1157 مشاهدة
0
0
“منزلك يكمن تحته كنز” اتسعت عينا محفوظ في دهشة عارمة، عندما همس له جاره شلبي بالعبارة، وهما يجلسان في ذلك المقهى البسيط الذي اعتادا قضاء لياليهما فيه
“منزلك يكمن تحته كنز”..اتسعت عينا محفوظ في دهشة عارمة، عندما همس له جاره شلبي بالعبارة، وهما يجلسان في ذلك المقهى البسيط الذي اعتادا قضاء لياليهما فيه..
وبكل دهشته هذه سأله:
– أي كنز؟؟ وكيف علمت بهذا؟
مال عليه شلبي مرة أخرى هامسا:
– الشيخ مهيوب.
بالنسبة لأي شخص عادي لم يكن الاسم يعني شيئا أو يصلح لإجابة سؤالي محفوظ بأي حال من الأحوال..
ولكن بالنسبة لكل من يقيم في تلك البلدة الصغيرة على حدود محافظة الجيزة كان مجرد ذكر الاسم يعني الكثير والكثير جدا.
فالشيخ مهيوب هذا ليس من سكان البلدة، ولكنه نزح إليها من مكان لم يذكر أبدا، واستقر فيها أكثر من عام..
وعلى الرغم من قصر تلك الفترة نسبيا فقد حاز الشيخ مهيوب شهرة كبيرة واحتراما ومهابة أكبر.
هذا لأنه وبمفهوم تلك البلدة كان رجل له كرامات..
رجل ينتقل من بلدة إلى أخرى فقط ليوزع كراماته على الجميع..
ولقد نال شهرته من سعي الناس إليه من بلدان شتى..
تلك المرأة التي أتت إليه من الصعيد تبحث عنه في إصرار، وأخبرت كل من التقت به عن كراماته وهي تستند إلى ذراع زوجها وتسير في صعوبة..
كانت تعاني من مرض عجيب أصاب ساقيها بوهن حار فيه الأطباء، وعجزوا عن علاجه، وهمس لها البعض بأنها لن تجد الشفاء إلا على يد الشيخ مهيوب.
ولقد ساعدها أهل البلدة الطيبون حتى وصلت إلى الشيخ الذي اتخذ خيمة بسيطة في منطقة مهجورة سكنا له..
وبكل بشاشة وترحاب استقبلها الشيخ مهيوب وزوجها في حضور جمع كبير من أهل البلدة، واستمع إلى شكواها في حنان، ثم اصطحبها وزوجها إلى خيمته..
ولدقائق عشر ظل الناس يستمعون إلى أصوات عجيبة تنبعث من خيمة الشيخ ممتزجة بصرخات قصيرة للمرأة وشهقات من زوجها..
وانخلعت قلوب الناس مع ما يسمعونه..
ولكنهم ظلوا منتظرين..
ومترقبين..
ثم فجأة انبعثت من داخل خيمة الشيخ مهيوب زغرودة طويلة خرجت بعدها المرأة فرحة بشوشة تمشي على قدميها في اعتدال، وزوجها خلفها يحاول عبثا تقبيل يد الشيخ مهيوب الذي أبى في شدة وحزم..
وعندما حاول الزوج منحه رزمة من النقود رفض الشيخ في غضب، وأخبره بأنه إنما يفعل هذا في سبيل الخير وحده، ولوجه الله سبحانه وتعالى..
وبعدها تسابق أصحاب البيوت في البلدة لدعوة الشيخ إلى الإقامة في بيوتهم بدلا من خيمته البالية، إلا أنه رفض بشدة وبقي في مكانه البسيط..
حتى عندما حاول البعض تزويده بطعام أو شراب كان يرفض هذا في إصرار، ويجيب بأن الله -عز وجل- يطعمه ويسقيه..
كل ما قبل به الشيخ على مضض هو إصرار أحد أهل البلدة على أن يكون في خدمته، ولقد فجّر هذا كل الدهشة في قلوب الجميع..
فذلك الرجل الذي عرض خدمة الشيخ لم يكن أبدا من أهل الخير ولا حتى من الساعين إليه..
لقد كان على العكس تماما..
بلطجي ولص وتاجر مخدرات وشخص لا يمكن الوثوق به على الإطلاق..
ولقد حاول الكثيرون تحذير الشيخ منه إلا أنه ابتسم في هدوء وثقة، وأخبرهم بأنه يثق به كل الثقة..
ولقد تفانى الرجل بالفعل في خدمة الشيخ طوال ذلك العام..
واعتبرها الناس كرامة أخرى من كرامات الشيخ..
دار كل هذا في ذهن محفوظ عندما سمع شلبي يقول هذا، فسأله في لهفة:
– هل قال الشيخ مهيوب إن هناك كنزا تحت منزلي؟
أومأ شلبي برأسه إيجابا:
– كنز كبير جدا… آثار وذهب ومجوهرات..
ثم مال نحوه بشدة مضيفا:
– وزئبق أحمر..
كان الزئبق الأحمر الذي لم يره أحد قط بمثابة أسطورة يرددها كل الباحثين عن الآثار..
أسطورة تنسب لذلك السائل كل شيء..
وأي شيء تنسب إليه القدرة على الشفاء..
وإطالة العمر..
وزيادة القوة..
وحتى استحضار الجن..
وفي بعض الأوساط ارتفع سعر كبسولة الزئبق الأحمر الواحد إلى ما يساوي عشرات الآلاف من الجنيهات..
وكان مجرد سماع اسمه يمثل حلما بالثراء لأي مخلوق..
ولهذا، وبكل لهفته، سأل محفوظ:
– وكيف يمكن استخراج ذلك الكنز؟
مال عليه شلبي، وردد الكلمة نفسها:
– الشيخ مهيوب..
وفي الصباح التالي اتجه محفوظ مع شلبي إلى خيمة الشيخ مهيوب التي أحيطت بكل من له حاجة عنده، واضطرا للانتظار لخمس ساعات كاملة حتى أتاهما عليوة خادم الشيخ يدعوهما إلى خيمته..
وبكل الهدوء استقبلهما الشيخ ودعاهما للجلوس أمامه، ثم التفت إلى محفوظ وقال بابتسامة هادئة:
– أتيت تسأل عن الكنز أسفل منزلك؟
هتف محفوظ في انبهار:
– وكيف عرفت؟
رمقه عليوة بنظرة مستنكرة، في حين لكزه شلبي في جانبه هامسا في توتر:
– أنت تجلس أمام الشيخ مهيوب.
امتقع وجه محفوظ وشعر بأنه قد ارتكب خطأ كبيرا، في حين أغمض الشيخ عينيه وهو يغمغم وكأنه يحدّث نفسه:
– أنت استأجرت ذلك المنزل منذ عام وثلاثة أشهر.
همّ محفوظ بسؤاله مرة أخرى عن كيفية معرفته بهذا، ولكن لكزة شلبي أعادته إلى صوابه، فلزم الصمت وترك الشيخ يكمل في خشوع:
– أنت لم تختر هذا البيت.
أراد أن يخبره بأنه اختاره من بين ثلاثة بيوت أخرى، ولكن الشيخ استدرك وهو يفتح عينيه في بطء:
– هو الذي اختارك.
انتفض محفوظ لدى سماعه العبارة، ولكنه ظل يلوذ بالصمت، في حين ابتسم الشيخ ابتسامة كبيرة وهو يضيف:
– أنت محظوظ يا ولدي… الرزق يسعى إليك.
حلّت العبارة الأخيرة عقدة لسان محفوظ، فتساءل في خفوت:
– وكيف يمكنني استخراج ذلك الكنز يا سيدنا؟
عاد الشيخ يغلق عينه وهو يجيب ببطء:
– أخلِ أهل البيت تماما.. أرسل زوجتك وطفليك إلى حيث أصل زوجتك، وأخبر جيرانك بأنك ستلحق بهم، وسأحضر إلى منزلك بعد يومين في تمام منتصف الليل.
تساءل شلبي في لهفة:
– هل يمكنني الحضور أيضا؟!
أجاب الشيخ دون أن يفتح عينيه:
– بالتأكيد… من حضر القسمة فليقتسم.
تهللت أسارير شلبي ففتح الشيخ عينيه وأضاف:
– كل من علم بالأمر سيكون له نصيب.
قال شلبي في سرعة:
– لم أخبر سوى محفوظ.
أدار الشيخ عينيه إلى محفوظ الذي قال في خفوت متوتر:
– وأنا لم أخبر أي مخلوق.
صمت لحظة ثم استدرك:
– حتى زوجتي.
أومأ الشيخ برأسه في ارتياح، وعاد يغلق عينيه مغمغما:
– عظيم.. كلما قلّ عدد من يعرفون كان الوصول إلى الكنز أسهل.
غادر محفوظ خيمة الشيخ مع شلبي، وقد تعاظمت أحلام كليهما كثيرا..
ولم يُضع محفوظ لحظة واحدة..
لقد عاد إلى منزله لينفّذ كل تعليمات الشيخ..
أرسل زوجته وطفليه إلى أسرة الزوجة في بلدة مجاورة، وأخبر كل جيرانه بأنه سيلحق بهم قريبا..
ثم انتظر..
وقبيل دقائق خمس في منتصف الليلة الموعودة جلس هو وشلبي ينتظران قدوم الشيخ في توتر ما بعده توتر، وتساءل شلبي في قلق:
– لماذا لم يطلب منا إحضار بعض البخور أو الطلبات الخاصة؟
أجابه محفوظ في حزم:
– لأنه صاحب كرامات حقيقي.
اكتفى شلبي بهذا الجواب، وراح يحصي الثواني حتى أعلنت الساعة تمام منتصف الليل، وخلت الشوارع تماما من المارة…
ودقّ باب المنزل..
مع دقاته تسارعت دقات قلبي الرجلين وهرعا إلى الباب يفتحانه، ليجدا أمامهما الشيخ وخادمه، وقال الشيخ في هدوء وهو يدلف إلى المكان:
– الكنز صار قيد خطوتين.
أغلق محفوظ الباب خلفهما في إحكام، وهو يسأل بكل اللهفة:
– أين هو يا سيدنا؟ أين؟؟
أدار الشيخ عينيه في المكان، ثم اتجه نحو حجرة نوم محفوظ وأشار إلى سريره المعدني، قائلا:
– على عمق ثلاثة أمتار أسفل فراشك تماما.
أسرع محفوظ وشلبي يزيحان الفراش في سرعة، وجلس الشيخ وخادمه يراقبانهما وهما يحفران في لهفة، ويغوصان في الأرض في الموضع الذي أشار إليه..
مترا..
ومتران..
وثلاثة أمتار..
ثم شهق محفوظ بكل انفعاله، وصرخ شلبي:
– ها هو ذا.
كان أمامهما وفي العمق الذي حدّده الشيخ بالضبط، صندوق معدني مغلق لا يحوي أية نقوش أو رسوم..
وبكل فرحتهما ولهفتهما تعاونا على إخراجه حتى صار داخل الحجرة، وهتف محفوظ في فرحة غامرة:
– إنه ثقيل.. لا بد وأنه يحوي الكثير.
كان يحدّق في الصندوق بكل لهفة عندما سمع عليوة يقول في غلظة لم يتوقعّها:
– خمسة عشر مليونا من الجنيهات على الأقل.
نطقها عليوة في نفس اللحظة التي فتح فيها شلبي الصندوق، وحدّق في محتوياته في ذهول..
وتراجع محفوظ في ذعر عندما وثب عليوة نحو شلبي فجأة وغرس خنجره في قلبه حتى الغمد..
وشهق شلبي، واتسعت عيناه في ألم ورعب وذهول قبل أن يتهاوى جثة هامدة، فدفعه عليوة بقدمه في قسوة ليسقط داخل حفرة الأمتار الثلاثة، ثم دار في وحشية لينقضّ على محفوظ الذي حاول الفرار من أمامه، إلا أنه فوجئ بالشيخ مهيوب ينقضّ عليه من الخلف ويحيط عنقه بذراعه اليسرى، ثم يضع نصل خنجره الحادّ على رقبته بيمناه، وهو يقول في سخرية شرسة لا تتناسب مع شخصيته:
– إلى أين؟
هتف محفوظ بكل رعبه:
– إنه ليس كنزا.. إنه…
قاطعه الشيخ وهو يمسّ عنقه بنصل خنجره الحاد:
– هيروين.. بالنسبة لنا هذا كنز كبير أخفاه شريك لنا كان يستأجر هذا المنزل قبلك، وكان علينا أن ننتظر طوال أكثر من عام كامل احتملنا فيه الكثير حتى نستعيده بعد أن تفقد الشرطة الأمل في العثور عليه.
قال محفوظ في رعب:
– إذن فالمرأة وزوجها كانا..
قاطعه الشيخ في سخرية:
– ممثلين.. حصلا على أجر كبير للقيام بذلك الدور الذي ساعدني على تنفيذ خطتي.
ثم تضاعفت سخريته وهو يضيف:
– وغباؤك ساعدني على إتمامها.
قالها وهو يغرس خنجره في عنق محفوظ بلا ذرّة من الرحمة أو الشفقة.
وفي قسوة ألقى عليوة جثة محفوظ فوق جثة شلبي وهو يقول في ظفر:
– لن يبحث عنهما أحد بعد أن قال هذا الغبي لجيرانه إنه سيلحق بزوجته.
غمغم مهيوب:
– نعم.. إنها خطة مكتملة.. والشيخ مهيوب أيضا سيختفي، وسيظن الكل بأنه قد انتقل إلى بلدة أخرى يوزّع فيها كراماته.
اعتدل عليوة وهو يغمغم في تفكير:
– وحتى لو بحثوا عنه لن يجدوه أبدا؛ فهو ليس شيخا ولا يُدعى حتى مهيوب.
كان مهيوب يهمّ بحمل الصندوق عندما انقضّ عليه عليوة فجأة مستطردا في شراسة:
– وسأفوز أنا بكل شيء.
غرس خنجره بكل قوة في ظهر مهيوب أو أيا كان اسمه، فشهق هذا الأخير، واعتدل بحركة حادة وهو يصرخ:
– أيها الـ…
لم يتم صرخته أبدا، ولكن اعتداله المفاجئ دفع عليوة إلى الخلف عند حافة الحفرة العميقة، فاختلّ توازنه، وحاول الإمساك بالشيخ مهيوب الزائف، ولكن قدمه انزلقت عند الحافة فهوى إليها جاذبا مهيوب معه، وسقط الاثنان فوق جثتي محفوظ وشلبي.
وقبل أن يحاول عليوة النهوض سقط الصندوق الثقيل على رأسه، فزاغت عيناه وهو يغمغم في وحشية:
– لا.. ليس من الممكن.
ثم لم يتم عبارته أيضا..
وبقي الجميع داخل الحفرة، وبصحبتهم الكنز الذي فعلوا ما فعلوه من أجله.. ولم يغادرها أحدهم..
على الإطلاق.
نشر في 02 تموز 2015
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع