Facebook Pixel
رواية بيت العيلة للكاتب نبيل فاروق
1947 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

سعل (حسنى) مرتين ، وهو يدخل بيت العائلة ، الريفى القديم لأوَّل مرة ، منذ أكثر من عشر سنوات بيت كبير ، أثاثه قديم ، وجدرانه مطلية بالجير ، وما زالت تحمل صور القدامى أجداده وأجداد أبيه وأعمامه

سعل (حسنى) مرتين ، وهو يدخل بيت العائلة ، الريفى القديم لأوَّل مرة ، منذ أكثر من عشر سنوات ...
بيت كبير ، أثاثه قديم ، وجدرانه مطلية بالجير ، وما زالت تحمل صور القدامى ...
أجداده ، وأجداد أبيه وأعمامه ...
وطىء التراب الكثيف فى حذر ، فهتف (عويس) الخفير من خلفه :
ـ الدار لم يدخلها أحد منذ سنوات يا باشا .
سأله (حسنى) فى صرامة :
ـ ولماذا لم يقم أحد بتنظيفه ؟!
تردَّد (عويس) قليلًا ، قبل أن يجيب فى حذر :
ـ لم يطلب أحد تنظيفه يا باشا .
قال (حسنى) فى حنق :
ـ أيستلزم أن يطلب أحد ؟! .. أنت خفير المزرعة منذ عقود ، ومعك مفاتيح الدار ، فلماذا لم تقم بتنظيف المكان ، على نحو دورى ؟!
تردَّد (عويس) مرة أخرى :
ـ وكيف يا باشا ؟! .. لقد طعنت فى السن ، و ...
قاطعه (حسنى) فى حدة :
ـ لم أطلب منك تنظيفه بنفسك .
هتف (عويس) :
ـ ومن سيرضى بدخول المكان يا بشا ؟!
ثم تراجع فى سرعة ، مستدركًا :
ـ أعنى أن ... أن ...
لم يجد جوابًا ، فهتف به (حسنى) فى صرامة :
ـ أن ماذا ؟!..
تلفَّت (عويس) حوله ، وهو يهمس بصوت نافس جسده ارتجافًا :
ـ الدار مسكونة يا باشا .
حدَّق فيه (حسنى) مستنكرًا :
ـ ماذا تقول أيها المأفون ؟!
أجابه (عويس) مرتجفًا :
ـ أقول ما يعرفه الكل هنا يا باشا ... الدار مسكونة ... عشرات شاهدوا جنية تسير داخله ، حاملة شمعة كبيرة ... الولد (بيومى) تطلَّع إليها ، فالتفتت إليه بعينين تشعان نارًا ، فأصابه الجنون ، وها هو ذا يسير كالمجذوب ، فى طرقات القرية .
هزَّ (حسنى) رأسه مشفقًا :
ـ يا لكم من سذج بلهاء ؛ حتى تصدقوا قصصًا كهذه !
هتف (عويس) :
ـ سل الكل يا باشا .
لاحظ (حسنى) ، فى هذه اللحظة فقط ، أن (عويس) لم يدخل الدار ...
كان يقف فى شرفته الخارجية فحسب ...
" ادخل يا رجل ، وانسَ هذه الخزعبلات ..."
هتف بها (حسنى) فى غضب ، ولكن (عويس) ارتجف أكثر ، وهو يقول :
ـ لا تؤاخذنى يا باشا ، ولكننى لا أستطيع .
ردَّد (حسنى) مستنكرًا :
ـ لا تستطيع ؟!
تابع (عويس) ، وكأنه لم يسمعه ، وجسده كله يرتجف :
ـ ولو أننى أملك لك نصحًا ؛ لنصحتك بأن تعود إلى (القاهرة) ، ولا تدخل الدار .
شعر (حسنى) بغضب شديد فى أعماقه ، وهو يقول فى حدة :
ـ ماذا تقول أيها المأفون ؟! .. أتحاول منعى من دخول بيت العائلة .
تراجع (عويس) مصدومًا :
ـ أنا ؟! .. حاشى لله يا سيدى وابن سيدى ... إنما قلتها لأننى أعتبرك بمثابة ابن لى .
قال (حسنى) فى عناد :
ـ وأنا سأبيت الليلة فى بيت العائلة ، وأريدك أن تجد من يقوم بتنظيفه .
امتقع وجه (عويس) ، وهو يقول :
ـ مستحيل يا باشا !! .. المغرب على الأبواب ، والناس هنا تخشى المرور بالدار فى ضوء النهار ، فما بالك بالليل ؟ّ!
ثم مال نحوه ، وبدا صوته أقرب إلى البكاء وهو يضيف :
ـ أرجوك يا باشا ... لا تقضِ ليلتك هنا .
تملَّك العناد (حسنى) ، فقال فى إصرار :
ـ بل سأقضى ليلتى هنا ... حتى لو كان البيت مسكونًا بألف شبح وعفريت .
بدا (عويس) وكأنه على وشك البكاء ، وهو يقول :
ـ رعاك الله وحماك يا باشا ... رعاك الله وحماك .
ثم استدار ، وابتعد مهرولًا ، تاركًا (حسنى) وحده ، يتساءل : ماذا فعل بنفسه ؟...
لقد غلبه عناده ، ودفعه إلى الإصرار على أمر ، ليس بمقدوره احتماله ...
ليس لأنه يخشى الأشباح ...
أو حتى يؤمن بها ...
ولكن لأن البيت مغمور بالتراب ، ولا توجد به كهرباء ...
ستكون ليلة طويلة ...
طويلة جدًّا ...
بحث فى المكان عن شىء يشعله ، حتى عثر على مصباح جاز قديم ، كان من حسن حظه ممتلئًا ، فقرر إشعاله ، مع مغيب الشمس ...
وفى صعوبة ، استطاع تنظيف فراش جده لنومه ...
ومع مغيب الشمس ، كان مرهقًا بحق ، فأشعل مصباح الجاز على مائدة صغيرة فى الحجرة ، واستلقى على الفراش ، وسرعان ما راح فى سبات عميق ...
ثم استيقظ فجأة ...
استيقظ على وقع أقدام تسير ، فى الصالة الخارجية ...
فتح عينيه ، واعتدل على طرف الفراش فى حركة سريعة ، قبل أن ينعقد حاجباه فى شدة ...
فهناك ، عند حافة باب الحجرة السفلى ، كان هناك ضوء يتسرَّب ...
ويتحرَّك ...
ضوء شمعة ...
استعاد ما سمعه من (عويس) ، فسرت فى جسده ارتجافة ، وشعر بالبرد يتسلَّل إلى أطرافه ...
ثم انتفض جسده كله فى عنف ...
فعبر الحافة السفلى للباب ، رأى ظلًا يقطع الضوء لحظة ، ثم يبتعد معه ويخفت ...
أهذا معقول ؟!..
أيمكن أن تكون هذه هى الجنية ، التى روى له (عويس) قصتها ؟!..
لا ... مستحيل ...!
إنه لا يؤمن بتلك الخرافات ...
هناك حتمًا تفسير ما ...
تفسير منطفى ...
أو علمى ...
أو ربما هو يحلم ...
ربما هو كابوس ما ...
قرص نفسه فى قوة ، فشعر بالألم فى وضوح ...
لا ... ليس كابوسًا ...
إنه مستيقظ بحق ...
" (حسنى) ..."
انتفض جسده مرة أخرى ، عندما سمع ذلك الصوت الأنثوى الناعم يناديه ، على نحو أشبه بالهمس ...
الصوت ناداه باسمه ممطوطًا ومسحوبًا ، وكأنما يأتى من اعماق سحيقة غائرة ...
" من هناك ؟!.."
هتف بها فى صوت ، أراده قويًا صارمًا ، ولكنه ، وعلى الرغم منه ، خرج من بين شفتيه مرتجفًا خائفًا ...
ومرة أخرى ، رأى ضوء الشمعة يقترب ، ويتسلل من فتحة الباب السفلى ...
وسمع اسمه يتردَّد على نحو أكثر وضوحًا ...
وأكثر عمقًا ...
ثم مر ذلك الظل ...
وكاد قلبه يتوقَّف ، كما توقَّف الظل أمام الباب ...
ومرة ثالثة ، تردَّد اسمه ...
وفى هذه المرة ، لم ينطق حرفًا واحدًا ...
فقد كان يرتجف ...
ويرتجف ...
ويرتجف ...
مستحيل ...!!
لا يوجد شىء اسمه عفاريت أو أشباح ...
ولكن هناك شىء يقف عند باب الحجرة ...
ظل يتحرك فى خفة ، مع ضوء شمعة ، وينادى اسمه ...
لماذا ؟!..
لماذا اسمه ؟!..
هل يدرك ذلك الشبح أنه تحداه ؟!..
هل جاء ليخيفه فقط ؟!..
أم لينتقم ؟!..
" (حسنى) ..."
تردَّد الصوت فى عمق كبير ، وعلى نحو ممطوط للغاية ، فارتجف جسده كله فى رعب ...
ثم اتسعت عيناه عن آخرهما ، وكاد قلبه ينخلع من صدره ...
فذلك الشىء فى الخارج ، يحاول فتح الباب ...
الأمر يتجاوز مرحلة التخويف إذن ...
ولا فائدة من إنكار الأمر ...
لابد له وأن ينجو بحياته ، ثم يدرس الأمر فيما بعد ...
ومن حسن الحظ أنه يقيم فى حجرة من حجرات الطابق الأرضى ، لها نافذة على الساحة الخارجية ...
تردَّد اسمه مرة جديدة ، جعلته يرتجف أكثر ، وهو يسير على أطراف أصابعه نحو النافذة ...
التقط مفاتيح سيارته من جيب سترته فى حذر ، قبل أن يفتح النافذة ، محاذرًا أن يصدر صوتًا عاليًا ...
ومن خلفه ، تحرك رتاج الباب أكثر ...
وبكل سرعته فتح النافذة ...
ووثب ...
ولم يكد يهبط على قدميه ، حتى أطلق لساقيه الرياح ، وراح يعدو بكل قوته نحو سيارته ...
ومن خلفه سمع ذلك الصوت يناديه ، ولكنه قفز فى سيارته ...
وانطلق مبتعدًا كالصاروخ ...
" لن يعود أبدًا يا باشا ..."
قالها (عويس) فى ثقة ظافرة ، فابتسم (عبد الجواد) ، ذلك الثرى البدين ، وهو يقول :
ـ أنا واثق من هذا .
بدا (عويس) مبهورًا ، وهو يقول :
ـ الشائعات التى طلبت سعادتك منى نشرها بالبلد ، و(بيومى) الذى حصل على مبلغ ضخم ؛ ليلعب دور المخبول ، وتلك الحيل التى قمت بها فى الدار ... كيف فعلت كل هذا يا باشا ؟!
اتسعت ابتسامة (عبد الجواد) :
ـ المال والتكنولوجيا يفعلان المستحيل يا (عويس) .
غمغم (عويس) :
ـ ولكننى لست أدرى لماذا تسعى لشراء دار فى مكان منعزل ، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منها يا باشا ..!!
التقط (عبد الجواد) نفسًا عميقًا ، وقال :
ـ هذا نعم المراد يا (عويس) ... ولكن من الصعب عليك أن تفهم .
اغتصب (عويس) ضحكة ، وهو يقول :
ـ (حسنى) باشا يروى للكل حكاية الجنية ، التى تتجول فى الدار بشمعتها ، والتى حاولت قتله .. كيف فعلتها يا باشا ؟!
حدَّق فيه (عبد الجواد) بكل دهشته :
ـ جنية وشمعة ؟!.. لم أفعل شيئًا من هذا !... من أين أتى (حسنى) بهذه الرواية ؟!
اتسعت عينا (عويس) عن آخرهما ...
" عبد الجوااااااد ..."
انعقد حاجبا (عبد الجواد) فى شدة ، مع سماعه اسمه يتردَّد ممطوطًا ، بصوت أنثوى ناعم عميق ، وحدَّق فى ذلك الظل ، على جدار صالة بيت العائلة ..
ظل امرأة تسير وكأنها تسبح فى الهواء ...
على ضوء شمعة .
***
(تمت بحمد الله)
روايات مصريـة
نشر في 24 شباط 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع