Facebook Pixel
تدين يكره الحضارة وتحضر يكره الدين!
2098 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

إن فتنة الناس عن دين الله قد تألفت لها مذاهب وجماعات، وتكوّنت لها مدارس وهيئات، حتى أصبح الدين يكره الحضارة والتحضر يكره الدين، من كتاب الغزو الثقافي يمتد في فراغنا

كتاب : الغزو الثقافي يمتد في فراغنا - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 6 ] تدين يكره الحضارة ، وتحضر يكره الدين..!

كان معاذ بن جبل وسيم الوجه حسن الطبع واسع المعرفة ، قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والله إني لأحبك ! ثم أوصاه ـ ليستديم هذه المحبة ـ فقال له : لا تدع دُبُر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك..

وصلى معاذ بالناس فأطال بهم ، وترك بعضهم الصلاة خلفه لطول قراءته. وبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فغضب من معاذ ، وقال له : أفتان أنت يا معاذ ؟ من صلّى بالناس فليخفف.

إن حُبّه لم يمنعه من نصحه وإفهامه أن تجميع المؤمنين وتكثير عددهم وتوسيع دائرتهم أهم من لذة المناجاة ، وإكثار القراءة.

لمن شاء أن يتنفل فيطيل ما أحبّ ، أما تنفير الناس من الجماعة لعاطفة خاصة فلا ، هذه فتنة هذا صدّ عن سبيل الله.

والغريب أن فتنة الناس عن دين الله قد تألفت لها مذاهب وجماعات ، وتكوّنت لها مدارس وهيئات ، ينظر الناس في آرائها ومسالكها فيعافون التديّن ، ويحسبونه لوناً من الجلافة والتزمّت ، وبعداً عن الحصافة والكياسة ، وخصومة للآداب والفنون ، وعجزاً عن الابتكار والإنتاج ، وتوثيقاً لروابط الماضي وتوهيناً لآمال المستقبل ، وفشلاً عاماً في ميادين التخطيط والإدارة.

والذين يعرضون الدين بهذه الدّمامة أقوام من المرضى لا يجوز السماع منهم ، بل الأجدى على الدين والدنيا أن يودَعوا في بعض المصحات حتى يبرؤوا من عللهم. ولكي نعرف الحقائق المهجورة نؤكد أن الدين قبل كل شيء إدارة للأجهزة المعطلة في الكيان البشري ، وإزالة لما قد يكون غراها من عطب ، أو أصابها من خلل.

وكل تدين مع تبلد الفكر والحسّ ، فهو موضع نظر ، وللعلماء فيه كلام يجب أن يعرف ، فإن محاربة الغش المعني أهم من محاربة الغش التجارى !

هناك من يؤمن بالله عن تقليد ، ما أعمل فكراً ولا أدار بصراً ! ما قيمة هذا الإيمان ؟ البعض رفضه ، ولم يمنحه قيمة ، والبعض قبله على إغماض ولم يعدَّ صاحبه كافراً .

وسواء أخذنا بهذا الرأي أو ذاك ، فإن المقلد في إيمانه امرؤ من الدهماء لا يقود ركباً ولا يصدر رأياً ، إنه تابع وحسب. وهناك من ينتظم في صفوف الصلاة ، وهولا يعني ما يقول ولا يفقه ما يقرأ ! جسمه في المسجد ودماغه سارح في طول الدنيا وعرضها. قد يتذكر كل شيء إلا جلال من وقف في محرابه.

تمثيلية صلاة في إطار من غيبوبة عقلية تامة ، هل له من صلاته شيء ؟ إننا لن نعُده مبارزاً بالعصيان وتاركاً للفريضة ، لكن هل هذه التمثيلية تزكي نفساً ، وترفع رأساً ؟

هذا المصلّى الذاهل صنو هذا المؤمن المقلد ، وكلاهما لا تنهض به حياة ، ولا يرشد به مجتمع ، لأن كليهما معطوب من داخله ، وأجهزته النفسية والفكرية فى حالة ركود على أن خطورة هذا النوع من التديّن تبدو فى ميادين الأعمال العادية ، فالرجل صاحب الفكرة أو صاحب الدعوة يتفاعل مع الحياة العامة وتتفاعل معه ، لأنه يستحيل أن يتحرك بمعزل عنها ، فإن كان صاحب عقل يقظان ويقين وثاب فرض نفسه عليها ، وطوع كل شيء حوله لما يريده . والبيئة الفاضلة أثر أناس لهم شرف وهمة ،

والبيئة المائعة أثر أناس أمرهم فرط وأخلاقهم سائبة. والأمة المجاهدة صنع أناس يغالون بإيمانهم، ويسخّرون ما يملكون لدعمه ، ويوجهون مواهبهم العلمية وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية لخدمة ما يعتنقون..

والمؤمنون المقلدون والمصلون الذاهلون ينفعلون ولا يفعلون ، ويقادون ولا يقودون، ويعيشون وفق ما يقال لهم لا ما توحيه ضمائرهم .

وعندما يعرض أولئك العلوم الدينية يحتبسون فى الماضي الذي لا يعرفون غيره ، ثم يتكلمون والحاضر لا يعنيهم لأنهم لا يحسونه. سمعت أحدهم يشرح آية (والجروح قصاص) فإذا هو يقول : إذا تعذرت العقوبة بالمثل ، بأن كان الجرح غير محدد فماذا نصنع ؟ نقوّم الجريح عبدا ثم ننظر كم قيمته وهو سليم ؟ وكم قيمته بعد الجراحة التي نزلت له ؟ والفرق بين الثمنين يدفع للمعتدى عليه.

ثم مضى يشرح أحكاماً أخرى كأنه بَتّ في القضية.

أحسست أن الرجل ما يزال يعيش في أيام النخاسة ، وأن دنياه لم تتغير كثيراً . وبهذه العقلية الراكدة يتناول مختلف الشئون الاجتماعية والسياسية ، فترى الظن أغلب عليه من اليقين والخرافة أسبق إليه من الحقيقة .

ودين يتناوله أهله بهذا الأسلوب يموت ولا يحيا... لأن الظروف المادية والأدبية التي يعيشون فيها ستحكمهم ولا يحكمونها.

استمعت إلى محاضرة للدكتور محمود سالم شحادة ـ الأستاذ بالجامعة الأردنية ـ ذكر فيها كيف أن الأقدار سرحت قادة العرب منذ خمسة قرون ، وأبعدتهم عن مناصب التوجيه والريادة ، فإذا هم يتركون الأندلس ، ويعودون من حيث جاءوا...

أكانوا يتبعون حضارتهم الآفلة بعين باكية ؟ أكانوا يتذكرون أخطاءهم بمشاعر الندم ؟ أكانوا ينظرون إلى عدوهم بتفرس ليعرفوا مصادر قوّته الجديدة ؟ ما أحسب شيئاً من ذلك كان يخامرهم ! لقد تحولوا ـ كما تحول المحاضرـ من قوة فاعلة إلى حال سائبة ، وكانت أوربا تفور وتمور بالثورة الصناعية التي استطاعت على امتداد الزمان أن تنقل العالم كله إلى درجة ما عرفها قط في تاريخه القديم.

على حين كان العرب والترك مشغولين بأمور أخرى. ليت شعري ماذا كان يشغلهم ؟ إنهم ما فكروا فى شيء يعيد إليهم مجدهم السالف. ولا فكروا فى خطة يفيدون بها من عدوهم الغالب ، إن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية بعد الارتقاء العلمي الباهر قعدت بقوم ومضت بآخرين ، فإذا أراضي الإسلام تتحول إلى مستعمرات وإذا المسلمون أجراء أو فعلة للغزاة الجدد ، كنا ننتج لهم المطاط فى جاوة والملايو، ونزرع لهم القطن فى مصر والسودان ، ونعصر لهم الخمر فى أقطار المغرب ونستخرج لهم النفط فى أنحاء الجزيرة…

يقول الأستاذ المحاضر : لم تكن للمسلم صفة موضوعية ـ والحالة هذه ـ كان يعمل ما يكلف به ويقوم بالدور الذي رسم له ، لم يكن منتجاً مرعيَّ الحقوق ، ولا مستهلكاً مقدور الحاجات لقد فقد شخصيته وانتماءه واستقبل عالما لا خبرة له به. وهذه التبعية في عالم الأشياء اقترنت بها تبعية في عالم الأفكار فأمسى من تلقاء نفسه يعي ما يلقن من الخارج ، ويذهل عن مواريثه الغالية !

إن الانهيار الاقتصادي والاجتماعي لأمة يعود بأفدح الخسارة على عقائدها وشرائعها ويفقدها احترام العدو والصديق أما كلمة الجهاد فتصبح والحالة هذه لغواً. فأي جهاد يرتقب من أعزل فارغ اليد ؟ فكيف إذا ضم إلى ذلك فراغ القلب والعقل ؟ إن الأمة التي تنحدر إلى هذا الدرك تتعرض يقيناً للاغتصاب والمهانة...

والعجب لناس يدّعون التدين ولا يحسّون هذه الحقائق ، وبدل أن يطلبوا النجاة لدينهم وأمتهم من هذا الضياع يتحسّرون على طول الثياب وقصر اللحى !. بأي منطق ديني محترم يكلف طلاب بترك معاهدهم وهجر كلياتهم ؟ أو يكلفون بالانسحاب من المجتمع والاعتزال فى صوامع موحشة أو أقطار نائية ؟ أو تكلف النساء بالزهد في العلم والثقافة والوعي الشامل لشئون أمتهن ويختبئن وراء نقاب به ثقبان مكسوان بالزجاج أو الباغة. وتوضع أيديهن في قفازات سميكة لم هذا كله ؟ ولم النواح العالي على أمورٍ هامِشيّة والصمت المطبق على أمور لا يقوم الدين إلاّ بها.

قالوا : إن الجندي في الجبهة لا يصمد إلا إذا كان وراءه عشرة موزعون على أعمال شتى . إن هذه الأعمال جهاد هي الأخرى وهي بعض ما يحرس الإيمان والصلاة ، وإلا طاح الحق وانتصر البغي. فكيف يزهد في هذه الأعمال ، ولا تعد فريضة مع الفراض؟

إذا رأيت شخصاً يفقد ولده فيسكت ويفقد نعله فيبكي فلا تشكنّ فى أنه مجنون ، وبعض المتدينين يجترح هذه الغرائب ، فترى صوته يعلو بالحفاظ على الإسلام حيث لا خطر . ثم تراه يصمت كأن الأمر لا يعنيه حيث الإسلام موشك على الغرف…

والآفة ما ذكرت صدر هذا البحث. القصور العقلى أو القصد المغشوش. ما أزال أذكر بالاحترام العميق نصح حسن البنا لطلاب الإخوان في كليات الحقوق والتجارة ! لقد أمرهم بالبقاء في كلياتهم والاستبحار في علومها حين نصح البعض لهم أن يتركوها لأنها تدرس القوانين الوضعية والأعمال الربوية .

قال لهم : لمن تتركون هذه الدراسات ؟ إن تركها يضر بالإسلام وأمته ، اقصدوا بدراستها أن تخدموا الحكم بما أنزل الله ، وأن تقيموا صروحاً اقتصادية سليمة .

وتخرج من هذه الكليات من مات شهيداً ، ومن تحمل في ذات الله البلاء ، ومن يقود اليوم الدعوة الإسلامية في ساحات وعرة ، ومن يناصر الشريعة ببأس شديد ، ومن يدير المصارف الإسلامية..

والمتدينون المعلولون يكرهون حسن البنا لهذه السياسة ، وقد تأملت سيرتهم فلم أر إلا قلة الفطنة ، وشدة القسوة وسرعة الاتهام ، ولدد الخصام...

إنهم لم يعرفوا الله عن بصيرة تطالع آياته في الأنفس والآفاق ولم يدخلوا الصلاة عن عبودية تستنزل الرحمة من قيمّ السموات والأرض ، إنهم آمنوا وصلوا وقرؤا عن تقليد محض ، والتقليد لا يكشف حجاباً ولا يفتح باباً..

يقول أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء : " فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل ، والمكتفى بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور ".

ونقف طويلاً عند الجملة الأخيرة من كلام أبي حامد رضي الله عنه فبين المثقفين من العرب نفر من حملة الأقلام تعجب لمواقفهم وما يحفها من تناقض..

تسمعهم يدعون للديمقراطية فتقول : نزعة إنسانية مقدورة ؛ ما الديمقراطية ؟ أن يحكم الشعب نفسه بنفسه. حسناً نحن نريد ذلك. تفاجأ بأنه إذا كان الشعب مسلماً ، ويريد أن يحتكم إلى شرائع الله اختفت الديمقراطية المنشودة ، وقيل للمسلمين أنتم رجعيون تستحقون المطاردة !

وهؤلاء محررون علمانيون يتغامزون على الدين وأهله. ولا بأس عندهم بهذا السلوك مادام يقوم على النيل من علماء الدين المسلمين ! أما إذا كانت القضية لكاهن من اليهود أو النصارى ، فإن الشيوعي يتأدب ، والهازل يجدّ ، والعلماني يصطنع الرقة والاحتشام . ويجيد عبارات الإطراء والزلفى !

وهناك محررون كانوا بين يدي السادات ورجليه في رحلته الشهيرة إلى القدس ، وفي سعيه الحثيث لإرضاء " إسرائيل "! هؤلاء إذا أريتهم الوجه الإسلامي لفلسطين هاجوا وماجوا وأرغوا وأزبدوا واتهموك بالتخلف..

وقد استغربت من بين هؤلاء مسلك الصحافي الكبير توفيق الحكيم ، فقد حاول أن ينشر " حوار مع الله " ! فلما علت موجة سخط ومنعت المضيّ في هذه المهزلة أخذ الفنان الشيخ ينشر حديثاً آخر في مجلة الوطن العربي التي تصدر بباريس موضوعه " نساء في حياتي " !.

ويفتتح الكاتب حديثه بأنه لا يذكر اسم الشخص ـ القواد ـ الذي رافقه إلى فتاة رومية دفع لها خمسة قروش ثمناً لدقائق معدودات ، وكذلك لا يذكر أفراد الزمرة التي شجعته على الذهاب إلى حي البغاء العلني " كلوت بك " لأول مرة في حياته..!!

ولا أبيح لنفسي متابعة الكاتب الماجن وهو يصف سقوطه. وإنما أعلن دهشتي من البعد بين الموضوعين اللذين تناولهما الكاتب بقلمه ، اللهم إلا إذا كان للشيخوخة دخل في هذا الخرف. وعدد كبير من حملة الأقلام صناعة أوربية رديئة ، قد تكون شرقية أو غربية ، ولكن موقفها الثابت الضيق بالإسلام ورجاله. وآماله وآلامه.

ويلاحظ أن جراءتها على الله ورسوله فحشت في الأيام الأخيرة، يعينها على ذلك جبن الشيوخ المحترفين وهوس الشباب المندفعين.

ونريد أن نبحث وضع الدين إجمالاً في أوربا التي يعيش هؤلاء الكتاب في تفكيرها وتوجيهها.

إن تعصب اليهود لدينهم لا ريب فيه ، والقوم عقدوا صلحا بين جنسهم وإيمانهم ، فهم شعب الله المختار، وظيفتهم أن يسودوا العالم ، ويطووه تحت عَلَم إسرائيل. أما حقائق الوحي الأعلى ، والتمهيد على ظهر الأرض للعودة إلى السماء فقد نفضوا أيديهم من ذلك كله.. ونجاح اليهود في ميادين العلم والمال كان لابد أن يرجح كفتهم في نزاعهم مع العرب أبناء عمومتهم... الذين يعانون من الجهل والفقر والمرض واضمحلال العقيدة ! !

وأما النصرانية فوضعها يستحق الدراسة المتعمقة إن التاريخ الكنسي مشحون بالمآسي مضرج بالدم ، وقد تضافرت الشعوب الثائرة والحكومات المدنية ضد هذه الحال ، ولم تسترح حتى جردت الكنيسة من سلطاتها وانتزعت أنيابها.

ولنعترف بأن الكنائس المختلفة لم تستكن لما نزل بها واعتبرته هزيمة عارضة..واستأنفت سيرها بأساليب أخرى وقدرت على إحراز نجاح بعيد المدى..

وعن طريق التطوع والإخلاص بقيت الكنائس تؤدي شعائرها الموروثة ، وترسل بعوثها في أرجاء الأرض وساندت بحماس بالغ الحكومات الاستعمارية وهي تطارد فلول المسلمين المنسحبين هنا وهناك ، والمعروف أن الفاتيكان ، ومجلس الكنائس العالمي يمتلكان ثروات ضخمة مرصدة لأعمال التنصير ، ويبدو أن الموارد الموجهة لهذه الغايات فيض لا يدركه غيض وأن " الأتقياء " من الرجال والنساء يصلون الليل بالنهار لتحقيق أهدافهم المدروسة بعناية..

ولنذكر هنا ما نشرته جريدة الراية في 20/ 3/ 1984 تحت عنوان " عبرة لمن يتفكرون " بقلم الأستاذ درويش مصطفى الفار قال :

أمامي قصاصة من جريدة " ستار " الصادرة في جوهانسبرج محور افريقيا بتاريخ 3/ 3 / 1984ـ أنقل منها للقارئ العزيز خبراً أذاعته وكالتا أنباء رويتر وسبأ للأنباء يقول : وتبرع المحسن الهولندي الكبير " بيت ديركسبن " بمبلغ مائة وثمانية وسبعين مليون دولار (178 مليون دولار) للمشاريع التبشيرية في العالم الثالث لخدمة المرضى والفقراء .

وكان ذلك إثر مقابلته مع " الأم تريزا " الراهبة الكاثوليكية الشهيرة التي وقفت حياتها للعناية بأطفال الهند ، والتي منحوها جائزة نوبل للسلام سنة 1979.

ويبلغ المستر ديركسبن من العمر إحدى وسبعين سنة وهو أب لأربعة أولاد ، ويتمتع بصحة جيدة ، وهو صاحب شركة لبيع أدوات الألعاب الرياضية وإنشاء المعسكرات الترويحية في هولندا وبلجيكا.

ويقول المستر ديركسبن إنه يؤمن ككاثوليكي ملتزم بأن الرب قد أنعم عليه بثروة طائلة جمعها بالكفاح الشاق، لا لكي يضيعها في ملذات الدنيا ، ولكن لكي يبذلها طائعاً مختاراً في سبيل نشر كلمة الرب عبر المؤسسات التبشيرية العاملة في الدول النامية ، وأنه حين اهتدى إلى فكرة التبرع شعر بأن طوقاً من الحجر الثقيل قد انزاح عن عنقه ، وأخذ يصيح فرحاً كالأطفال حينما قرر وقف تلك الملايين لخدمة كلمة الرب.

ويمتلك المستر ديركسبن مجموعة نادرة من التحف الفنية سوف يطرحها في المزاد العلني ليضيف ثمنها أيضاً إلى تبرعه لنشر كلمة الرب .

ولست أعتقد أن المستر ديركسبن هذا ، وحيد فريد في هذا الميدان ، وإلا فكيف يتسنى لجمعيات خدمة المرضى والفقراء في العالم الثالث ، أن تطبع في العام الواحد أكثر من تسعين مليون نسخة من الكتاب المقدس ، فيما يزيد على مائة لغة ، منها جميع اللهجات العربية بين المحيط غرباً والخليج شرقاً والسودان جنوباً، والبحر المتوسط شمالاً ؟!.

ولما تسنى لها أن تطبع ملايين النسخ من النشرات والكتيبات والكتب التي تدعو المسلمين على وجه التخصيص لدخول مملكة الرب وبالتالي الاعتقاد اليقين بأن قيام دولة إسرائيل بين الفرات والنيل قدر إلهي محتوم ؟!.

إن هذا الخبر الذي لا تنقله أجهزة التيكرز إلى بلادنا ، فى حاجة إلى وقفة تأمل ، لعل فى ذلك عبرة لأولي الألباب..

قال لي أحد الثقات ، الذين لا يكذبون على الله ، إنك تستطيع في شرق أفريقيا أن تعثر على أي كتاب ، الإنجيل والتوراة ، ورأس المال لكارل ماركس ، وكفاحي لأدولف ، هتلر، وتعاليم ماوتسي تونج ، وفلسفات بوذا وكونفوشيوس واليوجا ، لكنك تحار في كيفية الحصول على نسخة من القرآن الكريم !!!

الخبر مثير، والتعليق عليه مرير. وأعترف بأن قراءته أغرقتني في لجة من التأمل الطويل ، هذا المحسن الهولندي ذكرني بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين تعروا عن أموالهم كلها في سبيل الله... إن عطاءه ضخم ضخم ، ومن هذه الأعطية الدافقة يعمل جيش كثيف من الرجال والنساء لتنصير أكبر عدد مستطاع من الناس عامة والمسلمين خاصة…

لدينا أغنياء قادرون على مثل هذا العطاء ، بيد أنهم يضنون به في سبيل الله ، ولا يضنون به في سبيل اللهو والعبث ، ولدينا نساء يملكن الطاقة الروحية التي تملكها السيدة " تريزا " لكن الدعاة الجهال والفقهاء الأغبياء يمنعونها من العمل ويستنكرون عليها الجهاد الاجتماعي ، ويوم وجدت من يقدر مواهبها ويتيح لها الخدمة العامة وثب عليها الحاكم العسكري بحديده وناره ليستبيحها جسداً وروحاً...! إن الكنيسة قديماً حاربت الحضارة ، ونكلت بالعلماء الرواد وحرمت من يقول : إن الأرض تدور.. فلما أحست غلطها تخلت عنه بشجاعة ، وشرع رجالها يصلون في أيام الآحاد لغزاة القمر..! ومن المفارقات المضحكة أن متحدثين عن الإسلام في يومنا هذا يكررون الأخطاء القديمة التي وقعت فيها الكنيسة ثم تابت عنها بعد !

ومعروف أن أوربا وأمريكا وأستراليا تسودها حكومات علمانية ، وأن جمهرة المثقفين تأبى بشدة أي حكم كنسي ولم يحاول المتدينون تغيير الأوضاع بانقلابات عسكرية ، كل ما حدث أن الأفراد " الأتقياء "ـ إن صح التعبيرـ يصلون إلى الحكم بالطرق الدستورية المقررة ، وعن طريق المناصب التي يلونها ينصرون المبادئ والأخلاق التي يتمسكون هم بها...! هل المستر ريجان رئيس الولايات المتحدة من أولئك الأفراد المؤيدين للمسيحية والمحيين لتعاليمها ؟

يبدو من تصريحاته أنه منهم ، فهو يدعو إلى جعل التعليم دينياً فى المراحل الأولى ، ويقول لأعضاء " الكونجرس " الذين لا يرحبون بدعوته : " إنني أذكر الأعضاء بتقليد يحافظون عليه منذ مائتي سنة ، لتأكيد أن أمريكا أمة واحدة تعيش فى حفظ الله ! نعم من حقي أن أتساءل : إذا كان " الكونجرس " يفتتح جلساته كل يوم برجل دين ، يؤمكم فى الصلاة : فلماذا لا نعطي أطفالنا فى المدارس الحق نفسه فى عبادة الله ؟ " ويظهر أن المجلس التشريعي في الولايات المتحدة وغيره من المؤسسات الكبيرة لهم تقليد لطيف يشبه التقليد الشائع عندنا من تلاوة " آيات عطرة من الذكر الحكيم " قبل افتتاح الجلسات وتنتهي الآيات وينتهي صداها بعد ذهاب القارئ الصييت !: وقد أراد مستر ريجان أن يتذرع بهذا التقليد لتقرير التعليم الديني بين أطفال أمريكا ، ويرى خصوم الرئيس أن مسلكه دعاية انتخابية كي يكسب أصوات المتدينين.

وأرى أن الرجل صادق في عدائه للشيوعية ، وفي معاونته لإسرائيل ، وفي استهانته بالعرب ، وأنه يصدر في ذلك كله عن عاطفة دينية بغض النظر عن صوابها وخطئها... إن الرهبان البوذيين والراهبات البوذيات أحرقوا أنفسهم حتى الموت كيما يكترث الناس بقضايا الديانة البوذية.! وبوذا الذي جعله أتباعه إلهاً ما كان يؤمن بإله !. ولكنها غرائب البشر...

وإذا حدث أن اشتدت موجة التدين في الغرب فإن إسرائيل الكبرى ستولد في الشرق الأوسط ، وسيتحول أبناء الفرات وأبناء النيل إلى لاجئين ، كما حدث من قبل لإخوانهم في فلسطين ، لأنه هكذا قال الرب !.

إن الاستعمار صهيونياً كان أم صليبياً يعتمد على رؤى دينية مشوّشة ، وهو يعجز في بلاده الأصلية عن إقامة مجتمعات نقية بارّة ، تحترم إنسانيتها وتطيع ربها ، على أنه مع هذا العجز قادر على استذلال واستغلال الشعوب المتخلفة ورفعها إلى حيث يريد..

فهل نستفيد من ذلك أن التخلف جريمة تستحق العقوبة وأن الأمم التي تستبقي أسباب التخلف لابد أن يغشاها ما غشيها وبخاصة المسلمين المفرطين في رسالتهم ؟!.

إن الارتقاء الصناعي ضرورة لدعم المبادئ والاكتمال الحضاري لباب المجتمعات السليمة ، والمسلمون الذين يعتبرون الدين شارة فردية ، أو مسلكاً خاصاً هم أفراد مرضى، والذين لا يفرضون أنفسهم على بيئتهم ويملكون زمام توجيهها وتسخيرها لعقائدهم هم جماعات من الهمل لا وزن لهم فى الحياة وليس الأمر ادعاء ، أو مزاعم جريئة ، أو هتافاً عالياً ، إنه عقل ذكي يكشف ، وخلق صلب يسود ، وسلوك عارم يذلل الصعب ويقرب البعيد ويحسن عبادة ربه في المنجم والمرصد، وفي طبقات الجو وطبقات الأرض ، وفي أغوار النفس وأطوار المجتمع وأعباء الدولة. ومن لا ثقافة له تعين على ذلك كله فهو عبء على الدين، وليس صاحب دين ، مهما قصر ثوبه وطالت لحيته وكثرت همهمته... بل أعتقد أنهم يفتنون الناس عن الإسلام ويؤخرون صحوته المعاصرة .

----------( يُتَّبَع )----------
#محمد_الغزالى
#الغزو_الثقافي_يمتد_في_فراغنا
كلمة حرة
نشر في 12 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع