1076 مشاهدة
0
0
فجأة ارتفع ذلك النداء، بصوت خافت مبحوح، حمل رنّة أنثوية واضحة، فانتفض جسده كله دفعة واحدة، وتجمّدت حركته، كانت بداية تلك الليلة هادئة كمعظم الليالي
فجأة ارتفع ذلك النداء، بصوت خافت مبحوح، حمل رنّة أنثوية واضحة، فانتفض جسده كله دفعة واحدة، وتجمّدت حركتهبدأت تلك الليلة هادئة كمعظم ليالي الصيف في الريف المصري، وعلى الرغم من الصخب المحدود، في ذلك الركن الصغير، الشبيه بالمقهى، عند أطراف القرية، بسبب متابعة البعض لمباراة كرة قدم مهمة، بين فريقين أجنبيين، ومن كركرة الشيشة المعتادة، وأصوات أكواب الشاي الساخن، وهي توضع وترتفع عن الموائد الخشبية شبه المتهالكة، ساد باقي القرية هدوء جميل، بعد أن شارفت الساعة منتصف الليل، وأوى معظم أهل القرية إلى فُرُشهم؛ استعداداً ليوم العمل التالي..
وفي ضجر واضح غمغم فتحي -موظف مكتب الإصلاح الزراعي الجديد في القرية- مشيراً إلى زميله ممدوح:
– أهذه هي وسيلة الترفيه الوحيدة هنا؟!
ابتسم ممدوح، قائلاً:
– إنها كذلك، ولكن سرعان ما تعتاد الأمر؛ فالقوم هنا أبسط بكثير من سكان المدن، على الرغم من أن الجيل الجديد منهم لم يعد يعمل في الزراعة كالسابق.
قلب فتحي شفتيه، قائلاً:
– هذه كارثة، أن ينفصل سكان الريف عن ريفهم، فما زلت أذكر كيف كانت جدتي تحقق اكتفاءً ذاتياً في قريتنا، ولا تحتاج تقريباً لشراء مستلزماتها الأساسية من المدينة… انظر إلى ما يحدث الآن… إنهم يبتاعون الجبن والبيض والخبز من المدينة، بعد أن كانوا هم من ينتجون هذه الأشياء.
هزّ ممدوح كتفيه، قائلاً في بساطة:
– الزمن يتطوّر يا رجل.
غمغم فتحي في سخط:
– إلى الأسوأ.
استدار إليه ممدوح، قائلاً:
– كل شيء في الوجود له سلبياته وإيجابياته.. على الأقل ارتفعت نسبة التعليم بينهم.
قال فتحي في سخط مستنكرا:
– وهل تسمي هذا تعليماً؟! إنهم ما زالوا يعيشون في خرافات الماضي؟ ويرددّون نفس الروايات السخيفة، التي كانت ترويها لنا جدتي في طفولتنا.. أتصدق أنهم ما زالوا يروون قصة النداهة، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟!
بدا التردّد والتوتر واضحين على ملامح ممدوح، وهو يغمغم في صوت حمل الانفعالين نفسيهما:
– ليست كلها خرافات.
التفت إليه ممدوح، بنظرة تجمع بين الاستنكار والازدراء، وهو يقول:
– لا تقل لي إنك تؤمن بخرافة الندّاهة هذه؟!
تردّد ممدوح لحظات أخرى، ثم قال في خفوت:
– كثيراً ما تحمل لمحة من الحقيقة.. أنت تعلم أن الحكم القديمة تقول: إنه لا دخان بلا نار.
أجابه في شيء من الحدة:
– ما تعلمناه في الكيمياء يؤكّد وجود الكثير من الدخان بلا نار.
رمقه ممدوح بنظرة متوترة، ثم أشاح عنه بوجهه، وكأنه لا يريد الاستطراد، ولكن فتحي تابع في إصرار:
– من يصدّق، في القرن الحادي والعشرين، وجود جنية الحقول هذه، التي تناديك باسمك، أثناء سيرك بين الحقول، فإذا ما التفتّ إليها طار عقلك وصرت مجنوناً؟!
غمغم فتحي، في لهجة استفزازية:
– وهل تصدّقها أنت؟!
ظلّ ممدوح صامتاً بعض الوقت، متظاهراً بمتابعة شاشة التلفاز الصغير، ثم لم يلبث أن غمغم في شيء من الحدة:
– لكلٍّ شأنه يا رجل.
كان من الواضح أنه يرفض خوض هذا الحديث، مما ضاعف في أعماق فتحي ذلك الشعور بالضجر والسخط، فنهض بحركة حادة، قائلاً:
– الأفضل أن أذهب للنوم.. هذا لو استطعت احتمال ذلك المنزل الحقير، الذي يمنحونه لموظفي المصلحة.
غمغم ممدوح مرة أخرى، دون أن يلتفت إليه:
– فليكن.
ثم استدار نصف استدارة نحوه، مكملاً:
– ولكن خذ حذرك.
ابتسم فتحي ابتسامة ساخرة، وألقى نظرة مستنكرة عليه، ثم غادر المقهى، عائداً إلى ذلك المنزل الصغير، في الطرف الآخر من القرية..
كان السكون يخيّم على كل شيء تقريباً، ولكن الطقس بدا منعشاً، مما جعله يسير بين الحقول، مدندناً بأغنية عاطفية قديمة، عشقها منذ حداثته..
“أستاذ فتحي…”
فجأة ارتفع ذلك النداء، بصوت خافت مبحوح، حمل رنّة أنثوية واضحة، فانتفض جسده كله دفعة واحدة، وتجمّدت حركته، فتوّقف بغتة، وشعر بتلك القشعريرة تسري في جسده..
لا.. مستحيل! هذا لا يمكن أن يحدث..
لا يمكن أن يكون هذا حقيقة..
الندّاهة خرافة..
مجرّد خرافة..
ردّد هذا في أعماقه، في محاولة لانتزاع ذلك الخوف من نفسه، ودفع قدميه دفعاً ليواصل طريقه،
وإن تسارعت خطواته بعض الشيء…
ومرة أخرى، تردّد ذلك النداء الأنثوي من خلفه..
نداء يحمل اسمه..
وبصوت أكثر ارتفاعاً..
وفي هذه المرة طرح عقله كل محاولاته جانباً، أمام ذلك الرعب، الذي سيطر على كيانه كله..
إذن فهي حقيقة..
الندّاهة ليست خرافة…
ما روته له جدته في طفولته لم يكن وهماً..
الندّاهة حقيقة..
وها هي ذي تناديه، كما روت له الجدة بالضبط..
تناديه باسمه، وسط الحقول، بعد منتصف الليل..
تسارعت خطواته، على نحو كبير، وارتجف جسده كله في شدة..
ومن خلفه، سمع خطوات أخرى..
خطوات مسرعة، تحاول اللحاق به..
واتسعت عيناه، في رعب بلا حدود..
ومرة ثالثة، تصاعد ذلك النداء الأنثوي من خلفه..
نداء باسمه.. وبصوت واضح..
واضح للغاية..
إنها خلفه..
تسرع نحوه..
تريد أن تقتنصه..
واستعاد عقله كل حكايات جدته..
لا ينبغي أبداً أن يلتفت إليها، وإلا سلبته عقله..
لا ينبغي أن يلتفت أبداً..
ومع النداء الرابع، الذي بدا مرتفعاً أكثر من ذي قبل، تحوّلت خطواته المسرعة إلى جري مذعور…
كان يحاول مغادرة منطقة الحقول، قبل أن تلحق به…
ولكن الخطوات من خلفه تسارعت أكثر وأكثر..
ومع النداء الخامس، الذي يحمل اسمه، بدأ يصرخ دون وعي:
– ابتعدي عني.. ابتعدي عني..
ولكن الخطوات تسارعت خلفه أكثر و…
وفجأة، أدرك أنه قد ضلّ طريقه، وأنه محاط بالحقول من كل صوب، وتعثّرت قدماه على الطريق غير الممهّد، فحاول أن يتشبث بشيء..
أي شيء..
وفي محاولة يائسة، أمسك عوداً من أعواد الذرة، ولكن العود انكسر مع ثقله، فاختل توازنه، وسقط أرضاً…
ومع رعبه الشديد، شعر بتلك الأقدام تتوقف، على قيد خطوة واحدة منه…
ثم انتفض جسده بكل رعب الدنيا، عندما شعر بيد رقيقة توضع على كتفه، مع صوت أنثوي متوتر، يكررّ النداء باسمه..
وبينما يستدير ليدفع تلك اليد عن كتفه، ارتطم بصره بوجهها..
وجه أنثوي، وسط ملاءة سوداء، تحيط به..
وصرخ فتحي..
وصرخ..
وصرخ..
“ما الذي أصابه؟!”
نطقها ضابط النقطة في دهشة، وهو يتطلّع إلى فتحي، الذي اتسعت عيناه، وراح يضرب الهواء بذراعيه، وكأنما يدفع عنه عدواً مجهولاً، وقد حملت ملامحه كلها علامات الرعب والجنون، فأجابته سيّدة زوجة شيخ خفر القرية في ارتباك وانفعال:
– لست أدري يا باشا.. لقد شاهدته يسير وسط الحقول، متجهاً إلى حيث ترعة القرية، وأدركت أنه قد ضلّ طريقه، فأسرعت خلفه؛ لأحذّره من هذا، ولكنه راح يعدو نحو الترعة، وعدوت خلفه أناديه؛ حتى لا يسقط فيها، وعندما تعثّر أردت أن أساعده على النهوض، ففوجئت به يصرخ في شدة، وقد أصابه ما أصابه.
تطلّع ضابط النقطة في إشفاق إلى فتحي، وهو يغمغم:
– المسكين أصيب بالجنون، وملامحه توحي بأنه قد شاهد ما أثار رعبه، وأفقده صوابه.. أي شيء يمكن أن يفعل برجل ناضج هذا؟!
كان ممدوح يعلم الجواب..
ولكنه لم ينبس بحرف واحد..
فخشيته من المسئولية، أطلقت في أعماقه نداء الصمت..
ويا له من نداء!
نشر في 21 آذار 2017