بمحركات داخلية ٬ لا يعتبر هذه الآلة صحيحة ولا ناجحة إلا إذا دارت وفق ما قدر لها ٬ وأدت الغرض المقصود منها. أما إذا أديرت باليد لعطل أصابها ٬ أو جرتها دابة مثلا ٬ فهى آلة فاشلة لا تساوى شيئا .
وكل تدين يصحبه فساد الفطرة وشلل العقل فهو تدين تافه عديم القيمة ٬ لأنه أمات الحقيقة الإنسانية ٬ وجعل تعاليم الدين أعوادا تغرس فى الثلج أو الصخر ٬ هيهات أن يكون لها ورق أو ثمر.
ومن هنا فنحن نرفض فهم الإسلام بعيدا عن منطق الفطرة والعقل ٬ لأنه من المستحيل سلخ الشئ عن حقيقته ٬ ثم إصدار حكم له أو عليه. والإسلام دين الفطرة والعقل ٬ هكذا وصفه كتابه ٬ وأقامه نبيه ٬ ومن العبث تجريد دين من خصائصه ٬ ثم محاولة تصوره وتصويره. ويؤسفنا أن بعض المسلمين لم يتعرفوا على الإسلام التعرف الواجب ٬ فساء عملهم به بعد ما ساء فهمهم له.
وقضية الحريات الأساسية للإنسان تتطلب فى شرحها استعراض الإسلام نصا وروحا ٬ حتى يعرف بعيدا عن التطبيقات الخاطئة والتقليد المجرد. ونحن باسم الله نحصى هذه الحريات.
• الحرية السياسية
وهى تعنى فى عصرنا هذا أمرين:
“ أ “ حق كل إنسان فى ولاية الوظائف الإدارية صغراها وكبراها ما دام بكفايته أهلا لتوليها.
“ب” حق كل إنسان أن يبدى رأيه فى سير الأمور العامة ٬ وتخطئتها أو تصويبها وفق ما يعتقد.
والحريات السياسية بشقيها تقوم على أن المناصب المختلفة وسائل لخدمة المجتمع ٬ وأن ما يشغلها موضع الرقابة الدقيقة من جمهور الأمة.
والواقع أن الإسلام لا يفهم وظائف الحكم إلا داخل هذا النطاق المحكم.
رئيس الدولة فمن دونه من الموظفين أشخاص تختارهم الأمة ٬ ولا يفرضون عليها أبدا . وهى تختارهم لما تتوسمه فيهم من صلاحية لإدارة الأعمال التى تسند إليهم ٬ وتعطيهم نظير ذلك أجرا يقوم بأودهم ويكفل معايشهم وأولادهم .
وهم باقون فى وظائفهم ومستحقون أجرتها ما بقيت لهم هذه الصلاحية ٬ وإلا نُحُّوا عنها وخلفهم عليها من يقدر على أعبائها.
ليست ولاية أى وظيفة وقفاا على أسرة من الأسر ٬ فما يزعمه الملوك من حق إلهى ينولون به شئون الناس خرافة لا أصل لها.
إن النبوة اصطفاء من الله ٬ أما الخلافة عن النبوة فى حكم الناس بالحق الذى بينه الله فهذا أمر موكول للمسلمين يختارون له الأكفأ والأرشد .
عندما توفى النبى ` صلى الله عليه وسلم ` ٬ فكر الصحابة لفورهم فيمن يخلفه على سياسة شئونهم الدينية والدنيوية.
وكان هذا التفكير فى نظرهم من الخطورة بحيث أعجلهم البت فيه عن دفن الجثمان الطاهر.
فلما اجتمعوا فى سقيفة بنى ساعدة كيما يختاروا الرئيس الأعلى للأمةكانوا يتشاورون بحرية ظاهرة ٬ فى ترشيح أكفأ من يعرفون ليلى الأمر بعد رسول الله ` صلى الله عليه وسلم `والتطلع للقيادة غريزة معتادة .
ولا حرج فى هذا التطلع إذا كان المرء يعرض مواهبه لتكون في خدمة الأمة ورسالتها.
إنما الإثم على الذين يرغبون فى الصدارة طلبا للوجاهة ٬ وتأميلا فى مظاهر الدنيا الفارغة ودون اكتراث بطبيعة الرسالة التى يحملونها.
والذى يهمنا أن الروح الذى سيطر على هذا الاجتماع الفريد كان غريبا وسط ما يدور فى العالم يومئذ من توارث السلطة ٬ أو السطو عليها بالسيف.
لقد تحدث المؤتمرون فيمن يختار خليفة ٬ ثم انتهوا إلى مبايعة أبى بكر ٬ الذى برهن فى مدة حكمه القليلة أن أيامه كانت امتدادا لعهد الرسول ` صلى الله عليه وسلم ` نفسه .
إن أبا بكر كان من بيت ضعيف فى قريش ٬ وترشيحه لا يقود إلا للخصائص النفسية التى تطلب فى كل قائد يحب ويقدم عن طواعية وإعزاز.
ثم تولى إمارة المؤمنين عمر بن الخطاب ٬ وقد شرحنا فى كتاب آخر الظروف العسكرية التى كانت تكتنف الدولة الإسلامية شرقا وغربا ٬ أيام أبى بكر ٬ وخطورة إجراء انتخاب واسع لتنصيب الخليفة الثانى.
لكن هل قضت تلك الظروف باغتصاب مشيئة الرأى العام ٬ أو الميل عن طبيعة الشورى الإسلامية ؟
لا ٬ إن الخليفة الأول أدى واجبه أداء كريما وسط الأعاصير التى واجهت الإسلام من قبل الروم والفرس جميعا .
قال الأستاذ عثمان خليل عثمان: ` إذا كان أبو بكر قد اختار عمر قبيل وفاته ٬ فما كان ذلك تعيينا من جانبه وحده ٬ بل إنه عهد بذلك للناس أول الأمر وقد جمعهم من أجله ٬ وقال لهم: ` إنه قد نزل بى ما ترون ولا أظننى إلا ميتا... فأمروا عليكم من أحببتم ٬ فإنكم إن أمرتم فى حياة منى كان أجدر ألا تختلفوا بعدى `.
ولكنهم لم ينتهوا فى الأمر لرأى ، فردوه إلى أبى بكر ٬ فاستشار ٬ وانته إلى ترشيح عمر.
وعرض الأمر على الناس فوافقوا على اختياره ٬ ولم يمنع ذلك من وجود معارضين فى الرأى خلال هذه الاستشارات .
فمما يذكر أن بعض الأفراد دخلوا على أبى بكر قبيل الوفاة وقال له أحدهم : ما أنت بقائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته ٬ وهو إذا ولى كان أفظ وأغلظ ؟
فرد أبو بكر قائلا ` أبالله تخوفنى ؟ خاف من تزود من أمركم بظلم !! أقول: `اللهم إنى قد استخلفت على أهلك خير أهلك `.
ازاء هاتين السابقتين فى اختيار الوالى. عندما جاء دور عمر فى ترك الأمانة بعد الطعنة القاتلة التى أصابته ٬ وبعد أن قيل له ` أوص يا أمير المؤمنين.. استخلف ` قال رضى الله عنه : أأتحمل أمركم حيا وميتا ..؟! وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى . يعنى أبى بكر. وإن أترككم فقد ترككم من هو خير منى ٬ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم ذكر أسماء ستة من كبار الصحابة هم عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب ٬ عبد الرحمن بن عوف ٬ وسعد بن أبى وقاص ٬ وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وأضاف إليهم أبنه عبد الله على أن يكون له رأى دون أن تكون له الخلافة . وترك للمسلمين فى النهاية البت فى الأمر .
ومما أثر عن عمر كذلك أن المغيرة بن شعبة زين له يوما أن يستخلف ابنه عبد الله على المسلمين من بعده ٬ فأبى ذلك قائلا `:لا أرب لنا فى أموركم ٬ وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من بيتى. إن كان خيرا فقد أصبنا منه ٬ وان كان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد`.
كما أثر عن عمر بن عبد العزيز عندما آل إليه ملك بنى أمية بالوراثة أنه دعا الناس إلى المسجد ٬ وقال قوله المأثور: ` أيها الناس.. إنى قد ابتليت بهذا الأمر أى وراثة الحكم عن غير رأى منى فيه ٬ ولا طلبة له ٬ ولا مشورة من المسلمين. وإنى قد خلعت ما فى أعناقكم من بيعتى ٬ فاختاروا لأنفسكم `.
وقد تصايح الناس فى المسجد هاتفين به أميرا للمؤمنين عن رضا واختيار.
ورغب بعض الناس إليه قبيل إسلام روحه ٬ أن يعهد بالخلافة من بعده لمن يرى ٬ فأبى أن يقع فى مثل المحظور الذى وقع فيه بنو أمية .
ونذكر فى هذا الخصوص كذلك أن عليا كرم الله وجهه عندما ذهب بعض الصحابة إلى بيته ٬ ليبايعوه خليفة بعد مقتل عثمان وألحوا عليه فى قبول البيعة: قال: ` ففى المسجد ٬ فإن بيعتى لا تكون خفية ٬ ولا تكون إلا عن رضا المسلمين..`.
كما أنه بعد أن تولى الخلافة قرابة خمس سنوات ٬ وطعنه فى المسجد عبد الرحمن بن ملجم من الخوارج ٬ وشعر المسلمون بدنو أجله أقبل بعضهم وقالوا: `إن فقدناك ولا نفقدك أفنبايع الحسن ؟ `. فقال لهم : ` ما آمركم ولا أنهاكم .. أنتم أبصر .. `.
الخلافة بيعة حرة ٬ وهى أمانة ثقيلة ٬ يطلب لها أعظم الناس تقى وعلما . وغيرها من المناصب يحمل هذا الطابع نفسه . ولا يجوز أن تتدخل فى ملئه أسباب الطمع والتطلع والسيطرة .
` فمن معانى الأمانة وضع كل شئ فى المكان الجدير به ٬ واللائق له ٬ فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به. ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذى ترفعه كفايته إليها .
واعتبار الولايات والأعمال العامة أمانات مسئولة ثابت من وجوه كثيرة. فعن أبى ذر قال : قف : يا رسول الله .. ألا تستعملنى ؟ أى تولينى عملا قال: فضرب بيده على منكبى . ثم قال: ` يا أبا ذر إنك ضعيف . وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى وندامة . إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها `.
إن الكفاية العلمية أو العملية ليست لازمة لصلاح النفس فقد يكون الرجل رضي السيرة حسن الإيمان ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجا في وظيفة معينه.
ألا ترى إلى يوسف الصديق ؟ إنه لم يرشح نفسه لإدارة شئون المال بنبوته وتقواه فحسب بل بحفظه وعلمه أيضا: “…قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم “ .
وأبو ذر لما طلب الولاية لم يره الرسول صلى الله عليه وسلم جلدا لها فحذره منها .
والأمانة تقضى بأن نصطفي للأعمال أحسن الناس قياما بها فإذا ملنا عنه إلى غيره لهوى أو رشوة أو قرابة فقد ارتكبنا لتنحية القادر ولتولية العاجز خيانة فادحة.
قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: “ من استعمل رجلا على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه . فقد خان الله ورسوله والمؤمنين “
. وعن يزيد بن أبى سفيان قال: قال لى أبو بكر الصديق حين بعثنى إلى الشام: يا يزيد .. إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك أكثر ما أخاف عليك بعد ما قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم” . “ من ولى من أمر المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله ٬ لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم “ .
والأمة التى لا أمانة لها هى الأمة التى تعبث فيها الشفاعات بالمصالح المقررة وتطيش بأقدار الرجال الأكفاء لتهملهم وتقدم من دونهم .
وقد أرشدت السنة إلى أن هذا من مظاهر الفساد الذى سوف يقع آخر الزما` جاء رجل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : متى تقوم الساعة ؟ فقال له: “ إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة” ! فقال: وكيف إضاعتها ؟ قال: “إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة “ .
وظائف الدولة فى نظر الإسلام أعمال لها مواصفات معينة من استجمعها رشحته مواهبه لها دون نظر إلى شئ آخر.
والمأخوذ على الحكام المستبدين أنهم يؤثرون بالوظائف أنصارهم أو يخصون بها بعض العصبيات ويفقدونها معالمها العامة.
والإسلام يرفض ذلك كله. فإذا باشر حاكم ما سلطات الوظيفة المخولة له فإن يده ليست مطلقة يفعل ما يشاء. بل هو يتصرف تحت (رقابة الأمة ) التى يريد أن يطمئن إلى سلامة مصالحها ٬ وإلى استقامة رسالتها فى هذه الحياة. وذاك ما ندب الحاكم للقيام به ٬ واستحق طاعة العامة من أجله.
ولعمر بن الخطاب قول مأثور فى هذا الصدد ٬ حيث قال: `أيما عامل لى ظلم أحدا وبلغتنى مظلمته فلم أغيرها . فأنا ظلمته ..!! `. `
أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل ٬ أكنت قضيت ما على ..؟ قالوا : نعم ٬ فقال : لا ٬ حتى أنظر عمله ٬ أعمل بما أمرته أم لا ` ؟.
وقد ظلم أحد الولاة رجلا من الرعية فى أرضه فشكاه إلى عمر فبعث إليه يقول : ` أنصف فلانا من نفسك وإلا فأقبل .. والسلام ` . فرد الوالى الأرض إلى صاحبها . وفى خطاب له إلى أحد الولاة يقول كذلك: ` افتح لهم بابك وباشر أمورهم بنفسك ٬ فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقل منهم حملا `.
كما كتب إلى عامله أبى موسى الأشعرى يقول: ` قد بلغ أمير المؤمنين أنه فشا لك ولا`هل بيتك هيئة فى لباسك ومطعمك ومركبك ٬ ليس للمسلمين مثلها . فإياك يا عبد الله أن تكون مثل البهيمة التى مرت بواد خصب ٬ فلم يكن لها هم إلا السمن ٬ وإنما حتفها فى السمن . واعلم أن للعامل مردا إلى الله ٬ فإذا زاغ العامل زاغت رعيته ٬ وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته `.
ولقد بلغ عمر أن أميره على الكوفة سعد بن أبى وقاص قد بنى لنفسه منزلا فخما ٬ وجعل عليه حاجبا ٬ فأرسل مفتشه محمد بن مسلمة وأمره أن يأخذ زيتا وحطبا .. فيحرق قصر سعد ٬ وبعث معه بكتاب جاء فيه :
` بلغنى أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا ويسمى بيت سعد ٬ وجعلت بينك وبين الناس بابا ٬ فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال .. لا تجعل على منزلك بابا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم `.
بل لقد كتب إلى عمرو بن العاص والى مصر يقول له: ` بلغنى أنك تتكى فى مجلسك ٬ فإذا جلست فكن كسائر الناس `.
لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب نظرات صارمة فى حياطة الدين ورعاية أمته ٬ والارتفاع بالحكم عن مستوى الشبهة ٬ والتزام منطق الورع فيما يتصل بالمال العام .
إن من حقه لأنه رئيس الدولة أن يتقاضى راتبا من أموال المسلمين. أليس يكدح لهم ٬ ويشتغل لمصلحتهم ؟
لكنه أبى أن يأخذ من مال المسلمين شيئا ٬ إلا أن يحتاج فيأخذ ٬ للضرورة ٬ لا لأنه موظف . وسياسته فى ذلك حددها فى تلك الكلمة: “ أنا فى مال المسلمين كولى اليتيم إن استغنيت استعففت ٬ وإن افتقرت أكلت بالمعروف ` .. !!
من أجل ذلك رفض عمر أن يكون ولاته أصحاب مدخرات من مرتباتهم يتجر لهم فيها ٬ ويعود عليهم نماؤها.
ومن حق أى موظف شرعا أن يقتصد ٬ ويثمر أمواله فى أى وجه شاء ٬ ما دام لا يستغل نفوذه فى تجارة أو احتراف .
بيد أن أمير المؤمنين رأى أن الدولة الإسلامية فى مستهل عصر البناء . وأنها فى فترة تقديم النماذج الرفيعة للحكم الذى يتجرد عن كل نفع فى سبيل نصرة الرسالة ورعاية الجماهير.
لقد بدأ الإسلام مسيره السياسى فى عصر كانت الشعوب فيه مأكلة للحكام. فأراد أن يعرف العالمون وجهة نظر الإسلام الجديدة فى علاقة الشعوب بحكامها ٬ وهى أن الحاكم أجير وحسب .
وأن ما يأخذه من المال العام ثمن عرقه فى خدمة الناس ٬ وأن من حدثته نفسه بأن هذا المال إرث له عن آبائه ٬ أو أن يده فيه مطلقة التصرف فهو ضال يجب الضرب على يده .
وشى آخر يعتقد عمر بن الخطاب أنه المنتظر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأقربين:
ألا يلوا مناصبهم وفى نفوسهم حرص على ما تدره من راتب ٬ أو ما تقتضيه من وجاهة .
فإذا بدا على أحدهم أنه أثرى فى وضعه الجديد لم يستبقه عمر ٬ وإن كانت ثروته من حلال ٬ يجب أن يكونوا مثله فى التجرد ٬ وإلا طردهم من وظائفهم.
وعلى ضوء هذا تدرك حقيقة كل المرويات فى هذا الشأن من عزل عن المناصب ومصادرة للأموال.
وللحاكم أعمال عادية يسوس بها الأمور ٬ وتعد من شئون الدنيا التى لا نص للشارع فيها. وهذا الضرب من الأعمال لا يجوز أن يستبد الحاكم به ٬ بل ينبغى أن يستشير أهل الذكر ويستطلع آراءهم ٬ فهو فيه عرضة للخطأ والصواب ٬ ولا يقبل منه أن ينطلق وفق ما يبدو له.
إن رسول الله ` صلى الله عليه وسلم ` بين أنه وراء دائرة الوحى بشر يستمع لآراء الآخرين ٬ ويستنير بها ٬ وهو معرض للنسيان أو للخطأ فى شئون الدنيا.
فكيف يزعم أحد الحاكمين أنه لا يخطئ ٬ أو أنه مستغن عن المشيرين.
عن موسى عن طلحة عن أبيه ٬ قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل فقال: ` ما يصنع هؤلاء ؟ ` فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر فى الأنثى فتلقح فقال رسول الله ` صلى الله عليه وسلم ` : ` ما أظن يغنى ذلك شيئا ` قال: فأخبروا بذلك ٬ فتركوه ٬ فأخبر رسول الله ` صلى الله عليه وسلم ` بذلك ٬ فقال: “ إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه ٬ فإنى إنما ظننت ظنا ٬ فلا تؤاخذونى بالظن ٬ ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به ٬ فإنى لن أكذب على الله عز وجل. `
ورواه رافع بن خديج رضى الله عنه قال: قدم نبى الله ` صلى الله عليه وسلم ` المدينة وهم يأبرون النخل يعنى يلقحون النخل فقال: ` ما تصنعون ؟ ` قالوا: شىء كنا نصنعه فى الجاهلية ٬ قال: ` لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا ` فتركوه ٬ فنفضت أو فنقصت قال: فذكروا ذلك له ٬ فقال: “ إنما أنا بشر ٬ إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به ٬ وإذا أمرتكم بشئ من رأيى فإنما أنا بشر “ .
لكن من هؤلاء الذين يستشيرهم الحاكم؟ أهم أصدقاؤه الذين يسارعون فى هواه ٬ أو العفاة الذين يلتمسون العطاء ٬ أو المتملقون الذين يرجون حوله الصدارة ؟؟.
لو كان الحاكم يتولى شئون ضيعة خاصة له لجاز له أن يستعين بمن أحب ٬ لكن الأمر يتصل بمصلحة أمة ورسالتها ٬ ولذلك فمن حق الأمة أن تطمئن إلى رجال الشورى هؤلاء وأن تثق من تمثيلهم لها ٬ ومن وفائهم بحقوقها.
وقد ثبت أن رسول الله ` صلى الله عليه وسلم ` كان يستشير أصحابه ٬ وكان ينزل على مشورتهم.
فإذا اختلفت الآراء نزل على رأى الكثرة ٬ وسيرته فى ذلك واضحة فى غزوة بدر وأحد والأحزاب.
فإذا الحاكم جار وانحرف ٬ وجب على الأمة أن تنقد أخطاءه وتقوم انحرافه وتكشف جوره ٬ فإن طبيعة الجماعة الإسلامية أن تتأبى على المنكر ٬ وألا تترك له قرارا .
قال رسول الله ` صلى الله عليه وسلم `: “ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ٬ فإن لم يستطع فبلسانه ٬ فإن لم يستطع فبقلبه ٬ وذلك أضعف الإيمان ` .
والحق أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من الخصائص الأولى للأمة الإسلامية ٬ والشعار الواضح من بين شعائر الإسلام .
فبه صارت خير أمة أخرجت للناس ٬ وعلى أساسه وعدت بالتمكين فى الأرض . والصدارة على الصعيد العالمى . “…ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ٬ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور” .
والتعقيب على أخطاء الحاكم بالنقد ليس أمرا مباحا فحسب كما يظن من مفهوم كلمة الحرية السياسية بل هو فى تعاليم الإسلام حق لله على كل قادر ٬ والسكوت عن هذا النقد تفريط فى جنب الله .
ومن ثم فعلى حملة الأقلام وأرباب الألسنة أن يشتبكوا مع عوج الحاكمين فى معارك حامية لا تنتهى أو ينتهى هذا العوج ٬ وكل حركة فى هذا السبيل جهاد.
فإذا بلغ الأمر حد التضحية ٬ ف “ سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله “.
وخلع الحاكم إذا خان الله ورسوله وجماعة المسلمين واجب . غاية ما هنالك أن تقدير زيغ الحاكم ٬ وتقدير عواقب عزله . لا يرجع فيه إلى رأى واحد من الناس ٬ ولا إلى تصرفات تكون موضع تأويل . أو تكون وجهة نظر لها وزنها .
عن جنادة بن أبى أمية قال: “ دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض. قلنا: أصلحك الله ٬ حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبى صلى الله عليه وسلم قال: “دعانا النبى “ صلى الله عليه وسلم ” فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا وعسرنا وشرنا وأثره علينا. وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان “.
ويقول ابن حزم: ` والواجب ٬ إن وقع شئ من الجور وإن قل أن يكلم الإمام فى ذلك ويمنع منه ٬ فإن امتنع ٬ وراجع الحق ٬ وأذعن للقود ٬ من البشرة أو من الأعضاء ٬ ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه . فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه ٬ فإن امتنع من إنفاذ شئ من هذه الواجبات عليه ولم يرجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى: “ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان “ ولا يجوز تضييع شئ من واجبات الشرائع `.
----------( يُتبع )----------
#محمد_الغزالي #حقوق_الإنسان
نشر في 15 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع