Facebook Pixel
3550 مشاهدة
6
1
Whatsapp
Facebook Share

هل لنا أن نتساءل عن كيف يرانا الله؟ بعيدا عن النواهي والأوامر ونتائج الأداء.. كيف يرانا؟ ما الذي يشكل رؤيته لنا كبشر عاديين؟

لنفترض أنك تعمل معلّما (أو معلّمة) في مدرسة ابتدائية.. جاءت نهاية العام ووجب عليك أن تقدم كشوفات علامات الطلاب النهائية.. لا شك أنك ستقوم بكل بساطة بجمع نتائج امتحاناتهم للحصول على المجموع النهائي.. لكن ماذا إن أخبرك المدير أن النظام قد تغير.. وأن نتائج الطلاب تشكل 80% فقط من المجموع النهائي.. وهناك 20% متروكة لتقديرك أنت.. السؤال هنا.. هل ستضع تلك العلامة كنسبة من مجموع الطالب أم ستضعها بحسب رؤيتك الخاصة لكل طالب بعيدا عن أدائه في الامتحانات؟

بنفس المنطق.. هل لنا أن نتساءل عن كيف يرانا الله؟ بعيدا عن النواهي والأوامر ونتائج الأداء.. كيف يرانا؟ ما الذي يشكل رؤيته لنا كبشر عاديين؟ كمحاسبين وممرضين ومعلمات وسكرتيرات وربات بيوت؟ سؤال مهم.. لي على الأقل.. لكن قبل محاولة الإجابة عليه.. لنقرأ معا هذه الأسطورة اليونانية اللطيفة..

تقول الأسطورة.. أن زيوس كبير الآلهة.. أوكل إلى مستشاريه بروميثيوس وأخيه أبيمثيوس مهمة خلق البشر والحيوانات.. نحن البشر كنا من نصيب بروميثيوس.. وصاحبنا هذا كان صانعا ماهرا.. لكنه كان بطيئا في عمله مقارنة بأخيه.. فلما انتهى أخيرا من صنع جسد الإنسان وأراد أن يمنحه بعض المميزات.. اكتشف أن أخاه كان قد أنهى خلق الحيوانات مبكرا، وأعطاها كل المميزات الممكنة من سرعة وقوة وحواس خارقة وقدرة على السباحة والطيران.. الخ.. ولم يجد المسكين بروميثيوس أي ميزة باقية يمكن أن يعطيها لمخلوقاته سوى المعرفة، فمنحهم المعرفة.. وفي مرحلة لاحقة سرق لهم قبسا من نار.. واكتشف زيوس السرقة وعاقبه. الخ.. قصة جميلة لمن أراد أن يستزيد لكن نكتفي بهذا القدر هنا..

من قصة بروميثيوس هذا.. ننتقل إلى القرآن وأول مشاهد خلق الإنسان.. مشهد الملأ الأعلى إذ يختصمون.. يخلق الله بشرا من طين.. تعبّر الملائكة عن قلقها بأنه سيسفك الدماء.. فلا يردّ الله عليهم بأن هذا المخلوق سيكون مسالما.. بل يحدد لهم بالتجربة العملية.. صفة هذا المخلوق الأولى والأساسية.. مخلوق عاقل.. "وعلّم آدم الأسماء كلها" إلى آخر الآية..

هذه إذن باختصار رؤية الله لنا.. كائنات عاقلة.. تفكر وتستخدم عقلها.. وهو ما حاولت الأسطورة اليونانية اللطيفة مقاربته.. لكن الأمر لا يتوقف هنا.. بل يشرح الله لنا في القرآن الكريم تجليات مختلفة لهذه الرؤية.. وكيف تختلف رؤية الله للإنسان بحسب تعامل هذا الإنسان مع عقله.. ضعوا أحزمتكم لنبدأ الرحلة..

أول تجلي لرؤية الله لنا يحدث عندما يميل الإنسان لاتجاه معين أو يفعل شيئا ما يناسب هواه.. وإذا ما حاول أحد نقاشه فيه رفض حتى فكرة النقاش.. لا يريد حتى أن يستمع إليك.. أو يستمع وكأنه لا يستمع.. فلا يفكر أبدا بما قيل.. بل أن قراره بالرفض محسوم سلفا.. ما يفعله يروقه وهذا يكفي.. وهنا كان الوصف الإلهي لهؤلاء قاسيا فعلا.. "أرأيت من اتخذ إلهه هواه.. أفأنت تكون عليه وكيلا.. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل أضل سبيلا"

أول أمر تشرحه لنا هذه الآيات هو مركزية السمع في الخطاب الإلهي.. لأن السمع هو مفتاح العقل.. أول خطوة ليعقل الإنسان شيئا هي أن يسمعه.. ولذلك عندما وصف النبي نوح كفر قومه قال "وإنني كلما دعوتهم لتغفر لهم.. جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم"... لا يريدون أن يسمعوا.. لكن لماذا؟ لأن العقل وإن كان أداة منطقية يمتلكها الإنسان.. لكن النتائج التي يخرج بها خارجة عن إرادة الإنسان.. بمعنى.. قد يصل عقلك إلى نتيجة تخالف هواك ولن تستطيع تغيير ذلك.. مثال بسيط.. لنفرض أنك تشجع ناديا رياضيا لكرة القدم.. وأثناء المباراة قاموا بإحراز هدف من تسلل واحتسبه الحكم.. هنا مهما كان حبّك للنادي.. فلن تستطيع إقناع نفسك أن هذا الهدف صحيح.. لأن عقلك قال أنّه تسلل.. قد تقول بدافع المكابرة للناس أنه هدف صحيح.. وتحاول إقناع العالم كله بذلك.. لكنك أبدا لن تقنع عقلك بذلك! النتائج التي يصل إليها عقلك لا تخضع لأهوائك..

لهذا السبب كان قوم نوح يرفضون السمع حتى.. لكي لا تقتنع عقولهم.. ولهذا السبب نزع الله عن هؤلاء الذين يرفضون استخدام عقولهم.. صفة العقل نفسها. أي كأنه يقول.. أنت يا محمد تظن أن هؤلاء بشر.. لكنّهم ليسوا بشرا.. لا يسمعون ولا يعقلون.. هؤلاء دواب.. حتى من يستمع عضويا وهو فعليا لا يستمع.. حاز الوصف نفسه.. (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون.. إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)..

هذه اول تجليات رؤية الله لعقل الإنسان.. عندما ترفض استخدامه.. ينظر الله لك بنظرة دونية تجعلك أنت والدابة سواء.. بل هي أفضل منك.. لأنها وإن لم تكن تسمع وتعقل.. لكنها قد تتعلم بالممارسة فتعي وتفهم.. أما أنت فلا.. أنت والميت سواء (إنك لا تسمع الموتى.. ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا ولوا مدبرين)..

التجلي الثاني لرؤية الله لنا ككائنات عاقلة، يتضح في قصة الوليد بن المغيرة.. والوليد بن المغيرة لمن لا يعرفه هو والد الصحابي خالد بن الوليد.. المغيرة هذا كان من أغنى وأعظم رجال قريش.. إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق.. وكان يسمى الوحيد.. لأن قبائل قريش كانت تكسو الكعبة عاما.. وهو وحده يكسوها عاما.. وعندما اعترض القرشيون أن الرسالة أنزلت على محمد عليه السلام المنتمي إلى عائلة متواضعة.. وقالوا "لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم".. كان العظيم المقصود في مكة هو الوليد بن المغيرة.. والآخر في الطائف هو عروة بن مسعود الثقفي..

الحاصل أن هذا الرجل ذا العقل الراجح، لما استمع للقرآن في أول مرة.. (ليس من الذين لا يستمعون طبعا).. أيقن تماما أن هذا الكلام ليس بكلام بشر.. عقله أكد له ذلك بكل بساطة.. فقال لقريش أن ما يقوله محمد ليس بكهانة ولا شعر.. ولا بكلام جان.. بل وصف القرآن وصفا جميلا فقال (إن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى عليه).. لكن لما أحّس الرجل أن موقفه هذا وموافقته على ما يقوله محمد، قد يكلفه زعامة قريش.. جلس يفكر في الأمر.. ووصف صراعه النفسي خطوة بخطوة في القرآن في سورة المدثر.. وكأن الله عز وجل يراقب ماذا سيفعل هذا الرجل عندما حكم عقله بشيء.. وهواه بشيء آخر..

"إنه فكر وقدر.. فقتل كيف قدر.. ثم قتل كيف قدر.. ثم نظر.. ثم عبس وبسر.. ثم أدبر واستكبر.. فقال إن هذا إلا سحر يؤثر".. هذا ما قاله الوليد في نهاية الأمر.. هكذا خان عقله.. فقال أنّ هذا القرآن سحر.. ومحمد ما هو إلا ساحر.. فماذا كان رد الله السريع والحاسم على خيانة الوليد لعقله؟ "سأصليه سقر".. تخيل غضب الله.. الهاء تعود على الوليد.. تعهد شخصي من الله ضد شخص!! سأضع الوليد في قسم خاص في جهنم.. مخصص لأولئك الذين منحتهم عقولا راجحة لكنهم خانوها!!

التجلي الأخير لرؤية الله لنا يمكن شرحه كالتالي.. أثناء قراءتي لتاريخ ابن كثير.. قرأت عن أحد القادة المسلمين (لا يحضرني اسمه الآن).. المهم أن هذا الرجل أوغل في دماء المسلمين طولا وعرضا.. وعندما أحس بالندم واقتراب الأجل.. ترك كل شيء وراءه وذهب ليعيش آخر أيامه في المسجد النبوي في المدينة المنورة، يستغفر الله هناك.. طبعا هذا التصرف كان شائعا عند السلف (وإن كان البعض يعده بدعة) لكنه يستند إلى الآية الكريمة التي تقول "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول.. لوجدوا الله توابا رحيما.. " آية لها وزنها وتعاضدها آيات أخرى تفيد بجاه الرسول عليه السلام عند الله عز وجل.. لكن العجيب أن القرآن الكريم في مواضع أخرى ينسف هذا المنطق تماما.. ويجعل استغفار الرسول كعدمه “استغفر لهم أو لا تستغفر لهم.. إن تستغفر لهم سبعين مرة لن يغفر الله لهم!".. على من كل هذا الغضب؟

على أولئك الذين فعلوا تماما كما فعل الوليد.. لكنهم زادوا عليه.. وصلت عقولهم لنتيجة معينة.. لكنهم لم يكتفوا بخيانة تلك العقول.. لكنهم قرروا أيضا أن يزوروا عقول الناس ويخادعوهم.. يرون الحق رأي العين.. لكنهم يقولون الباطل ويزينونه بصورة الحق.. وليس لديهم جرأة الوليد ليجاهروا بعدائهم.. فتراهم يتظاهرون بالصلاح أمام الناس.. ويقولون أنّ ما نقوله لكم هو الحق.. بينما يعلمون تمام العلم أنه الباطل.. عاشوا في زمن الرسول ويعيشون الآن بيننا.. تراهم وتسمعهم كل يوم.. في التلفاز والإذاعة ووسائل التواصل.. المنافقون.. أصحاب الدرك الأسفل من النار..

*فاصل تنهد*

ألا يوجد نوع رابع نطمئن أنفسنا به؟ يوجد..

"الذين يستمعون القول..
فيتبعون أحسنه..
أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب"

#ديك_الجن
كتابات ديك الجن
نشر في 23 آذار 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع