Facebook Pixel
قصص عن علماء السوء
2386 مشاهدة
0
1
Whatsapp
Facebook Share

العلماء الدعاة حين يعترضون الأمراض الاجتماعية المتوطنة يتعرضون لبلاء شديد، وكذلك الحال حين يتعرضون للغزو الثقافي، ويوقفون امتداده ثم يستأصلون جرثومته

كتاب : الغزو الثقافي يمتد في فراغنا - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 11 ] قصة قديمة جديدة

العلماءالدعاة حين يعترضون الأمراض الاجتماعية المتوطنة يتعرضون لبلاء شديد، وكذلك الحال حين يتعرضون للغزو الثقافي، ويوقفون امتداده ثم يستأصلون جرثومته.

وسبب الضّر مختلف هنا وهنا.. فالعلل المتوارثة لها سَدَنَة أشدّاء يتعصبون لها ويقاتلون دونها، ويتعامَوْن عن البديل الأفضل، وينطبق عليهم القول الكريم : (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ) .

والحق أني وجدت سلطان العرف باطشاً ، ووجدت علماء يصرفون النصوص عن ظاهرها لتبقى التقاليد السائدة ، وقد يخاصمون ببأس شديد لاستبقاء وضع موروث ، لا دليل له إلا أنه موروث .

أما ما استحدثه الغزو الثقافي من أباطيل ، فهو ينطلق في مهرجان من التقدم العلمي والتفوق الحضاري ، وتنهض لأخطائه أعذار ولعوجه حجج.

والخطر الكبير على الدعاة حين يكشفون الأصل الشيوعي أو الصليبي لما يرفضونه من مناهج ومسالك ، إن البلاء ينصبّ عليهم من سماسرة الضلال الوافد ، ومن القوى المساندة لهم أعني من الشيوعيين أو من الصليبيين . .

عندئذ تهدر حقوق الإنسان ولا يجأر أحد من المتحدثين عن هذه الحقوق. وتدفن عشرات الألوف من الجثث تحت الأنقاض ، ولا تسمع شكاة لأيم أو يتيم أو ثاكل .

وقد رأيت نكبة " حماة " ومصارع الألوف والألوف في صمت خسيس ، ورأيت مقتل حسن البنا ، وبعض الأهل والنسوة يحمل جثمانه لأن الشرطة تطارد المشيعين.

إن حُماة الإسلام في تلك الظروف العصيبة يجب أن يكونوا من طراز غير عاديّ لأن الضرّ النازل بهم غير عاديّ .

وقد قرأت هذه القصة ، ورأيت نقلها. والذي أذكره أن قلم مصطفى صادق الرافعي هو الذي صاغها وعرض حقائقها التاريخية الثابتة بأسلوبه المتميز، وإن كان الكتاب الذي بين يديّ أغفل ذلك ، وسأترك عبرتها تأخذ طريقها إلى القلوب ثم أعقب بما أرى.

كان الإمام العظيم شيخ الإسلام تقي الدين بن محمد بن علي بن دقيق العيد لا يخاطب السلطان إلا بقوله : " يا إنسان " ما يخشاه ولا يتعبد له ولا ينحله ألقاب الجبروت والعظمة ولا يزينه بالنفاق ولا يداجيه كما يصنع غيره من العلماء .

وكان هذا عجيباً ، غير أن تمام العجب أن الشيخ لم يكن يخاطب أحداً قط من عامة الناس إلا بهذا اللفظ عينه: " يا إنسان " فما يعلو بالسلطان والأمراء ولا ينزل بالضعفاء والمساكين ولا يرى أحسن ما في هؤلاء إلا الحقيقة الإنسانية .

ثم كان لا يعظِّم في الخطاب إلا أئمة الفقهاء ، فإذا خاطب منهم أحداً قال له: (يا فقيه) على أنه لم يكن يسمح بهذا إلا لمثل شيخ الإسلام نجم الدين بن الرفعة ثم يخص علاء الدين بن الباجي وحده بقوله: (يا إمام) إذ كان آية من آيات الله في صناعة الحجة، لا يكاد يقاطعه أحد في المناظرة والمباحثة .

فهو كالبرهان إجلالُه إجلال الحق لأن فيه المعنى وتثبيت المعنى.. وقلت له يوماً : يا سيدي ، أراك تخاطب السلطان بخطاب العامة ؟ فإن عَلَوْتَ قلت (يا إنسان) وإن نزلت قلت له يوماً : يا سيدي ، أفلا يسخطه هذا منك وقد تذوق حلاوة ألفاظ الطاعة والخضوع ، وخصّه أهل النفاق بكلمات هي ظل الكلمات التي يوصف الله بها .

ثم جعله المُلك إنساناً بذاته لا يشعر بالوجود إلا فى وجود ذاته . حتى أصبح فى غيره كالجبل والحصاة، يستويان في العنصر ويتباينان في القدر وأقله مهما قل هو أكثرها مهما عظمت ، ووجوده شيء ووجودها شيء آخر!.

فتبسم الشيخ وقال : يا ولدي. أيش هذا؟ إننا نفوس لا ألفاظ، والكلمة من قائلها هي بمعناها فى نفسه لا بمعناها فى نفسها، فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده الشرع عليه .

ولو نافق الدين لبطل أن يكون ديناً ، ولو نافق العالم الديني لكان كل منافق أشرف منه . فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود ، والمنافق رجل مغطّى في حياته، ولكن عالم الدين رجل مكشوف في حياته لا مغطى، فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة. وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل ، فإذا نافق فقد كذب .

والعالم يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين، فإذا نافق فقد كذب وغش وخان. وما حقيقة العلماء بالشرع إلا أنهم امتداد لعمل النبوة في الناس دهراً بعد دهر، ينطقون بكلمتها، ويقومون بحجتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآة النور، تحويه في نفسها وتلقيه على غيرها فهي أداة لإظهار جماله معاً.

أتدري يا ولدى ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخذ من نور واحد لا يختلف ؟ إن أولئك فى أخلاقهم كاللوح من البلور يُظهر النور نفسه فيه ويُظهر حقيقته البلورية ، وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب لا غير .

وعالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها ، فيسهل عليه أن يتأوّل ويحتال ويغير ويبدل ويظهر ويخفي ، ولكن العالم الحق يفكر في كتب الشريعة وفي صاحب الشريعة ، فهو معه في كل حالة يسأله ماذا تفعل ؟. وماذا تقول ؟ .

والرجل الديني لا تتحول أخلاقه ولا تتفاوت ولا يجيء كل يوم بخلق جديد يناسب حوادث اليوم ، فهو بأخلاقه كلها، لا يكون مرة ببعضها ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه : هم يعطونني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك.

إن الدينار يا ولدي إذا كان صحيحاً في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعضه فهو زائف كله ، وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع هؤلاء يتعاملون مع قوة الهضم فيهم فينزلون بذلك منزلة البهائم : تقدم أعمالها لتأخذ لبطونها. والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله .

فإذا رأيت لعلماء السوء وقاراً فهو البلادة ، أو رقة فسمِّها الضعف ، أو محاسنة فقل إنها النفاق أو سكوتاً عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها .

قال الإمام : وما رأيت مثل شيخي سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام فلقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئاً تصنعه طبيعته كما يصنع جسمه الحياة ، فلا يبالي هلك فيه أو عاش، إذ هو في الدم كالقلب، لا تناله يد صاحبه ولا يد غيره، ولم يتعلق بمال ولا جاه ولا ترف ولا نعيم، فكان تجرده من أوهام الحياة القوة التي لا تغلب، وانتزع خوف الدنيا من قلبه فعمرته الروح السماوية التي تخيف كل شيء ولا تخاف، وكان بهذه الروح كأنه أداة تحويل وتبديل في طباع الناس حتى قال الملك الظاهر بيبرس وقد رأى كثرة الخلق في جنازته حين مرت تحت القلعة : الآن استقر أمري في الملك ، فلو أن هذا الشيخ دعا الناس إلى الخروج علي لانتزع مني المملكة .

وكان سلطانه في دمشق الصالح إسماعيل، فاستنجد بالإفرنج على الملك نجم الدين أيوب سلطان مصر فغضب الشيخ وأسقط اسم الصالح من الخطبة وخرج مهاجراً ، فأتبعه الصالحُ بعضَ خواصه يتلطف به ويقول له : ما بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وأكثر مما كنت عليه إلا أن تخشع للسلطان وتقبّل يده ، فقال له الشيخ : يا مسكين. أنا لا أرضى أن يقبّل السلطان يَدِي. أنت في وادٍ وأنا في وادٍ .

ثم قدم إلى مصر في سنة 639 ، فأقبل عليه السلطان نجم الدين أيوب وتحفّى به وولاه خطابة مصر وقضاءها ، وكان أيوب ملكاً شديد البأس ، لا يجسر أحد أن يخاطبه إلا مجيباً ، ولا يتكلم أحد بحضرته ابتداء، وقد جمع من المماليك الترك ما لم يجتمع مثله لغيره من أهل بيته حتى كان أكثر أمراء عسكره منهم، وهم معروفون بالخشونة والبأس والفظاظة والاستهانة بكل أمر، فلما كان يوم العيد صعد إليه الشيخ وهو يعرض الجند ويُظهر ملكه وسطوته والأمراء يقبلون الأرض بين يديه : فناداه الشيخ بأعلى صوته ليسمع هذا الملأ العظيم : يا أيوب ! ثم أمره بإبطال منكر انتهى إلى عمله في حانة تباع فيها الخمر ، فرسم السلطان لوقته بإبطال الحانة واعتذر إليه فحدثني الباجي قال : سألت الشيخ بعد رجوعه من القلعة وقد شاع الخبر فقلت : يا سيدي ، كيف كانت الحال ؟

قال يا بني ، رأيته فى تلك العظمة فخشيت على نفسه أن يدخلها الغرور فتبطره فكان ما باديته به ، قلت : أما خفته ؟

قال : يا بني ، استحضرت هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامي كالقط ولو أن حاجة من الدنيا فى نفسي لرأيته الدنيا كلها، بيد أني نظرت بالآخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظور للناس ، فلا عظمة ولا سلطان ولا بقاء ولا دنيا ، بل هو لاشيء فى صورة شيء .

نحن يا ولدي مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحح معنى آخر، فإذا أمرناهم فالذي يأمرهم فينا هو الشرع لا الإنسان وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكان الكلمة الصحيحة أو طمْسها أو تحريفها ، فما بد أن يقابلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحق في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها، فإذا كان ذلك فههنا المعنى بإزاء المعنى ، فلا خوف ولا مبالاة ، ولا شأن للحياة والموت .

وإنما الشر كل الشر أن يتقدم إليهم العالم بحظوظ نفسه ومنافعها، فيكون باطلا مزوراً في صورة الحق، وههنا تكون الذات مع الذات، فيخشع الضعف أمام القوة، ويذل الفقر بين يدي الغنى وترجو الحياة لنفسها وتخشى، فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة حاولت أن تقارع السيف .

كلا يا ولدي. إن السلطان والحكام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها، فإذا تفككت أو احتاجت إلى مسامير دقت فيها المسامير وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخزه ؟

ففكر شيخنا فى هؤلاء الأمراء وقال : إن خداع القوة الكاذبة لشعور الناس باب من الفساد إذ يحسبون كل حسن منها هو الحسن، وإن كان قبيحاً فى ذاته ولا أقبح منه ، ويرون كل قبيح عندها هو القبيح وإن كان حسناً ولا أحسن منه .

وقال : ما معنى الإمارة والأُمراء ؟ وإنما قوة الكل الكبير هي عماد الفرد الكبير، فلكل جزء من هذا الكل حقه وعمله، وكان ينبغي أن تكون هذه الأمارة أعمالاً نافعة قد كبرت وعظمت فاستحقت هذا اللقب بطبيعة فيها كطبيعة أن العشرة أكثر من الواحد، لا أهواء وشهوات ورذائل ومفاسد تتخذ لقبها فى الضعفاء بطبيعة كطبيعة أن الوحش مفترس .

وفكر الشيخ فهداه تفكيره إلى أن هؤلاء الأمراء مماليك، فحكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، ويجب شرعاً بيعهم كما يباع الرقيق .

بلغهم ذلك فجزعوا له وعظم فيه الخطب عليهم، ثم احتدم الأمر وأيقنوا أنهم بإزاء الشرع لا بإزاء القاضي ابن عبد السلام.

وأفتى الشيخ أن لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة ، وأنه لا يصح لهم شيء من هذا حتى يباعوا ويحصل عتقهم بطريق شرعي.

ثم جعلوا يتسببون إلى رضاه ، ويتحملون عليه بالشفاعات، وهو مُصِر لا يعبأ بجلالة أخطارهم ، ولا يخشى اتسامه بعداوتهم ، فرفعوا الأمر إلى السلطان ، فأرسل إليه فلم يتحول عن رأيه وحكمه .

واستشنع السلطان فعله وحنق عليه وأنكر منه دخوله فيما لا يعنيه ، وقبح عمله وسياسته وما تطاول إليه ،وهو رجل ليس له إلا نفسه وما تكاد تصل يده إلى ما يقيمه ، وهم وافرون وفي أيديهم القوة ولهم الأمر والنهي .

وانتهى ذلك إلى الشيخ الإمام فغضب ولم يبال بالسلطان ولا كبر عليه إعراضه، وأزمع الهجرة من مصر، فاكترى حميراً أركب أهله وولده عليها ومشى هو خلفهم يريد الخروج إلى الشام فلم يبعد إلا قليلاً نحو نصف بريد حتى طار الخبر في القاهرة ففزع الناس وتبعوه لا يتخلف منهم رجل ولا امرأة ولا صبي .

وصار فيهم العلماء والصلحاء والتجار والمحترفون كأن خروجه خروج نبي من بين المؤمنين به ، واستعلنت قوة الشرع في مظهرها الحاكم الآمر من هذه الجماهير، فقيل للسلطان: إن ذهب هذا الرجل ذهب ملكك .

فارتاع السلطان فركب بنفسه ولحق بالشيخ يترضاه ويستدفع من غضب الأمة وأطلق له أن يأمر بما شاء وقد أيقن أنه ليس رجل الدينار والدرهم والعيش والجاه أو أنه لبس طيلسان العلماء كما يُلصق الريش على حجر في صورة الطائر .

ورجع الشيخ وأمر أن يعقد المجلس ويجمع الأمراء وينادي عليهم للمساومة في بيعهم وضرب لذلك أجلاً بعد أن يكون الأمر قد تعالمه كل امرئ في القاهرة ليتهيأ من يتهيأ للشراء والسوم في هذا الرقيق الغالي .

وكان من الأمراء المماليك نائب السلطنة فبعث إلى الشيخ يلاطفه ويسترضيه فلم يعبأ الشيخ به فهاج هائجه وقال: كيف يبيعنا هذا الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلة العبيد ويفسد محلنا من الناس ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الأرض؟

وما الذي يفقد هذا الشيخ من الدنيا فيدرك ما نحن فيه ؟. إنه طالب آخره، إنه يفقد ما لا يملك إلا الله ، فلا جرم ولا يبالي ولا يرجع عن رأيه مادام هذا الرأي لا يمر في منافعه، ولا في شهواته ولا في أطماعه كالذين نراهم من علماء الدنيا، أما والله لأضربنه بسيفي هذا حتى ننتهي منه فما يموت رأيه وهو حي على ظهر الأرض.

ثم ركب النائب في عسكره وجاء إلى دار الشيخ واستل سيفه وطرق الباب فخرج ابنه عبد اللطيف ورأى ما رأى فانقلب إلى أبيه وقال له: انج بنفسك. إنه الموت، وإنه السيف وإنه وإنه .

فما اكترث الشيخ لذلك ولا جزع ولا تغير بل قال له: يا ولدي ، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله . وخرج لا يعرف الحياة ولا الموت فليس فيه الرجل الإنساني بل الرجل الإلهي ونظر إلى نائب السلطنة وفي يده السيف فانطلقت أشعة عينيه في أعصاب اليد فيبست ووقع السيف منها .

وتناوله بروح قوية فاضطرب الرجل وتزلزل وكأنما تكسرَّ من أعصابه فهو يرعد ولا يستقر ولا يهدأ .

وأخذ النائب يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له ، ثم قال : يا سيدي ما تصنع بنا ؟ قال الشيخ : أنادي عليكم وأبيعكم ـ وفيما تصرف ثمننا ـ في مصالح المسلمين ـ ومن يقبضه ؟ـ أنا.

وكان الشرع هو الذي يقول " أنا " فتم للشيخ ما أراد ونادى على الأفراد واحداً واحداً واشتط فى ثمنهم لا يبيع الواحد منه حتى يبلغ الثمن آخر ما يبلغ وكان كل أمير قد أعد من شيعته جماعة يستامونه ليشتروه .

ودفع الظلم والنفاق والتكبر والاستطالة على الناس بهذه الكلمة التي أعلنها الشرع : أمراء للبيع... أمراء للبيع...

حسناً فعل العز بن عبد السلام، وإن كان لي رأي آخر في شأن المماليك كله. إن تصرفه جميل لأنه قَمَع الغرور ومحا المظالم وأدّب المتطاولين وأعز المنكسرين وأبرز حقيقة الدين، وانتقل بالدعوة الإسلامية من تدريس نواقض الوضوء في المساجد إلى تدريس نواقض العمران والأخلاق والإيمان في دنيا السياسة ، وأرجاء المجتمع .

وعز الدين بن عبد السلام الذي لقِّب بسلطان العلماء أهل لهذا المسلك العالي لأنه رجل أصيل في فقهه ودعوته أمين في اقتدائه بسيد الدعاة الهداة ، محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه .

ولنعد إلى شأن المماليك. الذي أراه في قضية الرقيق على الإجمال ، أن جمهرتهم أحرار . وأن العصابات التي اختطفتهم وباعتهم كانت تتاجر في أحرار . .

وهؤلاء الرجال المختطفون قامت لهم دول في مصر، ذات تاريخ أشرف في جملته من تاريخ " بعضهم " من الأشراف أهل النسب.

إن " قطز " المملوك المؤمن الشجاع الغيور أعظم رجولة وأضخم بطولة من الخليفة العباسي المنتسب لبني هاشم الذي انهزم وقتل في بغداد ذليلاً .

و " جلّنار " امرأة قطز وشهيدة عين جالوت ، التي قُتِلَتْ مدافعة عن زوجها ـ بطل الإسلام في ذلك اليوم العصيب ـ أشرف وأعزّ من عقيلات قرشيات اختبأن في فرشهن لا يصنعن للإسلام شيئاً .

إن الحساب الإلهي يجتاز الصفات والمراسم والمظاهر، وينظر إلى النفس البشرية مجردة عن كل هذه الملصقات المجلوبة! وعندما ذكر اليهود أنهم أبناء الأنبياء، قال القرآن الكريم مستنكراً: (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) .

النفس الإنسانية وحدها ، مجردة من كل شيء عارية إلا من حقيقتها . هي التي تحاسب ، فإما رسبت ، وإما علت .

إلا أن العبيد ـ أو بتعبير دقيق المستعبدين ـ كثيراً ما ينسون الماضي ، ويحلو لهم أن يتحولوا فراعنة ، وأن يمارسوا البطش الذي طالما شكوا منه . . وما أغرب رعونات البشر !

في ثورات " التحرر " التي اندلعت في الشرق العربي أخيراً ، وصل أبناء العمال والفلاحين إلى قمة السلطة ، ووقع بأيديهم صولجان الملك ! فماذا حدث ؟ لو كان فرعون فى قبره يستطيع الضحك لضحك من أفعال خلفائه أبناء الفلاحين والعمال ؟ كان بطشهم أفتك ، وأنفهم أشمخ، وسيفهم أقطع، ونارهم أحمى وأضرى.

ولم يكن هناك نموذج آخر للعز بن عبد السلام يذكر الطغاة بماضيهم ويردهم إلى أصولهم ويعظهم بما يقصم غرورهم.

إن العز بن عبد السلام كوى المتفرعنين بأن عرضهم على الشعب المظلوم في صورتهم الأولى ، فرأى الناس أمراء اليوم وعبيد الأمس يباعون في الأسواق ، وتطير عنهم مراسم الاستبداد.

ترى : أتشهد الجماهير المهيضة مزاداً آخر من هذا النوع الفريد ، يعرض فيه رؤساء للبيع ؟. لا لقد انتهى بيع الرقيق نريد ساحة أخرى يتعرى فيها الطغاة من أسباب البأس ، ويعاملون فيها بما قدموا سِنًّا بِسِنٍّ ، وعيناً بعين ، ونفساً بنفس .

----------( يُتَّبَع )----------
#محمد_الغزالى
#الغزو_الثقافي_يمتد_في_فراغنا
كلمة حرة
نشر في 13 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع