1283 مشاهدة
0
0
يبدو أنه مع اتساع الحضارة تكثر الحاجات المادية والروحية على سواء، ولعلهم فى يومهم القريب أشد فقراً إلى الإسلام من أمسهم البعيد من كتاب علل وأدوية
كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 3 ] كيف غير الإسلام مسار العالم؟
لم يكن الإسلام فكرة يحلم بها فيلسوف، أو نظرة ينقطع لها راهب بل كان دينا تتغير به النفوس وتنتقل من أدنى إلى أعلى! وتتغير به المجتمعات تغيرا يصيبها فى قوالب جديدة من صنع الله لا أثرا لصنع الناس!.
إن العمل الذى كلف به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعيد الآماد، شاق المراحل، كان عليه أن يزيح ركاما هائلا، من الأوهام والأهواء أثقل القلب الإنسانى وضلل سعيه.
كان عليه أن يفك قيودا منعته شاركت فى صنعها أديان أرضية وسماوية. كان عليه أن ينقذ الناس من مواريث روحية وفكرية وأدت الحق وطمست الفطرة.
ما كان أحد غير محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستطيع ذلك الأمر كما قال الكتاب العزيز: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة).
إن انفكاك القرون عما ألفت، وانتقالها إلى طور آخر من الوعى والسداد هما العمل الكبير الذى أتمه صاحب الرسالة الخاتمة، وغير به وجه الأرض ، وصحح به أخطاء التاريخ . ولابد من تفصيل يضع النقط على الحروف.
إن محمدا وعيسى أخوان، ولكن الإسلام حاسم فى رفضه للفكر الشائع بين النصارى، أى رافض لعقيدتى التثليث والفداء، أساس الدين إله واحد، وإنسان مسئول برأسه عن نفسه، وعيسى لم يقل إلا هذا..
ومحمد وموسى أخوان بيد آن دين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرفض صلف اليهود، وتصورهم الردىء للألوهية وزعمهم أن لهم بالله علاقة خاصة تسول لهم الجور على سائر الخلق، إن موسى لم يقل شيئا من هذا.
غير صحيح أن محمدا بعيد عن موسى أو عيسى، كلا، إنه بعيد عن مبتدعات أقحمت عليهما وغشت تراثهما، وخدعت الجماهير باسم الله عن دين الله...
لكن كيف يتم تصحيح تلك الأخطاء التى غبرت عليها قرون طوال؟ يتم بإنارة العقل والتفاهم الهادئ والحوار الحسن! يتم برد الإنسان إلى فطرته واحترامه لمواهبه واستكشافه لحقيقته.
إنك لتلمح ذلك المنهج فى قوله سبحانه: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
لماذا أحرم عناية الله وعطفه وأنا أخلص له قلبى وأسلم له وجهى؟ لقد كان أهل الكتاب ينتشرون شمالى الجزيرة العربية وفوقها حتى ملتقى البحر المتوسط بالمحيط الأطلسى. أما الجزيرة نفسها، وشرقها حتى المحيط الهادى فإن الوثنيات وجدت لها مرتعا خصبا.
وغريب أن يعبد الإنسان حجرا كان من حقه أن يجعله درج سلم يصعد فيه، أو يعبد بقرة كان من حقه أن يذبحها، ويسد بها جوعه إلى طعام دسم! ولكن الإنسان كان ولا يزال يفعل ذلك.
الظاهر أن هذه الوثنية غطاء لا تباع المرء هواه، أو هى سد يعترض التفكير السوى ويردم مجراه لتنطلق بعد ذلك غرائز الإنسان الدنيا وشهواته العاجلة لتعربد كيف تشاء.
هل تلك الحقيقة الوثنية وحدها؟ أم هى حقيقة كل تدين ينيم العقل ويأبى منطقه؟ سواء فى ذلك الإلحاد والتعديد، والجحد والتجسيد، وما ينتسب إلى الأرض أو ما ينتسب إلى السماء.
إن الانحراف عن الصراط المستقيم يأخذ خطوطا شتى، ولا نحاول إحصاء هذه الخطوط، ولا معرفة أين زاغت! المهم معرفة الصراط المستقيم وإيضاح معالمه وإرشاد التائهين يمنة ويسرة إليه. وكم تكون هذه المهمة جسيمة وفادحة إذا كانت تتناول العالم أجمع.
وقد كانت هذه هى الرسالة التى صدع بها النبى العربى الخاتم، عليه أن يهدى الناس كلهم، عليه أن ينير بالحق بصائرهم، عليه أن يفك القيود التى شلت حراكهم الروحى وحراكهم العقلى، إنه رحمة للعالمين وقد تضمن الكتاب الذى نزل عليه التحقيق الأمثل لهذا الهدف الجليل، ونذكر منه الحقائق الآتية:
( أولا ) : لا يستطيع المرء أن يعرف ربه معرفة حقة وهو محجوب عن الكون الكبير الذى يعيش فيه، إن التأمل فى الذات العليا مستحيل، وإنما ندرك عظمة الذات من آيات الله فى ملكوته الضخم، وذاك منهج القرآن فى بناء الإيمان:
(إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي). (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا). (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر). (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء).
ولا نعرف كتابا قبل القرآن، ولا نبيا غير محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربط الناس بروائع العالم وبدائعه على هذا النحو. وليست صلة الإنسان بالعالم لمعرفة بديع السموات والأرض فقط، بل لبيان المملكة الفسيحة الأرصاد التى أعدت للإنسان وجعلت له مرتفقا...
إن التدين ليس غربة ولا عجزا ولا انحسارا فى هذه الدنيا، كيف وقد قيل للناس كلهم: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة).
وفى آية أخرى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
ولو انساق المسلمون مع توجيهات دينهم لكانوا أسبق إلى غزو الفضاء من غيرهم ولكن معنى الدين انكمش فى نفوس كثيرة فما قدرت الله حق قدره، ولا أبصرت وظيفة فى كونه، ولا سمت همتها لتتبع نبيها المتجاوب مع ملكوت الله ، الذى أسرج مصابيح حضارة مادية أو أدبية لا نظير لها.
( ثانيا ) : من العلماء والأطباء من اعتبر الزمان بعدا ماديا رائعا مع الطول والعرض والعمق وإذا كان ذلك موضع جدال فى عالم المادة فهو فى عالم الأمم وتاريخها المديد حقيقة ملحوظة..
وقد أشار علماء التفسير على أن كيان الأمم فى الماضى والحاضر وحدة متماسكة، وأن الأخلاف النابتين بعد الأسلاف مسئولون معهم عما قدموا ما داموا ينشئون على عقائدهم ويسيرون فى مسالكهم ويتبنون قيمهم!
من أجل ذلك قيل لبنى إسرائيل فى المدينة أيام البعثة الشريفة: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم).
لقد خوطبوا بما وقع لآبائهم مع بعد الزمان لأن المسئولية مشتركة بين أفراد القافلة التى تنطلق إلى هدف واحد، وينتظمها باعث واحد، وإن اختلفت الأعصار والأمصار.
وهذه النظرة الشاملة للإنسانية قديمها وحديثها جعلت القرآن الكريم يمتلئ بالقصص الحاكية لأحوال الأولين، وأطوار الصراع بين الحق والباطل والخير والشر، والمرسلين وأتباعهم عن ناحية، والمجرمين وأحزابهم من ناحية.
نعم فعلى المستأخرين أن يفيدوا من التجارب الماضية كما يستفيد أى شخص من عظات الأمس القريب أو البعيد! عليهم أن يدركوا: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
وعلى المصلحين الثبات فى مواقفهم وإن تجهمت الدنيا لهم وغاب النصر عنهم فإن المستقبل لمبادئهم على أية حال: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله).
( ثالثا ) : الدين عقائد وتوجيهات عملية، وآفة العقيدة ألا تكون مطابقة للواقع، إن الكذب هنا أمر خطير، وآفة التوجيهات التى تكون جائرة مرذولة، تضر الأفراد والشعوب.
والإسلام ـ فى كلا الميدانين ـ منزه عن هذه الآفات، بل هو يتهدد مروجى الكذب فى مجال الإيمان، ومروجى الشر فى ميدان السلوك فيقول: (ويل لكل أفاك أثيم).
ثم يكشف الإسلام صت طبيعة الصدق فى عقائده، والعدالة فى وصاياه، فيقول: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم).
وكذا يبنى الإسلام حاضر الناس على الحق والخير، إن الله الأحد ليس له شركاء، أين هم؟ لا وجود لهم فى شرق أو غرب، لا وجود لهم فى أرض أو سماء، إن الإشراك خيالات سكارى يجسدون الأوهام، لا إله إلا الله!
وأذكى الناس فى تصوير هذه الحقيقة محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنه وحده يعرف الخبر اليقين، كما أن منه وحده يعرف التوجيه الصحيح لسلوك الناس على ظهر هذه الأرض.
فالعبادات التى شرحها ضوابط للسمو وموانع من الإسفاف، والمعاملات التى شرعها تدور على محور من المصالح عادة وترفض الضرر للأفراد والجماعات.
إن الدين ـ من أفواه بعض الدعاة ـ مر المذاق كريه التناول: لأنهم يضيفون إليه من نفوسهم المعتلة ما تعافه الطباع السليمة، ولأمر ما يقول الله فى كتابه: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل).
وهزائم الدين فى بيئات شتى ترجع إلى هذه الإضافات الأرضية لا إلى أصوله السماوية، وعلى المسلمين المعاصرين الالتفات إلى هذه الحقيقة وهم يتصورون دينهم ويصورونه للناس أن فتانين كثيرين انتشروا هنا وهنالك يتحدثون باسم الإسلام وبصرهم بحقائقه كليل.
( رابعا ) : إلى أين المصير؟ لقد فضح الموت الحياة، فهو يسطو عليها كل دقيقة من الساعة، بل كل ثانية من الدقيقة ، وفى أنحاء القارات الخمس تتصل مواكب الذين يغادرون هذه الأرض ليخلو المكان لقادمين جدد.. عجبا، أين يذهبون؟ يقول الدين: إنهم يعودون إلى بارئهم كى يقدموا حسابا عن حياتهم السابقة.
ويفر كثيرون من الإجابة على هذا السؤال لأن سكرة الدنيا تشغلهم عنه، أو لأن خطورة المصير تفزعهم فهم يفضلون عدم رؤيته كما تفضل النعامة دفن رأسها فى الثرى حتى لا ترى الصياد المقبل.
وحديث اليهود عن الآخرة غامض ونادر، بل لا ذكر له فى أسفار موسى الخمسة (التوراة) عندهم! وحديث النصارى عن الآخرة روحانى محدود الصورة.
أما حديث القرآن فهو عن عالم مكتمل الوعى محسوس الثواب والعقاب، تسمع فيه دوى الحوار بين السعداء والأشقياء كما تلمح فى استيعاب المساءلة لكل ما يقع من المرء فى دنياه.
هناك أجل لكل فرد، ما ينكر ذلك مؤمن ولا ملحد! فأما الملحدون فيرون ذلك الأجل ختام الحياة كلها، وأما المؤمنون فيرون ذلك بدء الحياة الأبدية الصحيحة.
وستبقى الدنيا تركل وفودها لحظة إلى العالم الآخر حتى ينتهى أجلها هى الأخرى، وهنا تلتقى القرون كلها لتتوزع على النعيم والجحيم، وتكتمل نشأة الدار الآخرة.
هناك من يرفض ذلك التصور كله، ولا يدرى من أين أتى ولا من أتى به؟ وتصوير القرآن لذلك الإنسان جدير بالتأمل: (قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرآه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين).
إن هناك ميثاقا غير مكتوب بين المذاهب والمبادئ المنتشرة فى عالمنا المعاصر، ألا تذكر الدار الآخرة! وأن يقتضب الحديث عنها إذا عرضت ضرورة لهذا الحديث الكئيب!
وهذا موقف يستحق النظر.
إننى أؤيد ذلك عندما يكون الدين تعويقا لحركة الأحياء، وكسرا لهمم العاملين المنتجين، ومن أهل الدين من يريد بذكر الموت إطفاء منارات الحضارة، وتجفيف منابع الأمل، وهؤلاء يسيئون إلى الدين والدنيا معا.
لقد أكثر القرآن الكريم من الحديث عن الدار الآخرة ومشاهد البعث والجزاء، والغرض من ذلك لا يعدو تذكير الغافلين وترشيد المسعورين حتى يدخلوا حساب العالم القادم فى حساب يومهم الحاضر، مستشعرين قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين).
والنسيان شديد الوطأة على ألباب الناس حتى ليذهلهم عن حقائق قريبة وشئون ذات بال، فإذا كانوا يسهون عن حاضرهم أفلا يكونون عن الغد البعيد أكثر سهوا وأحوج إلى مذكر ملحا!؟
وبعد.. فقد ارتقت العلوم الكونية والإنسانية، واتسع تطبيقها لترفيه العالم وترقيته، فهل يستغنى الناس فى عصرهم هذا عن تلك العناصر التى تضمنها الإسلام لضبط مسارهم وإحكام أمرهم؟
يبدو أنه مع اتساع الحضارة تكثر الحاجات المادية والروحية على سواء، ولعلهم فى يومهم القريب أشد فقرا إلى الإسلام من أمسهم البعيد.
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
نشر في 08 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع