Facebook Pixel
7198 مشاهدة
14
0
Whatsapp
Facebook Share

تأملات في سورة الأحزاب من أروع ما يكون، إن البيوت لا تحتاج فقط إلى قواعد وسقوف وجدران بل هي تحتاج أيضاً إلى خندق حولها

البيوت لا تحتاج فقط إلى قواعد وسقوف وجدران.
بل هي تحتاج أيضا إلى خندق حولها...
قد يبدو ذلك أمرا مترفا في البداية، ولا يدرج في خريطة البناء..
لكن كل من مر بتجربة بناء " أسرة" يعرف تماما عم أتحدث، يعرف كم هو مهم وأساسي أن يكون هناك " خندق" ما...
ليس الأسرة أو البيت وحده يحتاج إلى خندق..
بل كل منا، يحتاج إلى هذا الخندق، إلى خندق ما، بمعزل عن وجوده ضمن أسرة أو لا..
نحتاج إلى هذا الخندق، بل إلى عدة خنادق..
يعضها تحمينا من الخارج..
والبعض الآخر تحمينا من الداخل...
من أنفسنا ..من التمادي...
كلنا نعرف هذا بطريقة ما، لكن ربما دون أن نفعل شيئا تجاهه..
سورة الأحزاب، التي نزلت أثناء معركة " الخندق"، تضع معولا في يد كل منا، وتقول: احفر خندقك بنفسك..
*****
درس الحياة الأول في حفر الخنادق..
كلنا يحتاج إلى هذا الخندق.
حتى الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه.
حتى هو..
الخندق الأول...الذي يحتاجه الجميع..
" التقوى"..
*****
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
اليوم يمكن لعبارة " اتق الله" أن تثير غضب من تقال له...كما لو كانت انتقاصا منه ومن تقواه..أو كما لو كان هو فوق مستوى التذكير بالتقوى..
لكن ها هي السورة تفتتح بهذا الأمر، وبهذه الصيغة المباشرة للنبي عليه الصلاة والسلام ..لا احد فوق هذا الأمر..لا أحد فوق أن يحتاج هذه النصيحة، هذا الخندق...
هذا هو الخندق الأول..التقوى..
وبالفعل، مالذي يمكن أن يعبر عن التقوى أكثر من الخندق الذي " يقيك" من المخاطر؟
هذا خندق لا مفر من حفره..إن لم تفعل..فأنت تحفر ما سيقودك إلى الهاوية..
****
"مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ "
يحميك هذا الخندق من أن يدخلك " قلب" آخر يشوش على قلبك... من أن يتسلل قلب إلى قلبك..فيجعل لك قلبين..وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه..لأن هذا ببساطة سيخرب عمل القلب الأصل..
"مَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ "
يحميك الخندق أيضا من تداخل الحقيقة مع الوهم..علاقات القرابة والدم لن تتغير فقط بكلمة تقولها لهذا السبب أوذاك..زوجتك لن تصبح كامك فقط لأنك تريد عقوبتها دون أن تطلقها..وهذا الغريب لم يصبح ابنك فقط لأنك تريد زيادة عدد الذكور في قبيلتك كي تزيد قوتها..
معايير القوة والارتباط ستتغير من الآن فصاعدا...ويجب أن توضح دوما بحفر هذا الخندق الذي يميزها عن ما سواها..
******
سابقا ، كانت السلطة الأبوية هي السلطة الأعلى التي يمكن تخيلها في المجتمع القبلي، السلطة الأبوية التي لا تمثل في الأب فقط...بل في الجد وفي زعيم القبيلة...
لكن اليوم الأمر مختلف...
هناك نوع مختلف من السلطة قادم الآن..سلطة مصدرها الإيمان..وقوامها الإيمان..وقوتها التنفيذية بالإيمان..
إنها السلطة التي تهتم بك أكثر من اهتمامك بنفسك لأنها ببساطة تعرفك أكثر مما تعرف نفسك..
"النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ"
"وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ "
كيف تكون أزواج النبي أمهات المؤمنين دون أن يكون هو، عليه الصلاة والسلام، أبا للمؤمنين؟
أليس هذا هو المعتاد ؟ إن كانت فلانة أمك، فزوجها أبوك؟
نعم، لكن هذا ليس ضمن المعتاد ..هنا نخرج من السلطة الأبوية التقليدية إلى شيء جديد مختلف...تتمثل السلطة الجديدة في شكل من أشكالها بهذه "الأمومة"...الأمومة" احتواء وعطف وحنان واحتضان...وأنت من خلال علاقة الأمومة هذه بزوجات النبي، تنتمي لبيت النبوة، تكون ربيبا فيه..دون أن تختلط علاقتك فيه عليه الصلاة والسلام لتصبح " علاقة أبوة" بدلا من علاقة رسول بمتبعيه..
أمهاتنا هن، الللائي قمن بتربيتنا..
وهن كذلك فعلا، عبر القرون، ودور أمهات المؤمنين هو هذا..
كل واحدة منهن..السيدة خديجة..السيدة عائشة..السيدة حفصة..لكل منهن دور في غرس شيء ما فينا..
أو هذا ما يجب أن يحدث على الأقل..
*******
ثم تأخذنا السورة إلى عمق المواجهة التي تطلبت حفر الخندق....إلى غزوة الأحزاب..
لقد جاءوا من كل مكان..من الداخل والخارج..زاغت الأبصار إذ لم يعد هناك مكان واحد يمكن التركيز عليه..القلوب عند الحناجر..تكاد تخرج من هول ما تشعر به..يكاد يخرج ما بها من إيمان في خضم محاولتنا الإمساك بالقلب..وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا
الحصار من الخارج، والزلزال من الداخل..
كثيرا ما حدث ذلك، كثيرا ما انتظرنا أن تأتي العاصفة لتحمينا، لكن لم يحدث، لم تأت العاصفة، أو ربما أتت لكن لم نحسن استثمارها..بل أننا انتظرنا العاصفة المنقذة ونحن لم نحفر الخندق أصلا...
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا
في كل مرة لم تأت العاصفة، أو لم يأت النصر، أو جاءت الهزيمة، كان يخرج البعض منا، أحيانا يخرج جزء منا، ليقول أين وعد الله؟
والله لم يعدنا أصلا بهذا المعنى الذي نحاول أن نتشبث به، بل قدم لنا مجموعة أسباب تقود إلى نتائج، لم ننجز الأسباب، ولكن انتظرنا النتائج، ولما لم تحدث، قلنا أين وعد الله؟...وذهب البعض بعيدا في ذلك إلى حد ترك الإيمان كله..بناءً على مجموعة افتراضات خاطئة...
"يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا "
الكثيرون منا تركوا بيوتهم عورة فعلا، بلا خنادق، تركوها عرضة لكل ما يأتي من سموم، البعض منا كان فخورا بذلك أصلا، ..وطفق يقدم الأسباب الموجبة لذلك..
وكانت النتيجة واحدة: إن يريدون إلا فرارا..
********
"قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ "
المعوقين، بكسر الواو، الذين يعيقون الناس، ربما أحيانا تحدث الإعاقة بنشر اليأس، وأحيانا بنشر أمل خيالي بسقف توقعات مرتفع، يقود إلى اليأس بعد ان يثبت فشله...ليست الإعاقة فقط في دعوات التحبيط والثبيط، بل أيضا في استخدام الأمل كمخدر، في الترويج أن النصر " صبر ساعة" بمعزل عن صبر سنوات من العمل، في النظر إلى السماء باعتبارها ستتدخل في اللحظة الحاسمة لتقلب كل النتائج..كثيرون هم من يروجون لكل هذا، وهم " معوقون" على نحو أسوأ بكثير من أصحاب الأفكار " السلبية"...لأن نتائج هؤلاء تكون أشد وقعا على المدى البعيد...
*****
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
هذا هو الخندق الأهم في حياة كل منا...أن نتبع خطاه..أن نحاول فهم ما كان يفعله وكيف كان يفكر ..وكان كان يتصرف...
لماذا تأخذنا سورة الأحزاب وغيرها من السور إلى داخل بيته، إلى مشاكل قد يتعرض لها كل بيت؟ لأنه من المهم جدا أن نفهم واقعيته وبشريته، لم يصل لما وصله دون المرور بالمشاكل اليومية لكل الناس، لم يكن لديه قدرات خارقة تجعل كل من حوله يطيعونه، بل كان يجاهد من أجل ذلك، ومعرفة ذلك بالنسبة لنا أمر أساسي في الاقتداء به..لا يوجد حل سحري لأي مشكلة،بل مواجهتها أولا كما هي، وعرض الحلول الممكنة..حتى مع أصعب هذه الحلول..
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ
علينا أن ننتبه هنا إلى أن كل شخصية عامة، في أي مجال كانت شهرتها، تتعرض للنظر إليها من خلال عدسة مكبرة، يحدث هذا حتى مع مشاهير الفن والرياضة ، إذ تتم " مراقبة" زوجاتهم أو أولادهم على نحو يجعل من أي " هفوة" طبيعية حدثا جللا وأمرا كبيرا ..الناس تتعامل مع " المشاهير" عموما بمعايير مختلفة عن تلك التي تعامل نفسها بها..وهذا أمر يكاد يكون جزءا من الطبيعة البشرية في كل زمان ومكان...مهما كان هذا المشهور بسيطا أو متواضعا أو مصرا على أن يعيش حياته كما الآخرين، الناس لن تتركه يفعل ذلك تماما، وستتعامل مع " عاديته" باعتبارها حدثا خارقا، ونفس الشيء سيحدث مع أبنائه أو أهل بيته...
إذا كان يحدث مع المشاهير " العاديين"...فهو يحدث من باب أولى مع مشاهير " الدعاة" و" المصلحين"..ومن باب أولى وأولى مع الرسل والأنبياء..
السورة تحفر خنادقا لحماية أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام من هذه الطبيعة البشرية، لحمايتنا من التمادي في ذلك، من النظر لهم بعين تجعلهم ليسوا من البشر...لأن هذه النظرة بالذات هي التي تسيء لهم عندما تتعامل مع بشريتهم باعتبارها أخطاء لا تغتفر..
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
لا يمكن لدور " البيت" التربوي - دور الاقتداء والتعليم - أن يكون فاعلا ومتفاعلا عبر العصور إن لم يكن " رجس" هذه النظرة - التضخيمية - قد زال..
لا يمكنك أصلا أن تقتدي بشخص أو تتعلم منه إن كنت تعامله على أسس غير بشرية..
وأهل البيت - بالتعريف- هم من حملوا " بيت النبوة" لنا...بأخلاقه وسلوكياته ...والتعامل معهم على " أسس تضخمهم وتحاسبهم على طبيعتهم البشرية" يعطل عملية التربية نفسها...
الخنادق التي وضعت هنا في السورة ، والتي حققت نوعا من " الحماية" لأهل بيته عليه الصلاة والسلام، كانت ضرورية لجعل دور أهل البيت التربوي أكثر نجاعة وتركيزا..
******
وسورة الأحزاب هي التي وصفته عليه الصلاة والسلام بالسراج المنير
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
سراجا منيرا؟
سراجا منيرا نحتاجه أثناء حفر الخندق..في الظلمة..بينما نتلمس طريقنا للخروج...
نعم..سراجا منيرا...رغم أننا لم نتعامل معه على هذا الأساس في أكثر الأحيان...
*****
وهي السورة التي نزل فيها الأمر بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام...إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
وهذا خندق آخر، نحفره حول علاقتنا به عليه الصلاة والسلام، علاقتنا التي يمكن أن تكون أهم علاقة إنسانية في حياة كل منا، خندق يحمينا من الإفراط والتفريط في هذه العلاقة...إذ تميل الطبيعة البشرية إلى الإنحياز إلى جهة من التطرفين..إما الإفراط - الغلو ...الذي يحول الأنبياء والرسل - وحتى الأولياء - إلى اشباه آلهة..وأحيانا إلى آلهة...
أو التفريط المعاكس، الذي يسقط فيه آخرون، حيث يتم نزع كل ما هو مقدس عن الأنبياء...
" الصلاة على النبي" هي الخندق الذي يمنعنا من السقوط هنا أو هناك..
فهي تمنحه مكانة مقدسة بلا شك..
لكنها في الوقت نفسه، تضع مكانته بمعزل عن الغلو..
كيف؟
لأن الصلاة على النبي هي " دعاء له"...أي أنك تدعو الله له عليه الصلاة والسلام..
لا يمكنك أن تصلي على النبي و"أن تصلي له"..
مجرد كون أعظم عبادة ترتبط به عليه الصلاة والسلام هي " الدعاء له" فهذا أمر يحمي مكانته من الغلو...
على الأقل من ناحية التعبد...
******
وهذا الخندق الذي يحوط مكانته عليه الصلاة والسلام، يرتبط بخندق آخر، يحيط بك، كما لو ان ثمة قناة موصلة بين الخندقين..
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)

الله يصلي علينا؟ بمعنى الرحمة...وملائكته؟ بمعنى استغفارهم لنا..
وخروجنا من الظلمات إلى النور؟
حدث ذلك عبر السراج المنير، الذي نتلمس طريق الخروج معه، عليه الصلاة والسلام..
*****
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
تحتاج الأمانة إلى خنادق حولها لحمايتها...
وهذه السورة تقدم لنا علامات مهمة، في حفر الخنادق...

#القرآن_360_درجة
#أحمد_خيري_العمري
د.أحمد خيري العمري
نشر في 13 حزيران 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع