Facebook Pixel
رواية أشباح
1020 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

يا لهذا العبث ما يحدث فى هذا المكان هو العبث بعينه ولكنه لا يهتم لن ينجحوا فى جذب انتباهه، مهما فعلوا فهو يعرف كل الحيل كلها بلا استثناء سار فى هدوء ، عبر أروقة القصر القديم ، مرورًا بتلك القاعة الواسعة الكبيرة

يا لهذا العبث ...!
ما يحدث فى هذا المكان هو العبث بعينه ...
ولكنه لا يهتم ...
لن ينجحوا فى جذب انتباهه ، مهما فعلوا ...
فهو يعرف كل الحيل ...
كلها بلا استثناء ...
سار فى هدوء ، عبر أروقة القصر القديم ، مرورًا بتلك القاعة الواسعة الكبيرة ...
قاعة الموسيقى ...
هناك كانوا يرقصون ...
توقَّف ، وألقى نظرة خاوية عليهم ...
كانوا ينتمون إلى كل العصور ، التى مر بها القصر القديم ...
مماليك ...
فرنسيون ...
أتراك ...
إنجليز ...
وحتى مليونيرات آخر مرة ، تم سكنى القصر فيها ...
وبعدها لم يقطنه أحد ...
الرعب الذى أصاب آخر ساكنيه ، محا فكرة السكن فيها تمامًا ...
تابعهم بعض الوقت وهم يرقصون ...
كانوا يتوافقون على نحو عجيب ، على الرغم من أنهم ينتمون إلى عصور مختلفة ...
وقبل موتهم ، كانوا يتحدثون لغات مختلفة أيضًا ...
ولكن الموت يضع قواعد جديدة ...
الكل يتقارب ...
والكل يتحدث لغة واحدة ...
لغة الأشباح ...
هو نفسه اعتادها ...
" ألن تشترك معنا ؟!..."
ألقى عليه كولونيل إنجليزى ، من ضحايا الحرب العالمية الثانية السؤال ، فأجاب فى شىء من البرود :
ـ ليس الليلة .
هزَّ الكولونيل الإنجليزى كتفيه ، وعاد يراقص مطربة فرنسية ، تم إعدامها بالمقصلة ، بسبب علاقتها بجنرال ألمانى ...
توقَّف ليتابع الرقص قليلًا ، ثم واصل سيره ، فى اتجاه مكتبة القصر القديمة ...
فى نهاية الردهة ، شاهد فارسًا تركيًا ، يحاول السير متوازنًا ، على حافة أريكة كبيرة ، فألقى نظرة لا مبالية عليه ...
يا له من عبث ...!!
الناس يخشون مجرد الاقتراب من هذا القصر ؛ لأنه مسكون بالأشباح ...
ولا أحد يعلم أنها أشباح تافهة ...
مختلة ...
عابثة ...
أشباح تلهو وتعبث بلا هدف ...
أشباح لا تخيف من يعرفها ...
أو من يألفها ...
فى المكتبة وقف يتأمل صفوف الكتب ، المتراصة من الأرض إلى السقف ...
إنها ـ بالنسبة إليه ـ أعظم حجرة فى القصر كله ...
ولكن كل الذين امتلكوا القصر قديمًا أهملوها ...
جذب ذلك السلم المتحرك ، حتى ركن خاص من المكتبة ، وصعد بوساطته إلى الرف السابع العلوى ، واختار كتابًا ...
كتابًا عن الأشباح القديمة ...
طريف أن يحتفظ مالك القصر الأول بكتاب عن هذا ...
هبط إلى أرضية المكتبة ، واتخذ مقعدًا وثيرًا ، واستعد للقراءة ...
" هل تقرأ هذا الكتاب دومًا ؟!..."
رفع عينيه فى هدوء إلى صاحبة الصوت ...
كانت تجلس أمامه مباشرة ، بعينيها الناعستين الهادئتين ...
تلك المطربة المصرية ، التى قتلوها فى حادث سيارة ...
ولأنه اعتاد ظهورها المفاجىء ، ابتسم مجيبًا :
ـ أحاول أن أعرف أكثر .
هزَّت كتفيها ، قائلة :
ـ ولماذا الكتاب ؟! .. الأشباح حولك فى كل مكان .
مطَّ شفتيه ، قائلًا :
ـ إنها أشباح عابثة ، لن تفيدنى بشىء .
سألته فى نعومة :
ـ هل حاولت ؟!
هزَّ رأسه نفيًا ، وابتسم مغمغمًا :
ـ أعلم أنها لن تفيد .
تطلعت إليه لحظات ، قبل أن تميل بنصفها العلوى ، قائلة :
ـ من أهم الأشياء التى تعلمتها ، فى حياتى الدنيوية القصيرة ، هو أن المظاهر تخدع دومًا .
أشار بيده ، قائلًا :
ـ أرأيت ما يفعلونه طوال الوقت ؟!
هزَّت كتفيها ، مجيبة :
ـ وأشاركهم فيه أحيانًا .
قال فى تحد :
ـ إذن !!
كانت تريد التقاط نفس عميق ، كما كانت تفعل فى الدنيا ، ولكن الأشباح لا تتنفس ، ولهذا فقد مالت أكثر ، وهى تقول :
ـ ربما لأنه ليس لديهم هدف .
كاد يطلق ضحكة عالية مجلجلة ، وهو يقول :
ـ هدف ؟! .. إنهم أشباح !!
تراجعت فى مقعدها مبتسمة :
ـ حتى الأشباح ، يمكن أن يكون لها هدف .
أدار الأمر فى رأسه بسرعة ، قبل أن يسأل فى اهتمام :
ـ ماذا تتوقعين منى أن أفعل ؟!
بدا عليها الحماس ، وهى تجيب :
ـ أخبرهم أنك تريد معرفة المزيد عن عالم الأشباح ، وأنك تنشد تعاونهم ... ربما ستمنحهم بهذا الهدف ، الذى يحتاجون إليه .
عاد لتفكيره لحظات ، قبل أن يقول :
ـ كنت أتصور أن الهدف ينتهى ، بعد المرور بحالة الموت .
عادت تهز كتفيها ، قائلة :
ـ معلومة جديدة تضيفها إلى معلوماتك عن عالم الأشباح إذن .
تراجع فى مقعده مفكرًا ...
أيمكن أن تكون على حق ؟!
هل يمكن أن يصبح للشبح هدفًا ؟!..
الأحياء يقولون : إن لديهم هدف للحياة ...
ولكن ماذا عن الأشباح ؟!..
أيكون لديهم هدف للموت ؟!..
" هراء ..."
سمع العبارة ، بصوت خشن غليظ ، فاعتدل يحدق فى ذلك المقعد ، الذى كانت تجلس عليه المطربة ...
ولكنها لم تكن هناك ...
كان يجلس بدلًا منها رجل قوى ، له لحية كبيرة ، ونظرات صارمة ، وعمامة ملكية ...
ومن حزام وسطه ، يتدلى سيف تركى أصيل ...
وفى اهتمام ، سأله :
ـ لماذا ترى أنه هراء يا باشا ؟!..
أجابه فى صرامة :
ـ كل ما تفعله هراء ... لماذا تريد معرفة الجديد عن الأشباح ؟!
قال فى حدة :
ـ ولماذا لا ؟!
أجابه ، وهو يدق سطح المكتب بقبضته :
ـ لأنهم أشباح ... أدوا أعمالهم فى الدنيا ، وهنا يرتاحون .
مال نحوه ، يقول فى حزم :
ـ يبدو أن معلوماتك أنت عن الأشباح قليلة يا باشا .
أمسك سيفه فى غضب ، هاتفًا :
ـ كيف تجرؤ ...
لم يبال بغضبه ...
حتى سيفه ، لا يمكن أن يقتل أحدًا ...
لأنه سيف شبح ...
ولهذا تراجع فى مقعده فى هدوء ، وهو يقول :
ـ أتعلم لماذا تبقى الأشباح عالقة بالدنيا يا باشا ؟!
احتفظ الباشا بملامح الغضب لحظات ، ثم عاد يجلس ، وهو يسأل :
ـ ماذا يقول الكتاب ؟!
لوَّح بالكتاب ، مجيبًا :
ـ يقول : إن الشبح يبقى عالقًا بالدنيا ؛ لأنه هناك أمر لم يتمه بعد .
لوح الباشا بذراعه كلها :
ـ هذا هو الهراء بعينه ... كل مخلوق يموت ، وهناك أمور لم يتمها بعد .
مال نحوه ، يسأله فى تحد :
ـ لماذا يبقى البعض ، ويرحل البعض إذن ؟!
صمت الباشا مفكرًا لحظات ، ثم هز كتفيه :
ـ لست أدرى .
مال أكثر ، قائلًا :
ـ ربما لأنه ما زال لوجودهم هدف .
كان الباشا يريد أن يكابر ، إلا أنه كشبح ، لم يكن بإمكانه هذا ، فغمغم :
ـ ربما ...
" قم بما عرضته عليك إذن ..."
ظهرت المطربة فجأة ، خلف مقعد الباشا ، وهى تقول هذا ، فالتفت إليها الباشا فى بطء :
ـ أنت تؤيدينه إذن ؟!
قالت فى رقة :
ـ وماذا سنخسر ؟!
تأملها الباشا لحظات ، قبل أن يقول بنفس الخشونة الغليظة :
ـ كان الأفضل أن ننتمى إلى عصر واحد ، فى حياتينا .
ضحكت ، قائلة :
ـ كنت بالنسبة لى تاريخًا مشرفًا .
اعتدل هو ، قائلًا فى اهتمام :
ـ هذه حقيقة جديدة عن الأشباح ... المشاعر تبقى .
التفت إليه الباشا فى صرامة :
ـ ولكنها تختلف ... هى هنا مشاعر صرفة ، ليس فيها شهوات .
قال مبتسمًا :
ـ لأنه ليس هناك جسد .
هزَّت المطربة كتفيها كعادتها :
ـ وليس هناك نزوات .
أشار إلى الباشا ، قائلًا :
ـ ولكن الباشا شعر نحوك ، بما يشعر به الرجل نحو المرأة .
هتف الباشا فى غضب :
ـ أنت وقح .
لم يبال بغضبه ، وهو يقول :
ـ حتى الغضب ، هو إثبات على بقاء المشاعر .
نهض الباشا ، وسحب سيفه الفضى ، وهو يقول فى صرامة :
ـ تستحق قطع رقبتك لهذا .
ابتسم فى لا مبالاة :
ـ لا يمكنك قطع رقبتى يا باشا .
قال الباشا فى حدة :
ـ ولِمَ لا ؟!
أجابه لنفس الهدوء :
ـ لأنك مجرد ... شبح .
أطلقت المطربة ضحكة عابثة قصيرة ، قبل أن تشير بكفها فى رقة :
ـ ولأنه هو أيضًا شبح .
ابتسمت فى هدوء ...
نعم ... أنا شبح ...
شبح حديث ، فى عالم الأشباح ...
ولهذا أريد أن أعرف أكثر عن عالمى الجديد ...
وعن الأشباح .
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق
روايات مصريـة
نشر في 23 شباط 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع