1319 مشاهدة
0
0
والطريق إلى الله تعبير لطيف عن جهود المسلم فى تصفية نفسه، وترضية ربه، والتحول عن مواطن الغفلة والركود إلى مواطن الذكر والحركة، من كتاب الجانب العاطفي من الإسلام
كتاب : الجانب العاطفي من الإسلام - تأليف : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 26 ] شارات الطريق (1 من 11) : التوبـة
لابد لكل مسلم من تأهيل عال يجعله حقيقا بالانتساب إلى الله، والخلود فى رحمته. ونفسه التى بين جنبيه هى موضع التزكية والترقية وهو يستطيع رياضتها بما شرع الله من طاعات وحدود، وبما رسم من آداب ومعالم حتى تبلغ الشأو والمراد.
وليس لطريق الكمال نهاية يقف لديها المسلم، فهو ما بقى حيا مكلف بالأمر والنهى، مطالب بالنظر فى نفسه، فلعل فضلة شر بقيت يجب استئصالها، أو نشأت من جديد يجب أن يمحوها.
ولو أنه أمن تسرب الكبائر والصغائر إلى نفسه، ووثق من ارتداد الوساوس الآثمة عنه فإن حقوق الله عليه ـ من تعبد محض ـ تبقى فى عنقه ما بقى فيه نفس يتردد حتى يلقى الله، وهو ذاكر شاكر، مستسلم الفؤاد والجوارح، يتضح على روحه هذا التوجيه العالى : (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ).
والطريق إلى الله تعبير لطيف عن جهود المسلم فى تصفية نفسه، وترضية ربه، والتحول عن مواطن الغفلة والركود إلى مواطن الذكر والحركة.
ومراحل الطريق تتمثل فيما يحرزه المرء من نجاح، وهو يتخلص من خلة رديئة، أو مسلك عابث، ويتحلى بخلق كريم وسيرة جادة.
إن هذه النقلة النفسية خطوة متميزة فيما يخلفه المرء وراءه من أحوال لا تليق، وفيما يستقبله من صحو، واستحكام رأى، ودقة تصرف، على حد قول الشاعر:
صحوت وزايلنى باطلى .. لعمر أبيك زيالا طويلا
فأصبحت، لا نزقا للحاء .. ولا لحوم صديقى أكولا
الطريق سير فى ميادين النفوس، وجهته الله، وعدته صالح الأخلاق والأعمال. ومع هذه العدة التى يقوم المسلم بها، رجاء حار فى التوفيق الإلهى الذى يسدد الخطا ويبارك فى القليل.
ذلك أن الله وعد المقبلين عليه بإقبال أعظم (من جاء بالحسنة فله خير منها)
والسائر لو وكل إلى جهده وحده غلبته وعثاء الطريق فمشى ببطء أو انقطع بعد لأى، ومن ثم فإن تعويل السائرين ينبغى أن يكون على الإمداد الإلهى أضعاف ما يكون على الجهد المبذول.
ألا ترى الفلاح يبذر الحب ويروى الأرض، وينظر ـ بعد ذلك ـ إلى بركات السماء، وهو مدرك أن جهده المحدود لا قيمة له، ما لم يلحظه الله بعنايته.
إن هذه العناية قد تفاوت بين جهدين متساويين فتجعل نتاج هذا عشرة عشرة أضعاف ذاك.
• التوبـة :
وهى أول مراحل الطريق، بل هى المدخل المفضى إليه، والقرين المتنقل فى مدارجه من البداية إلى النهاية.
والتوبة كلمة شائعة على الألسنة، حتى لكأن شيوعها ابتذلها وأطفأ سناها الكريم، ومع أن دلالة الكلمة تجعلها أخطر من أن يجازف بها.
هل يلغو إنسان فيقول: بنيت قصرا، أو يلغو فيقول : ألفت كتابا!!.
إنا بناء قصر شاهق أهون من بناء نفس خربة، وإن تأليف كتاب ثمين أرخص من تأليف نفس فرق الهوى أقطارها.
والتوبة هى هذا البناء والتأليف، فمن الهزل العجاب أن تدور على الألسنة دون تيقظ وإدراك.
وجمهور البشر محتاج إلى التوبة، فقلما ينجون فى حياتهم من العثار والتخليط، وما أكثر الذين يرديهم طيش الغرائز، وضعف الرأى، وقلة التجربة، واضطراب اليقين.
وإذا استثنينا الأنبياء فأغلب بنى آدم تعرضوا لخطايا سيئة، وأخطار لا حصر لها.
أما الأنبياء فإنهم قيادات روحية وفكرية اصطفاها الله من النشأة الأولى وتخيرها من معادن أرقى، فهم ليسوا على غرارنا، وان كانوا من تراب الأرض مثلنا على حد قول الشاعر:
فإن تفق الأنام وأنت منهم .. فإن المسك بعض دم الغزال
وقد قال الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) أى: أن الذين تبعوه جاءوا إليه تائبين.
والتوبة ـ فى نظر الإسلام ـ جهد لابد أن يقوم كل إنسان به، ولن يغنى عنك أحد أبدا فى أدائه.
إذا اتسخ ثوبك فلن ينظفه أن يغسل جيرانك ثيابهم. وإذا زاغ فكرك، فلن يصلحه إلا أن يهتدى هو إلى الصواب.
واستحقاق الرضوان الأعلى لا يجئ إلا من هذه السبيل، فلا قرابين، ولا شفعاء. (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى).
والخطأ فى حق الله لا يداويه إلا اعتذار المخطئ نفسه. فلو اعتذر عنه أهل الأرض جميعا، وفى مقدمتهم النبيون، وبقى هو على عوج نفسه فلن يقبل عنه اعتذار، ولن ينفعه استغفار.
لابد أن يجثو المذنب فى ساحة الرحمن ثم يهتف من أعماق قلبه: (رب اغفر وارحم، وأنت خير الراحمين) ليؤمل ـ بعد ـ فى مغفرة الله ورحمته.
وعلى كل إنسان ساء فعله، واضطربت حاله أن يسارع إلى ربه، متعهدا نفسه بالرعاية والتأديب، مقبلا على شأنه بالترتيب والتهذيب، حتى يستطيع النجاة مما وقع فيه.
وانتهاز اليوم أفضل من انتظار الغد، بل إن كنت فى الصباح فلا ترقب الأصيل. " لا مكان لتريث، إن الزمن قد يفد بعون يشد به أعصاب السائرين فى طريق الحق، أما أن يهب للمقعد طاقة على الخطو أو الجرى فذاك مستحيل.
لا تعلق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب، فإن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير.
الحاضر القريب الماثل بين يديك، ونفسك هذه التى بين جنبيك، والظروف الباسمة أو الكالحة التى تلتفت حواليك، هى وحدها الدعائم التى يتمخض عنها مستقبلك، فلا مكان لإبطاء أو انتظار، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل ".
ثم إن كل تأخير لإنفاذ منهاج تجدد به حياتك، وتصلح به أعمالك لا يعنى إلا إطالة الفترة الكابية التى تبغى الخلاص منها، وبقاءك مهزوما أمام نوازع الهوى والتفريط.
بل قد يكون ذلك طريقا إلى انحدار أشد، وهنا الطامة.
وفى ذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " النادم ينتظر من الله الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، واعلموا عباد الله أن كل عامل سيقدم على عمله ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله وسوء عمله، وإنما الأعمال بالخواتيم.
والليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة. واحذروا التسويف، فإن الموت يأتى بغتة.
ولا يغترن أحدكم بحلم الله عز وجل، فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله ثم قرأ : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * و من يعمل مثقال ذرة شرا يره ).
ما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، وأن يرسل نظرات ناقدة فى جوانبها ليتعرف عيوبها وآفاتها، وأن يرسم السياسات القصيرة المدى، والطويلة المدى، ليتخلص من هذه الهنات التى تزرى به.
فى كل بضعة أيام أنظر إلى أدراج مكتبى لأذهب الفوضى التى حلت به من قصاصات متناثرة، وسجلات مبعثرة، وأوراق أدت الغرض منها.
يجب أن أرتب كل شىء فى وضعه الصحيح، وأن يستقر فى سلة المهملات ما لا معنى للاحتفاظ به!
وفى البيت: ان غرفه وصالاته تصبح مشعثة مرتبكة عقب أعمال يوم كامل، فإذا الأيدى الدائبة تجول هنا وهنا لتنظف الأثاث المغبر وتطرد القمامة الزائدة وتعيد إلى كل شىء رواءه ونظامه.
ألا تستحق حياة الإنسان مثل هذا الجهد؟ ألا تستحق نفسك أن تتعهد شئونها بين الحين والحين لترى ما عراها من اضطراب فتزيله، وما لحقها من إثم فتنفيه عنها مثلما تنفى القمامة من الساحات الطهور؟.
ألا تستحق النفس بعد كل مرحلة تقطعها من الحياة أن نعيد النظر فيما أصابها من غنم أو غرم؟ وأن نرجع إليها توازنها واعتدالها كلما رجتها الأزمات، وهزها العراك الدائب على ظهر الأرض فى تلك الدنيا المائجة؟.
إن الإنسان أحوج الخلائق إلى التنقيب فى أرجاء نفسه، وتعهد حياته الخاصة والعامة بما يصونها من العلل والتفكك.
ذلك أن الكيان العاطفى والعقلى للإنسان قلما يبقى متماسك اللبنات مع حدة الاحتكاك بصنوف الشهوات وضروب المغريات...
فإذا ترك لعوامل الهدم تنال منه فهى آتية عليه لا محالة، وعندئذ تنفرط المشاعر العاطفية والعقلية كما تنفرط حبات العقد إذا انقطع سلكه... وهذا شأن (... من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا) كما يقول الله عز وجل.
وكلمة " فرط " ينبغى أن نتأمل فيها، فالعامة عندنا يسمون حبات العنب الساقطة من عنقودها أو حبات البلح الساقطة من عرجونها "فرطا".
وانتزاع حبات الأذرة من كيزانها المتراصة تمهيدا لطحنها تشتق تسميته من المادة نفسها.
والنفس الإنسانية إذا تقطعت أواصرها ولم يربطها نظام ينسق شئونها، ويركز قواها أصبحت مشاعرها وأفكارها كهذه الحبات المنفرطة السائبة لا خير فيها ولا حركة لها.
ومن ثم نرى ضرورة العمل الدائم لتنظيم النفس وإحكام الرقابة عليها..
والله عز وجل يهيب بالبشرـ قبيل كل صباح ـ أن يجددوا حياتهم مع كل نهار مقبل. فبعد أن يستريح الأنام من عناء الأمس الذاهب، وعندما يتحركون فى فراشهم ليواجهوا- مع تحرك الفلك- يومهم الجديد.
فى هذه الآونة الفاصلة تستطيع أن تسأل: كم تعثر العالم فى سيره؟ كم مال مع الأثرة؟ كم اقترف من دنية؟ كم أضلته حيرته فبات محتاجا إلى المحبة والحنان؟ فى هذه اللحظة يستطيع كل امرئ أن يجدد حياته، وأن يعيد بناء نفسه على أشعة من الأمل والتوفيق واليقظة.
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى
#الجانب_العاطفي_من_الإسلام
نشر في 18 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع