1636 مشاهدة
0
0
رواية للكاتب أحمد خالد توفيق عن كيفية تعامل الإنسان مع من هو أدنى منه منزلة إن كان إنساناً أم كان حيواناً للرفق به
صبيحة عيد الأضحي بعد الصلاة. يدوي في الجو خوار العجول والأبقار التي تقف عند الجزار علي ناصية الطريق تنتظر الذبح. كنت أنا مشاركًا في أضحية لذا كان علي أن أنتظر. تحول الشارع إلي بحيرة من الدم ترتفع إلي منتصف إطارات أي سيارة مارة، وقد جلبوا مجموعة من فتية السلخانة المحترفين المدججين بالخناجر والمدي ليباشروا الذبح، والواحد منهم صار نجم الساعة.. مفعمًا بالغرور والاستعراض يفرغ كوب الشاي في جوفه في دقيقة، ثم يشهر السكين ويثب فوق هذه البقرة أو هذا العجل ليجثم فوقه، ويقيد أقدامه بالحبال ثم يذبحه في ربع ثانية، وبعدها تبدأ الطقوس المعهودة من الحيوان الذي يتشحط في دمه عاجزًا عن فهم ما حدث له، ثم السلخ ثم التقطيع والتعليق.. بالطبع أتابع هذه الطقوس كضرورة ولا أحاول أن أركز معها أكثر من اللازمفي الأعوام القليلة السابقة لاحظت أن الأمر يوشك علي أن يصير كرنفالاً.. أسر كثيرة تجيء بسياراتها وأطفالها وثياب العيد الأنيقة، لتقف وسط الدم وتراقب المشهد ولا تفوت منه ثانية واحدة، والكل يرفع الهاتف المحمول ليصور كل لحظة من لحظات الذبح. لا بأس.. لنقل إنها فرحة العيد وفرحة الطاعة، وهي فرحة مشروعة
لكن شيئًا من الشك بدأ يتسرب إلي نفسي، وأنا ألاحظ أن هناك نوعًا واضحًا من التلذذ.. خذ مثلاً هؤلاء الأطفال الذين اتجهوا نحو عجل مربوط إلي عمود نور ينتظر دوره، وراحوا يرجمونه بالحجارة ويسبونه، بينما الكبار مستمتعون، حتي نهرت أنا هؤلاء الصبية: «حرام عليكم.. مش كفايه حيتدبح حالاً؟». السيارة التي تتوقف أمامي لتخرج منها فتاة تضع مساحيق وعطورًا ثقيلة جدًا وتلبس الإسدال وتحمل كاميرا فيديو، وتتسع عيناها في نهم وحشي ثم تصيح: «شوفي يا هبة!... البقرة خايفة تندبح!»ـ
وتقهقه بينما تطل هبة - ذات الأعوام الثمانية - من السيارة وهي تضحك في فرح
من رحمة الله أن هذه الحيوانات العجماء لا تفهم ما يدور حقًا، لهذا تحمس أحد الذكور جنسيًا نحو أنثي مربوطة جواره واتخذ وضع الجماع.. هذا الحيوان سيُذبح هو وأنثاه بعد دقائق لكنه يحاول تكوين أسرة. كانت هذه دعابة أقوى مما يتحمله الناس فانفجروا يضحكون ويسبونه بأقذع السباب، ثم ضربوه بالحجارة ليتخلي عنها
بدأت أشعر بالرعب.. الأمر يتجاوز فرحة العيد إلي مهرجان من مهرجانات المسرح الروماني، حيث يلقون بالعبيد للأسود وهم يسخرون منهم.. الدم والخوف والألم.. لا تقل لي إن هذا الحماس سببه التدين، فكل نص ديني أعرفه يدعو لأن تحسن القتلة ولا تعذب الحيوان. والأدهي أنني لم أكن أرى هذه القسوة فيما سبق
ماذا حدث للمصريين؟.. السؤال الملتاع الذي أطلقه د. جلال أمين منذ أعوام ما زال يتردد
في الفترة الأخيرة صار السؤال هو: ماذا حدث للعرب؟... لقد استعدت ذات المشهد وأنا أرى الصور الشنيعة لذلك الشاب المصري الذي مزقته قرية لبنانية كاملة، وعلقته كالذبيحة.. وكالعادة يحمل الجميع أجهزة المحمول ليصوروا كل تفاصيل هذا المشهد.. الفرحة في العيون مع قدر لا بأس به من الانتشاء.. مشهد تعليق جثة موسوليني وكلارا بيتاتشي يتكرر بعد خمسة وستين عامًا، مع كل مشاهد الإعدام دون محاكمة
Lynching
في الغرب الأمريكي
ماذا فعل؟... لا تقل لي إنه قتل أسرة من فضلك، فالمتهم بريء حتي تثبت إدانته وما دام لم يُحاكَم فأبسط القوانين تقول إنه ليس من حق أحد أن يعدمه سوى قاضيه الطبيعي. حتي لو أظهر تحليل الحمض النووي أن دماء الجدة والطفلة عليه، فلا أرجح أن أحد من فتكوا به أجرى اختبار
PCR
قبل أن يمزقه. بل سأزعم كذلك أن بعض من ضربوه لم يكونوا يعرفون تهمته أصلاً، هم وجدوا أناسًا يضربون رجلاً فاشتركوا معهم
أذكر عندما كنت طبيب امتياز أن جاءني في الاستقبال فتى متهم بتعاطي المخدرات، فطلبت من رجل الشرطة الذي يربطه بالأصفاد أن يصطحبه إلي العنبر.. علي الباب حاول الفتي أن يتملص، فانهال عليه الشرطي ضربًا.. سقط علي الأرض.. هنا فوجئت بأن كل رجال أمن المستشفي ورفيقي الشرطي ينهالون عليه ركلاً في بطنه وضلوعه وخصيتيه بأحذيتهم الميري الثقيلة، وهو يعوي ككلب جريح.. لم يعرف رجال الأمن من هو الفتي ولا ماذا اقترف، ولا يعرفون أي شيء سوى أن هذا جسد بشري يجب ضربه لإخراج طاقة العنف والسادية والإحباط بالداخل، فلم يتركوه إلا وقد غيروا تشخيصه من (اشتباه تعاطي المخدرات) إلي (صدمة ناجمة عن نزف داخلي)ـ
نعم.. القصة ترينا الكثير من السادية والعنف الكامن في النفس البشرية.. ترينا الحيوان الذي نخفيه تحت قشرة مخنا عندما يرى النور، والفكرة هنا أن هذا يعكس منظومة كاملة من الخلل في النفسية العربية والإحباط والتوتر، لكنني لا أرى فيها استهدافًا للمصريين من قبل اللبنانيين.. السؤال بصراحة: هل لو كان هذا الشاب تونسيًا أو سوريًا كانوا سيطلقون سراحه ويعتذرون له؟... ماذا يحدث في أي قرية مصرية يموت طفل من أطفالها علي الطريق السريع؟.. ماذا يحدث لسائق السيارة المصري؟. وماذا عن إشعال الإطارات وتحطيم السيارات المارة كلها، وتدخل قوات الأمن المركزي لتفتح الطريق؟
ومن جديد - كما في أيام الجزائر - انتهزت وسائل الإعلام هذا الحفل، ووقعت في فخ نصبه الإعلام الإسرائيلي بالتأكيد.. إن هذه الجماهير أظهرت سادية لعينة، لذا حان وقت ممارسة الماسوشية الألعن: كل العرب يكرهون المصريين.. تعالوا نتلذذ بهذه الفكرة وليحك كل منا تجربة مماثلة سابقة تجعل دمك يغلي. تعالوا نتشاجر علي شبكة الإنترنت بين من يقولون إن هذه شعوب لقيطة غمرها خير مصر يومًا، ومن يقولون: هذا مصري فهو يستحق إذن. هناك من قال إن هذا طبيعي لأن القرية شيعية (غير صحيح) ومن قال إن هذا طبيعي لأنها قرية مسيحية (غير صحيح). هذا صيد واضح في الماء العكر أصلاً
العاقل الشريف دائمًا د. محمد المخزنجي - وهو طبيب نفسي - يلقي كذلك باللوم علي ظاهرة كراهية الأجانب (وليس المصريين) ويقول: ما حدث في «كترمايا» يتعلق بحالة الانحطاط العربي الذي يشملنا جميعاً، وهو انحطاط نفسي وروحي مرتبط بالانحطاط السياسي والاجتماعي الذي يهيمن علي عالمنا العربي إلا قليلاً، قليلاً جداً، وهو أمر يتجاوز كثيراً حدود غريزة الثأر التي عادت باندفاع محموم في ظل عدالة بطيئة غير ناجزة، وألاعيب قانونية لمحامي الشياطين، وفساد لا يمكن استبعاد وصوله إلي منصّات القضاء»ـ
ثم في موضع آخر يقول: «كل لغو مثار عن أن الجريمة تحطّ من كرامة مصر والمصريين، هو تغطية علي حقيقة أن الإهانة بدأت وتبدأ من هنا، من الداخل المصري نفسه؛ حيث المناخ الفاسد يدفع بمئات آلاف المصريين الشباب، للبحث عن مكان آخر في العالم غير وطنهم الذي - بسبب تراكمات سياسية آثمة- لم يعد يوفر لهم فرصة لحياة كريمة أو طموحاً مشروعاً؛ فنفروا إلي هجرة شرعية أو غير شرعية في ظاهرة لم تشهدها مصر من قبل»ـ
نعم.. إن قائمة الاتهام طويلة معقدة.. لكن صورة الفتاة التي تموت ضحكًا علي مشهد بقرة مقيدة بالحبال تتشحط في دمها لا تفارق ذهني، وأعتقد أن السؤال يبدأ هنا.
نشر في 12 أيلول 2016
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع