Facebook Pixel
قصة العقاب
1437 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

هل تحب أن تعرف السبب الحقيقي، الذي دفعني لقتلك؟ لم يجب (خميس)، فقد كان يحدق في وجه الطبيب بعينين جاحظتين، والألم يعتصر صدره، وعلى الرغم من هذا، فقد حك الدكتور (فهمي) طابع الحسن في منتصف ذقنه، ورفع أصابعه يداعب شعره الأحمر، قبل أن يكمل كلامه

حل (خميس) رباط عنقه، وهز رأسه يمنة ويسرة، وكأنما يحاول التخلص من تأثير ضغط الرباط على عنقه، وأطلق زفرة عميقة، وهو يرقد مسترخيًا، أو محاولًا الاسترخاء، فوق منضدة الكشف الخاصة، في عيادة الدكتور (فهمي)، الذي ظل صامتًا، منتظرًا، حتى ينتهى (خميس) من حركاته المتوترة العديدة، ثم مال نحوه، وسأله في هدوء:
ـ هل تشعر بالاسترخاء الآن يا سيد (خميس)؟
لم يكن (خميس) يشعر بذلك على الإطلاق، لكنه أومأ برأسه إيجابًا، فمنحه الدكتور (فهمي) ابتسامة مشجعة ومطمئنة، وهو يكمل:
ـ أحب أن أذكرك في البداية بضرورة الحقائق .. كل الحقائق.
تمتم (خميس):
ـ سافعل.
اتسعت ابتسامة الدكتور (فهمي) أكثر، وقال:
ـ عظيم .. هكذا ينبغي أن تكون العلاقة بين الطبيب النفسي ومريضه .. إنك لم تأت إلى هنا، إلا لأنك تشعر بحاجتك إلى علاج نفسي .. أليس كذلك؟
أومأ (خميس) برأسه إيجابًا، وازدرد لعابه في صعوبة، وهو يقول:
ـ بلى يا دكتور (فهمي) .. إنني أعاني عذابًا رهيبًا .. ذلك الكابوس سيقتلني.
ربت الدكتور (فهمي) على كتفه في رفق، ليبث في نفسه بعض الطمأنينة، وهو يقول:
ـ أخبرني كل ما لديك، وسنحاول منعه من مهاجمتك مرة أخرى.
بدا التردد على وجه (خميس)، فربت الدكتور (فهمي) على كتفه مرة أخرى، وقال:
ـ وينبغي أن تعلم أنه ليس من حق الطبيب النفسي كشف أسرار مرضاه، فالقانون يعاقب على هذا، ولا يعترف بما كشفه من أقوال أو اعترافات.
كان من الواضح أن هذه العبارة التي يحتاج إليها (خميس) بالذات، فقد تنهد في ارتياح، وبدا جسده يسترخي بالفعل، وهو يتطلع إلى الدكتور (فهمي) بعينين نصف مغلقتين، في حين سأله الدكتور (فهمي) في صوت خافت هادئ، يدعو إلى الثقة:
ـ والآن ما نوع الكابوس، الذي يهاجم أحلامك دائمًا؟
تقلصت عضلات وجه (خميس)، وهو يجيب:
ـ إنه كابوس بشع يا دكتور (فهمي).
وازدرد لعابه مرة أخرى، قبل أن يضيف:
ـ أرى نفسي سائرًا وسط المقابر، والظلام والضباب يحيطان بي من كل جانب، ثم يظهر ذلك الصبي.
سأله الدكتور (فهمي) في اهتمام:
ـ أي صبي؟
أجابه (خميس)، وهو يرتجف:
ـ الصبي أحمر الشعر، ذو الندبة الصغيرة على جبهته، وطابع الحسن في منتصف ذقنه.. أراه يخرج من قبر مفتوح، ويتجه إلىَّ مباشرة، وعيناه تحملان غضب الدنيا كلها، ثم .. ثم ..
سأله الدكتور (فهمي) في انفعال واضح، كأنما أثاره الوصف:
ـ ثم ماذا؟
ارتسم الهلع في عيني (خميس)، وهو يستعيد تفاصيل الكابوس، وأخذ يلوح بكفه، وهو يجيب:
ـ ثم تمتد يدا الصبي نحو عنقي، وأراهما يدين من العظام، كأيدي الهيكل العظمي، وأحاول التراجع، ولكن الأصابع العظمية تحيط بعنقي/ و.. و ..
هتف الدكتور (فهمي):
ـ وماذا؟
جحظت عينا (خميس) في رعب، وهو يقول:
ـ وأختنق .. أختنق حتى أكاد ألفظ أنفاسي الأخيرة، قبل أن استيقظ صارخًا، وينبض قلبي في عنف.. قلبي المريض.
أجهش فجأة بالبكاء، في حين لاذ الدكتور (فهمي) بالصمت التام، وهو يتطلع إليه في جمود، حتى انتهى من بكائه، فسأله:
ـ أيراودك هذا الكابوس كثيرًا؟
أومأ (خميس) برأه إيجابًا، وهو يمسح دموعه، قائلًا:
ـ أكثر مما تتصور يا دكتور (فهمي) .. إنه عقاب .. أعلم أنه كذلك.
اعتدل الدكتور (فهمي) في مجلسه، وسأله:
ـ لماذا تتصور أنه عقاب؟ .. أكنت تعرف هذا الصبي من قبل؟
أغمض (خميس) عينيه، وأشاح بوجهه، وهو يقول في مرارة:
ـ لقد رأيته مرة واحدة.
مال الدكتور (فهمي) نجوه، وقال في اهتمام:
ـ متى؟ .. وكيف؟
صمت (خميس) بعض الوقت، وهو يلتقط نفسًا عميقًا، قبل أن يقول:
ـ كان هذا منذ عشر سنوات تقريبًا .. ولم أكن أيامها ثريًا، كمان أنا الآن، بل كنت قد خرجت من السجن على التو، فقيرًا، ناقمًا على الدنيا، كارهًا لكل الأغنياء والأثرياء .. وكنت ابحث عن عمل، يتيح لي فرصة الاندماج مرة أخرى بالمجتمع، ويواجهني الرفض في كل مرة، لأنني خريج سجون سابق، مما زاد من مقتي ومرارتي وغضبي.
وازدرد لعابه، في صوت مسموع، قبل أن يكمل:
ـ ثم وقع بصري على ذلك الصبي.
سأله الدكتور (فهمي) في اهتمام شديد:
ـ أهو نفس الصبي، الذي يظهر في الكابوس؟
أومأ (خميس) برأسه إيجابًا، وهو يعض شفته السفلى، مجيبًا:
ـ نعم .. نفس الصبي أحمر الشعر،بطابع الحسن في منتصف ذقنه، وتلك الندبة الصغيرة في جبته،
مال الدكتور (فهمي) نحوه أكثر، يسأله:
وماذا فعلت؟
بدأت دموع (خميس) تنهمر مرة أخرى، وهو يقول:
ـ كان يرتدي ساعة من الذهب، يكفي ثمنها لإطعامي شهرًا كاملًا، وكانت رائحة الثراء تفوح منه في وضوح، فاتجهت إليه، واستدرجته خلف مبنى قديم، و ..
صمت قاطعًا عبارته، وراحت شفتاه ترتجفان في شدة، فسأله الدكتور (فهمي):
ـ ماذا؟
صاح كمن يلقي عن كاهله عبئًا:
ـ وخنقته.
قالها وانفجر باكيًا، في حين تراجع الدكتور (فهمي) بمقعده في حركة حادة كالمصعوق، وانعقد حاجباه في شدة، وهو يحدق في وجه (خميس)، الذي واصل من خلال دموعه:
ـ جثمت على صدره بلا رحمة، واعتصرت عنقه الصغير بيديَّ العاريتين، متجاهلًا صراخه وتوسلاته، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، فانتزعت الساعة الذهبية من يده، وانطلقت هاربًا.
كان من الواضح أن الدكتور (فهمي) قد تأثر كثيرًا، من هول وبشاعة ما سمع، فقد ظل صامتًا طويلًا، حتى بعد أن انتهى (خميس) من روايته، وراح يتطلع في قلب إلى طبيبه، الذي سأله أخيرًا:
ـ وماذا فعلت بعد ذلك؟
أجابه (خميس):
ـ بعت الساعة، وبدأت تجارة صغيرة بجزء كبير من ثمنها، وسرعان ما نمت تجارتي وازدهرت، وصرت ـ كما ترى ـ واحدًا من كبار الأثرياء ورجال الأعمال في عشر سنوات فحسب.
ثم انفجر مرة ثالثة باكيًا، وهو يستطرد في انفعال:
ـ كل هذا بدم الصبي البريء.
تطلع إليه الدكتور (فهمي) لحظة في صمت، ثم نهض يلتقط من دولابه الخاص قنينة صغيرة، غرس في فوهتها المطاطية إبرة محقنه، وملأ المحقن بمحتوياتها، ثم عاد يكشف ذراع (خميس)، ويدفع المحقن في أوردته، فهتف (خميس) في جزع:
ـ ما هذا؟
أجابه الدكتور (فهمي) في هدوء:
ـ اطمئن .. إنه عقار مهدئ، فأعصابك مهتاجة للغاية.
صاح (خميس) في ذعر:
ـ لا .. لا أريد أن أنام .. سيعاودني ذلك الكابوس البشع، لو استسلمت للنوم.
عاد الدكتور (فهمي) إلى مقعده، وهو يقول:
ـ لا تقلق .. كل إنسان يحتاج إلى النوم، ولا يمكنك أن تبقى مستيقظًا طيلة حياتك.
هتف (خميس) في خوف.
ـ إنك لا تفهم شيئًا يا دكتور (فهمي).
استرخى الدكتور (فهمي) في مقعده، وهو يقول:
ـ اشرح لي إذن.
ازدرد (خميس) لعابه مرة أحرى، وقال:
ـ كل مرة يهاجمني فيها هذا الكابوس اللعين، تزداد قوة وضغط الأصابع العظمية على عنقي، وفي كل مرة افلت من الموت بصعوبة، وذات مرة سيتضاعف الضغط على عنقي، وألقى حتفي بسبب كابوس.
ابتسم الدكتور (فهمي) في هدوء، وقال:
ـ اطمئن .. لن يحدث هذا.
شعر (خميس) بأطرافه تتراخى، وبأجفانه تتثاقل، وهو يقول:
ـ وماذا عن قلبي المريض؟ .. إنه سينهار حتمًا ذات يوم، مع كل هذا الرعب.
قال الدكتور (فهمي(، وابتسامته تتسع أكثر:
ـ اطمئن مرة أخرى يا رجل، فقلبك لن ينهار من الرعب.
ثم مال نحوه بغتةً، مستطردًا في مقت رهيب:
ـ بل من تلك المادة، التي حقنتك بها منذ لحظات:
اتسعت عينا (خميس) في رعب، وهو يهتف:
ـ المادة؟!
أجابه الدكتور (فهمي)، وهو يبتسم ابتسامة شامتة ظافرة:
ـ نعم يا (خميس)، المادة التي حقنتك بها ستدفع قلبك للنبض في قوة وعنف، وستبلغ نبضاته حدًا تعجز معه عضلاته عن الاحتمال، مع الجرعة المضاعفة، التي دفعتها في عروقك، والتي تحذرنا الكتب من بلوغها، ومع انهيار عضلات قلبك وإنهاكها، ستتوقف عن العمل، وتصرخ خلاياك طالبة الأكسجين، وتسري في صدرك آلام مبرحة، وتجحظ عيناك وتنقطع أنفاسك، و ..
ومال نحوه أكثر، وهو يستطرد في مقت واضح:
ـ وتموت.
بدأ (خميس) يشعر بآلام صدره، وحاجته إلى التنفس بالفعل، وخُيّل إليه أن قلبه ينبض في قوة، حتى ليكاد يخترق صدره، وهو يهتف بالدكتور (فهمي) في رعب:
ـ ولكن لماذا؟ .. لماذا تقتلني؟
تراجع الدكتور (فهمي) في مقعده، وقال في كراهية:
ـ لأن القدر قادك إلى هنا، لتلقى عقابك العادل، بعد كل هذه السنوات.
راح (خميس) يلهث طالبًا الهواء، وأمسك صدره في قوة، وهو يهتف:
ـ ليس هذا من حقك .. إنك طبيب نفسي، ولست قاضيًا .. ليس من حقك أن تحكم بموتي، وأن تنفذ الحكم بنفسك.
ابتسم الدكتور (فهمي) في مرارة، وهو يقول:
ـ ليس من حقي؟! .. منذ متى تهتم بالحقوق والواجبات أيها القاتل الحقير؟
ثم مال نحوه في حركة حادة، مستطردًا:
ـ هل تحب أن تعرف السبب الحقيقي، الذي دفعني لقتلك؟
لم يجب (خميس)، فقد كان يحدق في وجه الطبيب بعينين جاحظتين، والألم يعتصر صدره، وعلى الرغم من هذا، فقد حك الدكتور (فهمي) طابع الحسن في منتصف ذقنه، ورفع أصابعه يداعب شعره الأحمر، قبل أن يقول بكل مقت الدنيا:
ـ لأن ذلك الصبي، الذي قتلته بلا رحمة، منذ عشر سنوات، كان ابني يا رجل.. ابني الوحيد.
وجحظت عينا (خميس) أكثر ..
وأطلق شهقة قوية ..
وأخيرة.

________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ العدد رقم 13 ـ جزيرة القدر)
روايات مصريـة
نشر في 06 آذار 2017
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع