1206 مشاهدة
0
0
هل الخلاف بين أهل السنة والشيعة أعظم من الخلاف بين اليهود والنصارى، هل يتعاونون فى الهجوم علينا ونفشل نحن فى الدفاع عن أنفسنا، والتساند لرد المعتدين؟
كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 37 - الأخيرة ] الأمانة فى نقل التراث (2 من 2)
منذ ربع قرن عرفت قضية التقريب بين المذاهب الإسلامية ونصرتها بقلبى وعقلى جميعا، وقلت: إن اليهود والنصارى طووا مسافة الخلف بينهم وتجمعوا علينا، واغتصبوا أرض فلسطين، وهم الآن يعدون لجعل المسجد الأقصى هيكل سليمان، ومحو شارات الإسلام فى تلك الأرضين كلها!!
هل الخلاف بين أهل السنة والشيعة أعظم من الخلاف بين اليهود والنصارى، هل يتعاون هؤلاء وأولئك فى الهجوم علينا ونفشل نحن فى الدفاع عن أنفسنا، والتساند لرد المعتدين؟
من أجل ذلك أيدت قضية التقريب واقترحت لها أسسا فقهية وعملية! وما فهمت ولا فهم غيرى من رجال الشيعة أن التقريب تذويب للفوارق المذهبية وإدماج لهذا فى ذاك!
إنه تجميد لأسباب الفتنة القديمة، وحبس لآثارها فى الماضى البعيد، وتعاون فيما اتفق عليه، وتلطف فيما اختلف فيه، وجعل موازين الأمور تقع بين أهل الذكر من الخاصة، ونزعها من أيدى العيابين والشتامين من الدهماء.
والتقريب اعتبار بأحداث التاريخ، وتعريف على ما أصاب الأمة كلها من مد وجزر، وتجنب لأسباب الهزيمة والزيغ. إن ساسة اليهود لما غاظهم تجمع الأوس والخزرج فى ظل الأخوة الإسلامية أرسلوا إليهم من ينشد أشعارا تضمنت أخبار المعارك القديمة، والخصومات الغابرة، فكادوا يشعلون الحرب بين الفريقين لولا تدخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وقد عجبت لما رأيت الأستاذ الشرقاوى يقص أخبار الفتنة الكبرى على نحو يحرك الحزازات، ويهيج جمهور أهل السنة! لقد جعل العشرة المبشرين بالجنة مبشرين بالنار ما عدا على بن أبى طالب. حتى عمر بن الخطاب! كاد يهلك لولا فضل على عليه! أما البقية فأغنياء تكويهم ثرواتهم يوم القيامة..!!
* نموذج من تجريح الصحابة فى مسلسل الشرقاوى :
هل يجد أعداء الإسلام أفضل من هذا الكلام فى النيل من الإسلام! أن يوصف طلحة والزبير وعائشة وغيرهم بأنهم أشخاص متآمرون على السلطة الشرعية، ومندفعون بأحقاد شخصية! وأن طلحة والزبير نالا من عثمان أموالا طائلة، بنيا بها القصور واشتريا الإماء حتى أصبح لكل منهما ألف أمة وألف فرس (!)، وأنهما خافا أن يستقر الأمر لعلى بن أبى طالب فينتزع ما بأيديهما ويرده إلى بيت مال المسلمين كما هى سياسته مع غيرهم من الأغنياء ـ هكذا يقول الأستاذ الشرقاوى ـ ومن أجل ذلك أثارا هذه الحرب المشئومة، حفاظا على أموالهما، وخشية على دنياهما، ثم توسلا إلى غرضهما بالتآمر مع عائشة التى كانت تكره عليا لموقف قديم منها...
أهذا كلام يقال أو ينقل؟ إننى أعرف من دراستى الأولى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمى الزبير بن العوام حوارى رسول الله، ونقل ذلك البخارى ومسلم، فهل يكون الحوارى حراميا على النحو الذى وصف الشرقاوى؟
وعدت إلى صحيح البخارى أتعرف ثرة الزبير فوجدت هذه القصة أنقلها بلغة العصر الحاضر دون أن أميل قيد أنملة عن الوقائع المثبتة فى صحيح أبى عبد الله وشروحه!
قبيل التقاء الفريقين فى موقعة الجمل نادى الزبير ابنه عبد الله قائلا: يا بنى أظننى سأقتل اليوم مظلوما ـ إنها الساعة التى يشعر المرء فيها باقتراب أجله ـ والهم الثقيل الذى أشعر به هو ما على من ديون! ما أحسب ديونى تبقى من ثروتى شيئا (!) بع كل ما أملك واقض ما علىَّ من ديون... فإن بقى شىء فإنى أوصى فيه بكذا وكذا..
وكان للزبير تسعة بنين وتسع بنات.. قال عبد الله: وجعل أبى يوصينى بقضاء ديونه، ويقول: يا بنى.. إن عجزت عن الوفاء لأحد من الدائنين فاستعن عليه مولاى (!) قال عبد الله: فما دريت قصده! أله مولى أعتقه أمسى موسرا؟ فسألته يا أبت من مولاك الذى استعينه؟ قال الزبير: مولاى الله..!! واغتيل الزبير بمكان يسمى وادى السباع، قتله وغد يسمى ابن جرمور.
قال البخارى: لم يدع وراءه دينارا ولا درهما إلا أرضين منها قطعة ثمينة تسمى الغابة فى عوالى المدينة..!
وشرع عبد الله فى سداد الديون المطلوبة بعدما قتل أبوه، فوجد ما عليه يبلغ ألفى ألف ومئتى ألف! وجاء الصحابى الجليل حكيم بن حزام، وهو من كبار التجار ـ فسأله: كم على أخى الزبير من الدين؟
قال عبد الله: فكتمته وأردت أن استبقيه سرا فى نفسى، فقلت. مائة ألف! فقال حكيم: ما أظن أموالكم تسع هذا الدين! وإن عجزتم عن شىء فاستعينوا بى..!
ولكن عبد الله لم يستعن ببشر، لقد تذكر وصية أبيه آن يستعين بالله وحده، قال عبد الله: فوالله ما وقعت فى كربة من دين أبى إلا قلت: يا مولى الزبير.. اقض عن الزبير دينه! فيهون العسير.
ويبدو أن النجدة أتت من ارتفاع طرأ على سعر الأرض! جعل ثمنها يتضاعف؟ ومكن عبد الله من أن يوفى بكل درهم كان على أبيه ، رافضا معونات الناس ، متوكلا على مولى الزبير! الذى كان الزبير يثق فيه.
وذاك ما جعل البخارى يترجم لهذه القصة بعنوان (باب بركة الغازى فى ماله)! وذكر الشراح أن الزبير وهو من السابقين الأولين لم يل منصبا، ولا كان عاملا على خراج، كان تاجرا شريفا يعمل فى الأسواق بجهده.
هذا الرجل الغنى الفقير، المهموم بديونه وهو على أبواب الآخرة، الواثق من أن الله سوف يؤدى عنه ما عليه من حقوق تجارية. هذا الرجل يقول فيه الشرقاوى إن لديه قصورا على شواطئ البحار وضفاف الأنهار وقمم الجبال، وكل هذا الثراء الضخم مما كان يهبه له عثمان من بيت المال ! وبتلك العبارات المسعورة يريد أن يهدم كرامة نفر من أكابر الصحابة، ومن العشرة المبشرين بالجنة!!
إن المصادر المريبة التى يتعامل معها الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى حافلة بأعجب الأوهام، تأمل فيما يحكيه عن طلحة، إنه يملك ضياعا فى العراق خراجها ألف دينار ذهبا فى اليوم (!) وعلى مرابطه ألف فرس، وفى قصوره ألف أمة (!) وذلك كله مما نهبه من بيت المال أيام عثمان!
إن طلحة من أشراف الناس خلقا وخلقا وقد شلت يده فى معركة (أحد) وهو يحمى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السهام المصوبة إليه، وجاء فى إحدى الروايات عن الترمذى أنه "من سره أن ينظر إلى شهيد يمشى على الأرض فلينظر إلى طلحة"! وهو من السابقين الأولين ومن العشرة المبشرين، ومن بناة الإسلام المتواضعين، فهل يتفق هو وعثمان بن عفان رضى الله عنهما على أكل أموال المسلمين بهذه الصورة المنكرة؟
بأى منطق تحشر هذه المفتريات فى تاريخ الإسلام ورجاله؟
والأستاذ الشرقاوى قرأ حديث الإفك فى كتب التفاسير، وفى كتب السنة ففى أى مصدر محترم قرأ أن على بن أبى طالب لما رأى الرسول مهموما للشائعة المحقورة ضد زوجته قال له: هى شسع نعلكم، طلقها فالنساء غيرها كثير!!
هل على وضيع الخلق فيصف امرأة مظلومة بهذا الوصف؟ ومن قال له: إن عائشة كانت ترهق الرسول وتسئمه وتضايقه؟ الصحيح الثابت فى السيرة الشريفة أن عائشة كانت أحب أهله إليه، وكانت هى شديدة التعلق به، ولقد جاء فى الصحاح أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها: "أنا أعرف متى تكونين راضية، ومتى تكونين غاضبة! إذا كنت غاضبة قلت: ورب إبراهيم، وإذا كنت راضية قلت: ورب محمد".
قالت: والله يا رسول الله.. ما أهجر إلا اسمك، تعنى أنه فى قلبها.. فلماذا يجئ امرؤ متطفل ثقيل الظل بادى السخف ليتدخل فى شئون لا تعنيه ويزعم أن عائشة كانت متعبة للرسول، ثم ماذا؟ ثم إنها كانت تكره الأقباط فى مصر، لأنها كانت تكره مارية!!
وكأن الأستاذ الشرقاوى يريد أن يطبق عليها عقوبة إثارة الطائفية، وتهديد الوحدة الوطنية!!
كل ذلك ليكون على إمام المتقين! وعلى رضى الله عنه أكبر من هذه التفاهات، إن أبا الحسن كرم الله وجهه لا يبنيه هدم الآخرين فهو من السابقين الأولين، والخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، والشرقاوى يسئ إليه بهذا الأسلوب المنكر.
يتهم الشرقاوى الخليفة الراشد عثمان بن عفان بأنه انحرف بنظام الخلافة وحوله إلى ملك عضوض وجعل أقاربه وعماله جبارين على رقاب الناس، وأعانهم على اتخاذ القصور والضياع من مال الأمة.. الخ.
ونحن نناقش هذه الدعاوى بهدوء، لافتين النظر أولا إلى أمور:
(أ) إن الطريقة التى جاء بها عثمان إلى الحكم تشبه ـ ولعلها أوسع ـ من الطريقة التى جاء بها عمر! أى أن لونا من الشورى كان يضبطها، فليست وراثة ملك ولا ولاية عهد، وإنما هو بحث عن أقرب الناس سمتا وهديا وتأسيا برسول الله عليه الصلاة والسلام، ورعاية لشئون الناس..
(ب) إن الطعن فى خلافة عثمان لم يكن بدعة محدثة، فإن بعض الفارغين الجالسين على المصاطب قال ـ لما استخلف أبو بكر عمر ـ نعم، رشحه عام أول فرد إليه الجميل بترشيحه هذا العام! وقائلو هذا اللغو يحسبون الخلافة مصلحة شخصية، وما دروا أن أبا بكر وعمر خرجا منها وقد أعياهما حمل الأعباء، وتعريا من كل مال يملكانه! ورأى عمر ألا يرشح ابنه عبد الله لها، وقال: بحسب آل الخطاب أن يحاسب منهم رجل واحد عن المسلمين!
(جـ) إن عثمان لما ولى الخلافة كان أحب إلى الناس من عمر لليونته وسهولة نفسه حتى كأن المرأة تدلل وليدها بهذا الكلمات:
أحبك، والرحمن! .. حب قريش عثمان!
وزعم الشرقاوى بأن عثمان أخذ الناس بسياسة الملك العضوض، باطل من أساسه.
ونحن نتساءل: هل وقعت مظالم اقتصادية جعلت الناس يثورون لما حل بهم من ضوائق؟ هل وقعت اضطهادات سياسية جعلت الناس يضيقون لغياب الحريات وخنق الآراء؟ هل كانت لعثمان خاصة ملكية جعلت الجماهير تغضب لما حصل عليه من ميزات على حسابهم؟
إن شيئا من هذا كله لم يقع، لقد كان الرخاء عاما، والمال وافرا، والضروريات والمرفهات تملأ البيوت. وتدبر ما يقوله الحسن البصرى فى وصف الحالة الاقتصادية أيام عثمان رضى الله عنه:
(شهدت عثمان وهو يخطب، وأنا يومئذ قد راهقت الحلم، فما رأيت قط ذكرا ولا أنثى أصبح وجها، ولا أحسن نضرة منه! سمعته يقول: أيها الناس.. اغدوا على أعطياتكم؟ فيأخذوها وافية! أيها الناس.. اغدوا على كسوتكم! فيغدون فيجاء بالحلل فتقسم بينهم! حتى والله سمعت أذناى: يا معشر المسلمين.. اغدوا على السمن والعسل، فيغدون، فيقسم بينهم السمن والعسل. ثم يقول: يا معشر المسلمين.. اغدوا على الطيب! فيغدون فيقسم بينهم الطيب والمسك والعنبر وغيره! والعدوان والله منفى والأعطيات دارة، والخير كثير، وما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا..).
ما يريده الشعب أكثر من ذلك؟ ما الذى يغضب الجماهير من هذا العهد الخصيب المغدق؟ حتى العطور توزع على الناس! (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله).
أكان عثمان حاكما مستبدا يصد أصحاب الرأى أن يقولوا ما يرون؟ من الذى شكا من المفكرين العباقرة أن عثمان كبت فكرة؟ يقولون: رفض رأى أبى ذر ألا يملك مسلم فوق حاجته! ونقول: ومن من المسلمين وافق أبا ذر على ما نسب إليه من رأى؟ إن مبدأ الملكية محترم فى الإسلام، وإن كان مثقلا بالحقوق، وإنكار الملكية الفردية ليس من الإسلام فى شىء، وإنما الكلام فى الحقوق التى ترتبط به!
فهل جاع مسلم على عهد عثمان وأتخم آخر؟ أم إن الوفود المسيرة ضد الخليفة المفترى عليه كانت تسيرها مآرب أخرى؟ سنرى ذلك بعد حين.
ونحب أن نشرح جانبا من سيرة عثمان لنرى أكان الرجل حاكما مستغلا لمنصبه أم كان رجلا مترفعا على الدنيا ملتزما نهج الخلافة الراشدة.
يقول الأستاذ أحمد محمد الصديق: إنه لم يستأثر بالمال لنفسه ولم يحتجنه أثرة على غيره! وقد نقل الأستاذ العقاد فى عبقرياته اتفاق المؤرخين على أن عثمان ترك الدنيا، وماله أقل مما كان لديه يوم ولى الخلافة.
وقد روى شرحبيل بن مسلم أن عثمان كان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت! وسئل الحسن عنه فأجاب: رأيت عثمان بن عفان يقبل فى المسجد، وهو يومئذ خليفة، ويقوم وأثر الحصى بجنبه! فنقول: هذا أمير المؤمنين، هذا أمير المؤمنين!
وكان فى شيخوخته المجهدة إذا استيقظ من الليل ليصلى ما كتب الله له، يأبى أن يوقظ أحدا من خدمه كى يعد له وضوءه، ويتحامل على نفسه فى إحضار الماء وإسباغ الوضوء.
والإجماع معقود على أن عثمان كان دمث الأخلاق، شديد الحياء، واسع الجود، بذالا فى وجوه الخير، محبوبا من عارفيه كلهم! يؤثر السلام ويكره الخصام، ويرفض العنف ويفضل فقدان حقوقه على نيلها بقطرة دم.
وقد ضارته هده السيرة الرفيعة ـ أو بتعبير آخرـ استغلتها القوى المعادية للإسلام على أوسع نطاق..
ونحن نعيب على أهل الحق نوعا من السلبية التى تغلبهم، وتتيح لأهل الباطل التسلل إلى صميمهم! وتوجيه الضربة القاتلة إليهم. وقد نبه عمر إلى خطورة ذلك فقال للمسلمين: (إذا وليتم واليا، فأحسنوا مؤازرته وأعينوه )
إن الحاكم ليس كادحا يسعى على قاصرين! أو معصوما يعمل لخطائين! إنه واحد منا يجب أن يحاط بالمشيرين الأمناء، والمساعدين المتجردين!
والشورى التى تقدم لعمر غير الشورى التى تقدم لعثمان! كان عمر صارما شامخا تفر شياطين الإنس والجن من طريقه، وقد هابه الناس، لا تهيب خشية وكره، بل تهيب إجلال وإعزاز. وقد رآه الناس أو عرفوا عنه أنه كان يحمل على منكبه القوت لامرأة تضع، أو لأهل بيت فقراء..
وكان عهد عمر مزيجا من بأساء ونعماء، شعر الناس فيه بالجوع وشعروا بالشبع، وكانوا موقنين بأن أمير المؤمنين يجوع ويشبع معهم! أما عهد عثمان فإن الرخاء كثر فيه حتى أبطر السوقة!
وكان عثمان نفسه حييا سمحا، والناس على الحيى أجرأ، وقد يأخذون مال السمح ولا يشكرونه، ويمرحون فى رفده ويرون أنفسهم أحق به منه !
وفى ذلك يقول الأستاذ أحمد محمد الصديق: (ظاهر أن الخليفة عثمان لما أدر الأرزاق لم يخص بها أقرباءه ـ كما يزعم الأفاكون ـ بل كانت تشمل المسلمين عامة، وربما كان لين عثمان وحياؤه هما اللذين أطمعا بعض الناس فيه! وما كانوا لينكروها عليه لو أخذهم بالصرامة والحزم كما فعل سلفه عمر بن الخطاب..! يقول عبد الله بن عمر: لقد عيبت على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عيبت عليه، ويقول الحسن البصرى:... ثم أنكر الناس على عثمان أشياء أشرا وبطرا!!
وقد عجب عثمان نفسه من هذا الموقف المتناقض فقال فى خطبة له: أما بعد.. فإن لكل شىء آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذا الدين وعاهة هذه الملة قوم عيابون طعانون، يرونكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون! أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار لقد عبتم على أشياء ونقمتم أمورا، قد أقررتم لابن الخطاب مثلها ولكنه وقمكم أى قهركم وقمعكم ـ أى وقفكم عند حدودكم ـ ولم يجترىء أحد أن يملأ بصره منه أو يشير بطرفه إليه!! إلى أن قال: أتفقدون من حقوقكم شيئا؟؟
فسكت الجميع! لأنه ليس لأحد حق ضائع أو ظلامة يشكو منها..!
إذن.. ما سر الفتنة التى اندلعت، والوفود التى استقدمت، والتهم التى وجهت؟؟ سنعرف ذلك عندما نتحدث عن المؤامرات الأجنبية على الأمة الإسلامية، ولكن قبل هذا الحديث لابد من كلمة مستفيضة عن مصادر الأخبار التى تكون حكما على أمر ما، فقد رأيت الأعاجيب فيما سمعت ورأيت وقرأت هذه الأيام.
***
من مراسم الكهان القدامى أنهم يقولون فيسمع لهم! ويحكمون فلا يعترض عليهم! لماذا؟ لأنهم هم الذين قالوا وحكموا.. حتى تعلمنا فى أدب البحث والمناظرة هذه الكلمة الغالية: (فإن كنت ناقلا فالصحة، أو قائلا فالدليل) ـ أى لا يقبل من ناقل كلام إلا إذا بين لنا مصدره، فعرفنا أن كلامه عن طريق الثقاة..
كما لا يقبل من مدع رأى إلا إذا دعمه بالبرهان، فإن عجز سقط رأيه:( أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم).
كتب الأستاذ الشرقاوى ـ على طريقته فى تجريح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان طلحة والزبير يتطلعان إلى الخلافة) وهذا باطل، فإن الرجلين الكبيرين انسحبا من ترشيح نفسيهما فى اجتماع لجنة الستة التى كلفها عمر بن الخطاب باختيار الخليفة بعده، وقد أعطى الزبير صوته على بن أبى طالب، وأعطى طلحة صوته عثمان بن عفان.
فأين هذا التطلع؟
ثم مضى يقول: (وكانت عائشة تريد الخلافة لطلحة، وإنما هو الملك ما يطلبون) ـ يعنى عائشة وطلحة والزبير ـ (!).
ومضى الأستاذ فى طريقه مناجيا على بن أبى طالب: (إن أم المؤمنين قد صرحت من قبل بأنها تفضل أن ترى السماء تنطبق على الأرض ولا تراك يا عليا أميرا للمؤمنين) ـ يقصد يا على ولكن المطبعة نصبت المرفوع ـ ثم يمضى فى تجريح عائشة والافتراء عليها: (... هى تعرض مهج المؤمنين للسيف لكى تنزع الأمر منك، وتعطيه طلحة زوج أختها أم كلثوم).
ونقول من باب السخرية: ولماذا لا تعطيه زوج أختها أسماء؟
هذا النقل كله كذب، والتعليق عليه هزل، وعائشة لا تعطى أحدا الخلافة ولا ما دونها، ولكنها الرغبة فى تجريح الصحابة الكبار!
ونريد أن نذكر للأستاذ الشرقاوى تجربتين عرضتا له أخيرا ليعرف منهما قيمة المرويات المخطوفة والاستنتاجات العجلى، فعندما أخذ عليه الأستاذ الشيخ عبد القادر العمارى تفسيره المادى للتاريخ قال: والشيخ العمارى مصرى أزهرى يشغل أرفع المناصب الدينية فى دولة قطر... ثم ألمح إلى أن دخله الكبير يجعله من المدافعين عن مصالحهم!
والشيخ الفاضل ليس مصريا ولا أزهريا ولا يحتل أرفع المناصب ولا ينال أكبر الدخول، إنه قاض قطرى يحمد الله على نعمة الستر!
والتجربة الأخرى معى أنا، فعندما رفضت أحكامه على الصحابة، وطريقته فى القصص قال: والذى حاضر ضدى فى جامعة قطر كان شاهد ملك فى قضايا الإخوان المسلمين، أدخل من شاء السجون ومن شاء القبور!
فلما علم أنه كاذب قال: لم أذكر الاسم المعنى، وها أنذا أنشر التكذيب!! - حتى لا يتدخل القانون ضده -.
لكن الافتراء على الصحابة لا يؤاخذ عليه قانون فلننسب إلى عائشة ما نشاء، ونحن فى حماية الفن القصصى، وغيبة الضمير النزيه! من أين يستقى الكاتب الكبير أخباره؟
إن عائشة ليست كليوباترا، ولا اليصابات حتى يتلقف تاريخها من الحكايات الطائرة، والخيالات الجائرة... وأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ليسوا من دهماء الخلق ولا سقط المتاع، إنهم أشرف أصحاب احتفوا بنبى أرسله الله من بدء الخليقة إلى انتهاء الوحى..
إنهم امتداد لكيان محمد صلى الله عليه وسلم الروحى، ومجلى لإعجازه التاريخى، حملوا معه العبء وأحسنوا البلاغ وكافحوا المظالم الراسية على الثرى قرونا طويلة، وصانوا التراث السماوى على حين بادت مواريث أخرى وشانها التحريف والتشويه..
ثم هم هادمو الطواغيت فى المشارق والمغارب وناقلو الوحى من صحراء الجزيرة إلى أودية الحضارات، أى أنهم المنفذون العمليون لعالمية الرسالة والدعائم المستخفية تحت طباق الوجود الإسلامى الحاضر!!
إنهم كما قلت فى كتاب لى: جزء من حياة محمد عليه الصلاة والسلام نفسه، فالنيل منهم نيل منه، والاستخفاف بهم استخفاف به - نستعيذ بالله -. وقد روى الترمذى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الله الله فى أصحابى! الله الله فى أصحابى! لا تتخذوهم غرضا بعدى! فمن أحبهم فبحبى أحبهم، ومن أبغضهم فببغضى أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ".
وروى أصحاب السنن أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "لا تسبوا أحدا من أصحابى، فإن أحدكم لو أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ".
وعن الترمذى: "إذا رأيتم الذين يسبون أصحابى فقولوا: لعنة الله على شركم "!.
والأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى كما قلنا جرح العشرة المبشرين ماعدا عليا، ونسب إلى بعضهم تهما شائنة، وترك الآخرين يكتوون فى النار بما خلفوا من أموال، لأنهم كانوا أغنياء كبارا، وتلك جريمة كبرى!
والتحصن بعلى بن أبى طالب لضرب بقية الأصحاب خطة قديمة لضرب الإسلام ذاته، وتقويض قواعده الأولى، وإذا كانت هذه الخطة قد نجحت قديما فلن يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
لقد ظهر القرامطة واشتدت وطأتهم خلال القرنين الرابع والخامس واستطاعوا مع ضعف الدولة العباسية أن يستولوا على أقطار كبيرة، بل لقد اقتلعوا الحجر الأسود من مكانه بعدما ملئوا الحرم المكى بالجثث وظل فى حوزتهم أكثر من ربع قرن!!
والقرامطة نحلة فوضوية خبيثة تكره الإسلام وتبيت له الويلات، بيد أنها أبطنت ذلك مظهرة الولاء لأهل البيت، والغلو فى على إمام الأئمة، والأسى لمصارع الطالبيين!!
وقال قادتها: نستطيع هدم السلف كلهم تحت راية الولاء لعلى، والغضب لما أصابه وأصاب بنيه !
ومع هدم السلف، وضياع كرامة الصحابة يبقى الإسلام بلا قاعدة يعتمد عليها، وبلا تاريخ يجدد مساره! وقد شرح أبو حامد الغزالى ذلك فى كتابه (فضائح الباطنية)..
والغريب أن من العرب فى هذا العصر من يغالى بالقرامطة، ويملأ فمه بالانتماء إليهم! ويعدهم طليعة اشتراكية محترمة، سبقت عصرها، وحمت مصالح الطبقات الكادحة من فلاحين وعمال!!
ولا أظن الأستاذ الشرقاوى يجدد هذا المذهب مهما كان خطه الفكرى، لكنى أحب أن أسأله: لقد أبرزت عمرو بن العاص طالب دنيا، زاهدا فى الدين، ألعبانا ينافق ويداور! فما يكون دينك لو لم يفتح عمرو مصر؟
ومن تخدم عندما تستورد من الشائعات التاريخية ما يسقط مكانة عمرو ويضيف إليه مثالب لا تحصى..؟ ولحساب من تنفخ التراب عن هذه القضايا المطمورة، وتشغل الأمة بمآسيها القديمة بدل أن تشغل بتهويد فلسطين وهدم المسجد الأقصى، واستيلاء الروس على أفغانستان؟؟
إن هذه المقالات المنشورة فى الأهرام على حلقات متصلة، أساءت إلى ديننا وتراثنا، ووددت لو شغل الكاتب نفسه بشىء آخر.
----------
(*) هذا الفصل هو محاضرة بجامعة قطر في الرد على مسلسل ( علي إمام المتقين ) الذي كانت تنشره صحيفة الأهرام للأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي ، وقد توقفنا عند هذه الكلمة إذ وعد الكاتب بمراجعة ما سبق نشره عند جمعه في كتاب .
----------( انتهى )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
نشر في 10 حزيران 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع