Facebook Pixel
المادية تشد الناس إلى الأسفل
1459 مشاهدة
1
1
Whatsapp
Facebook Share

فى ضجيج المعركة التى تنتظم البشر كافة حول مطالب الجسد نريد أن نتريث قليلاً كيلا نضل الطريق ونجهل الغاية، من كتاب الجانب العاطفي من الإسلام للكاتب محمد الغزالي

كتاب : الجانب العاطفي من الإسلام - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 14 ] نسبنا السماوى .. المادية تشد الناس إلى أسفل
• نسبنا السماوى:

فى ضجيج المعركة التى تنتظم البشر كافة حول مطالب الجسد نريد أن نتريث قليلا كيلا نضل الطريق ونجهل الغاية.

لقد علا الصياح وراء وقود المعدة والفروج علوا اختلط فيه أنين الحرمان بسعار الجشع واتصلت نبرات هذا الصياح المهتاج حتى كادت أقطار الأرض لا تعرف غيره.

وفى بقاع شتى لا حديث إلا عن رفع المستوى الاقتصادي، وضمان مقادير موفورة من الرغبات والشهوات للكبار والصغار.

ونحن نعلم حاجة الناس إلى ما يصون ويدعم جانبهم المادى.

ونعلم أن هناك فلسفات ومذاهب جارت عليه ونالت منه، كما أن هناك مظالم وفتنا عرضت هذا الجانب وعرضت الحياة العامة معه لشر مستطير...

لكن العلاج العادل المستقيم لا يكون بالغلو فى التقدير أو الانحراف فى وزن الأمور.

العلاج الصحيح ليس فى الزعم بأن الحياة مادة صرف، كى نجابه من حاف على أثر الظروف المادية فى كيان الإنسان وقلبه ولبه...

إننا فى كتبنا الأخرى نوهنا أشد التنويه بقيمة المال ، وقدرة الأحوال المادية على عمل الكثير، بيد أننا لا نريد أن ننسى أبدا أن الأوضاع الاقتصادية التى نريد السيطرة عليها وسائل لا أهداف، وأن القصد من توجيهها هو خدمة غايات أعظم.

إن رسالة الإنسان فى هذه الحياة تتطلب مزيدا من الدرس والتمحيص.

ووظيفته العتيدة فى ذلكم العالم الرحب يجب أن تحدد وتبرز حتى يؤديها ببصر ووفاء، وقوة ومضاء.

إن بعض الناس جهل الحكمة العليا من وجوده، فعاش عاطلا فى زحام الحياة، وكان ينبغى أن يعمل ويكافح. أو عاش شاردا عن الجادة تائها عن الهدف، وكان ينبغى أن يشق طريقه على هدى مستقيم.

والنظرة الأولى فى خلق آدم وبنيه كما ذكرها القرآن الكريم توضح كل شىء فى هذه الرسالة.

لقد بدأ هذا الخلق من تراب الأرض وحدها، والبشر جميعا فى هذه المرحلة من وجودهم ليس لهم فضل يمتازون به، أو يعلى مكانتهم على غيرهم من الكائنات.

كم تساوى حفنة من التراب؟ لا شىء.

بل إن القرآن الكريم وصفهم فى هذه المرحلة بما يدل على تفاهة الشأن قال جل شأنه: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين).

أجل، فتلك مرحلة فى تاريخ الوجود الإنسانى لا يستمد الإنسان منها أى كرامة، وإنما يستمد هذه الكرامة من الطور الآخر الذى يقول الله فيه لملائكته : (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين).

فى هذه النفخة من روح الله سرت فى الكيان الإنسانى الخصائص التى استحق بها أن يسمو ويمجد، وأن تخضع له صنوف الخلق الأخرى.

نعم، قبل نفخ الروح فى آدم وذريته، وما استحقوا سجودا ولا تكريما فإن الملائكة ومن دونهم لا يكلفون بالسجود لسلالة من التراب تافهة القيمة.

إن هذا الغلاف المادى المجرد لا يستحق شيئا من ذلك...

ولكن بعد أن تألق فى هذا الغلاف المادى قبس من نور الله الأسنى، وبعد أن صار الإنسان يحمل آثارا من صفات الله جعلته حيا ومريدا وقادرا وعالما ومتكلما وسميعا وبصيرا، بعد ذلك، استحق الإنسان أن يكون خليفة الله فى أرضه، وأن تتهيأ أرجاء الكون لاستقباله، والانقياد لأمره.

إن الإنسان كائن عظيم حقا بيد أن عظمته ترجع إلى نسبه السماوى الروحى، لا إلى نسبه الأرضى المادى.

ومن الناس من يقدرون نسبهم الإلهى هذا فيجعلون الحياة تزدان بالمعرفة والكرامة والفضيلة، وتسخير الكون للإنسان.

ومنهم من تغلبهم نزعات الحمأ المسنون فيجعلون الحياة تسود بالشهوات والمظالم والأنانية وتسخير الإنسان لأتفه شىء فى الكون.

• المادية تشد الناس إلى أسفل:

والتزاع الأبدى بين الناس فى هذه الحياة، أساسه : أتكون الهيمنة للحيوان الرابض فى دم الإنسان يتحرك بنزعات القسوة والأثرة وحدها، أم تكون الهيمنة للقلب الإنساني المتطلع إلى الكمال والسلام، والحب والإيثار؟ ذاك ما يجب أن يعرف بجلاء، وأن ترتفع حناجر المصلحين به.

وقد حملنا نحن المسلمين حضارة أعلت قدر الإنسان، ولفتت نظره إلى أن ملكوت السموات والأرض ممهد له (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة).

إن هذا التسخير لآفاق السماء وفجاج الأرض وجعلها فى خدمة الإنسان يتضمن إشارة بينة إلى أن الإنسان خلق ليكون سيدا لا ليكون مهانا.

وأن سجود الملأ الأعلى له فى السموات معناه أن يحيا على ظهر هذه الأرض سيدا موفور الحرمة مدعوم المكانة، إذ وظيفته أن يخلف الله فى أرضه.

ولكن لا يجوز عند انشغال الإنسان بأعباء العيش الأرضية أن ينسى حقوق ربه الذى أسندها إليه، والذى قواه عليها.

قال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم).

وقد صالح الإسلام فى تعاليمه بين مطالب الجسد ومطالب الروح، وبين واجبات الدنيا وواجبات الآخرة، فكأن الإنسان ـ بعد هذا الصلح الذى عقده الإسلام ـ كيان واحد يستقبل به عالما ليست فيه فواصل بين الموت والحياة.

وتوضيحا لهذا المنهج الوسط قيل لكل إنسان : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين).

ليس فى الإسلام إذن انفصال بين العمل للدنيا والعمل للأخرى فإن العمل للدنيا بطبيعته يتحول إلى عبادة ما دام مقرونا بشرف القصد وسمو الغاية.

وليس فى الإسلام تغليب للجسد على الروح، ولا للروح على الجسد، إنما فيه تنظيم دقيق يجعل معنويات الإنسان هى التى تتولى قياده وتمسك بزمامه، فلا هو براهب يقتل نداء الطبيعة، ويميت هواتف الفطرة، ولا هو مادى يتجاهل سناء الروح وأشواقها إلى الرفعة والخلود.

إن الإسلام يلح على كل إنسان فوق ظهر الأرض، ألا ينسى نسبه السماوى، وألا يتجاهل أصله المنبثق من روح الله.

وللجسد حقوق مقدرة، وقد قال الله فى وصف أنبيائه : (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام و ما كانوا خالدين)

لكن توفير هذه الحقوق ليس إلا وسيلة لصيانة الفؤاد والفكر، وحماية القلب والعقل، ما أشبه هذا الجسم بزجاجة المصباح الكهربائى، إنها هى التى تصقل الضوء، وتمد الشعاع، فلو انكسرت ذهب النور واحتبس التيار.

ومع ذلك فالمحافظة على هذه الزجاجة وتلميعها وإزالة الغبار من فوقها شىء غير مقصود لذاته، بل مقصود لينطلق الضوء من خلالها صافيا نقيا.

وقد أمر الإسلام بتطهير البدن وتزكية الروح فقال: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)

وطهارة الروح أساسها حسن الصلة بالله.

وطهارة البدن بإزالة القذى الذى لا يليق بمكانة إنسان كريم على القه، له رسالة سماوية مجيدة.

إن عبادة الجسد، وعبادة المادة، والتمرد على الأساس الإلهى فى الحياة الإنسانية عوج لا يتمخض إلا عن الشر والبلاء.

وآفة الحضارة المادية أنها سخرت العقول للشهوات، وأخرست نداء الروح وأطلقت نداء الطين، وجحدت أن الإنسان نفخة من روح الله، ورأت أنه ـ كلا وجزءا ـ نشأ من الأرض فلا يجوز أن يرفع رأسه إلى أعلى يذكر الله ولى نعمته، وسر عظمته.

ونحن نؤكد أن شرف الإنسانية أولا وآخرا فى صلتها بالله، واستمدادها منه، وتقيدها بشرائعه ووصاياه، والحرية الحقيقية ليست فى حق الإنسان أن يتدنس إذا شاء ويرتفع إذا شاء بل الحرية أن يخضع لقيود الكمال وأن يتصرف داخل نطاقها وحده، (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا).

وقال عليه الصلاة والسلام : "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".

ما هى الحرية التى هفت إليها الشعوب، وتنادى بها كبار القلوب؟ إنها حق البشر فى تأمين الوسائل التى يحيون بها حياة زكية نقية، وليست حق امرئ ما فى أن ينسلخ عن طبيعته، أو يتمرد على فطرته.

إن الحرية ليست حق الإنسان أن يتحول حيوانا إذا شاء، أو يجحد نسبه الروحى إلى رب العالمين، أو يقترف من الأعمال ما يوهى صلته بالسماء ويقوى صلته بالتراب، فإن الحرية بهذا المعنى لا تعدو قلب الحقائق، وإبعاد الأمور عن مجراها العتيد.

بل الواقع أنك لن تجد أعبد ولا أخنع من رجل يدعى أنه حر، فإذا فتشت فى نفسه وجدته ذليلا لشهواته كلها، ربما كان عبد بطنه أو فرجه، وربما كان عبدا لمظاهر يرائى بها الناس، أو لمراسم يظنها مناط وجاهة، فإذا فقد بعض هذه الرغائب رأيته أتفه شىء ولو كان يلى أكبر المناصب، بل لو كان ملكا تدين له الرقاب.

الحرية المطلقة لا تنبع إلا من العبودية الصحيحة لله وحده. فإن القلب المرتبط بالله يعلو بصاحبه على كل شىء فما تذله رهبة ولا تدنيه رغبة. وهو بمعالم الشريعة التى يلتزمها مصون من الدنايا، محصون من المزالق...

ولذلك فنحن نكذب كل دعوة للحرية تزين للناس اعتداء حدود الله أو تعطيل أحكامه أو تهوين فرائضه، أو الهبوط بالإنسان عن المكانة السماوية التى رشح لها بأصل الخلقة.

كم يكون الإنسان نازل المرتبة تافه القيمة إذا كانت وظيفته فى الحياة لا تتجاوز بضع عشرات من السنين يقضيها على ظهر الأرض ثم...

ثم يقضى دون عودة، وينتهى بذلك أمره كما تنتهى آجال الذئاب فى الغاب أو الشياه فى الحقول أو الخيول فى " الاصطبل ".

ألهذا خلق الإنسان؟ أو لهذا استخلفه الله فى العالم؟ قد رشحوك لأمر، لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل إن الله الذى امتن علي الإنسان بهذه المرتبة الرفيعة لم يدعه فى هذه الحياة وشأنه (أيحسب الإنسان أن يترك سدى).

كلا إن الله كما شرفه بالكثير من النعم كلفه بالخطير من الحقوق.

وهى حقوق تدور فى جملتها على رعاية مصالحه، وضمان الخير له فى عاجل أمره وآجله.

والإسلام كلمة الله الأخيرة فى هذا المجال، وهو دين يحترم طبائع الأشياء لأنه دين الفطرة. ولذلك يستحيل أن يتضمن حكما علميا أو اجتماعيا يناقض الحقائق المقررة، (و بالحق أنزلناه و بالحق نزل و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا).

وكذلك يستحيل أن يلحقه تعديل أو تبديل فإن اجتياز دائرة الحق إلا الدخول لا معنى له فى دائرة الباطل، ولذلك يقول جل شأنه (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم).

وخير للناس أن يستبينوا رشدهم فى صفحات الكتاب الذى استوعب أصول هذا الدين القيم، واستوعب إلى جانب ذلك كل ما يضمن للعالم الخير والازدهار.

إنه الأثر السماوى الفذ، الذى بقى مستعليا على التحريف والتغيير، يصل الإنسان بنسبه السماوى العريق، ويرتفع به عن مستوى التراب، وآمال التراب!

لقد تألقت مواهب الإنسان العقلية فى عصور مضت، وازداد وهجها ازديادا عظيما فى هذا العصر، وخيل للإنسان أن مكاسبه من وراء هذا الارتقاء الفكرى البحت لا تقدر، بل خيل إليه أنه أصبح ـ بهذا الجانب العقلى المبتور ـ سيد الوجود حقا..

ولو أننا تأملنا فى حصاد هذا الطور التقدمى من حياة الإنسان لراعنا منه أن كفة الخسائر طافحة، وأن الإنسان خسر نفسه وبذل أنفس ما فيه كى يحصل على الحطام الفانى، ولم يرجع من وراء هذا الكفاح الخسيس إلا بالتضحيات والبلايا: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم).

إن الإنسان يكون وفيا لنسبه السماوى، يوم يكرس قلبه ولبه لله.

----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى
#الجانب_العاطفي_من_الإسلام
كلمة حرة
نشر في 17 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع