1590 مشاهدة
0
0
الإسلام اليوم منهوب منكوب برّحت به علل الداخل وفتن الخارج، وهو فقير إلى دعاة من طراز جديد ذو علاقة ذكية قوية بكتابهم ونبيهم وبالعالم الذي نعيش فيه وما يمور به من قضايا
كتاب : الغزو الثقافي يمتد في فراغنا - تأليف : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 10 ] أمة وارثة أم موروثة؟
مع الخلل الكبير الذي أصاب سياسة الحكم والمال عندنا. ومع غلبة التقاليد القبلية والبدوية على رقعة رحبة من المجتمع الإسلامي.. ومع الفجوة التي حدثت بين علوم الكلام والفقه من ناحية وعلوم التربية والسلوك من ناحية أخرى وظهور الطرق الصوفية الجاهلة.. ومع استخفاء قضايا حيوية مهمة وبروز قضايا هامشية تافهة.. ومع ضعف المستوى الفكري والاجتماعي لدى أعداد من المتحدثين الإسلاميين..
مع هذا، وغيره من الأسباب أخذت أمتنا تتراجع أمام خصومها وتترنح تحت ضربات موجعة ، وظهر عجزها عن تبليغ رسالتها بعد عجزها عن العمل بها بداهة.. وتبع ذلك عجز آخر أنكى وأخزى. عجزها عن صنع رغيفها الذي تأكله !!
وقد قرأت أنباء ندوة الغذاء العربي التي انعقدت أخيراً في دمشق، واستوقف بصري عنوان كبير " 77% من قمح رغيف الخبز في الأقطار العربية مستورد ! ، سنة 2000 يستورد العرب غذاء قيمته 120 مليار دولار "..
يقول المحرر : لندخل في التفاصيل. لقد وصلت تكلفة المستوردات العربية للمنتجات الغذائية سنة 1981 إلى 22.5مليار ، أي أنها تضاعفت أكثر من اثنتي عشرة مرة خلال اثني عشر عاماً .
أما الصادرات في العام نفسه فلم تتجاوز 3.5 مليار دولار أي أن العجز في الميدان الغذائي وحده بلغ 19 مليار دولار..
ثم قال المحرر: إننا ننحدر عاماً بعد عام (!) فإن نسبة الاكتفاء الذاتي من الحبوب في أوائل السبعينات كانت 84% ثم هبطت في نهاية هذا العقد إلى 60% وكانت نسبة الاكتفاء الذاتي في السكر 40% وفي المنتجات الحيوانية انخفضت النسبة من 81% إلى 65%، حتى القطن الذي كان لدينا من أهم المحاصيل الزراعية انخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي فيه من 240% إلى 190%..
ثم قال: "... والوطن العربي يستورد 17% من صادرات القمح العالمية، و 15% من صادرات الأرز العالمية، و 40% من صادرات الأغنام في العالم، و 53% من الصادرات العالمية لزيت بذرة القطن، و 12% من زيت عباد الشمس، و 13% من الألبان المجففة . . " .
لم هذا الاستيراد كله؟ ولماذا لا ينتج العرب ما يستهلكون؟ وما نتيجة اعتمادهم على غيرهم فيما يأكلون ؟
النتيجة نفهمها من قول وزير الزراعة الأمريكي سنة 1975 لمجلة " دير شبيغل " الألمانية : " السلطة في العالم تتركز في موردين لا ثالث لهما ، هما النفط والغذاء ، وسلطة الغذاء أشد قوة ! ولهذا يصبح الغذاء أخطر مكانة وأعظم أثراً في تعاملنا مع ثلثي سكان الأرض.. ".
ونضيف نحن أن الذين يملكون موارد الغذاء هم الذين يحمون موارد النفط لضمان مصالحهم . وقد أكد أكثر من مسئول أمريكي أن الولايات المتحدة حريصة عند تقديم مساعداتها للدول النامية على أن تكون مصحوبة بشروط تحقق المصالح الأمريكية الثقافية والسياسية..
نقول ، وكذلك المصالح الصهيونية والصليبية ، فإن خصوم "إسرائيل " لا يجوز أن يحصلوا على دولار واحد ! وكذلك خصوم التبشير الاستعماري والغزو الفكري . ليس من حق صاحب اليد السفلى أن يعترض على السادة في قليل أو كثير، إلا أن يكون الاعتراض من باب التمثيل أو من قبيل الاستهلاك المحلي .
إن المتخلفين صناعياً وحضارياً ليس لهم أن يغالوا بعقائدهم وشرائعهم ، ليس لهم أن يحتفظوا بمعالم شخصيتهم ، يجب أن يفتحوا أبوابهم لكل ما هو أجنبي ، وأن يتواروا خجلاً بكل ما هو قومي أو وطني .
ومما يعين على هذا الاستخذاء وجود تدين يرى إيقاع الطلاق الثالث ثلاثاً أهم من ضبط قواعد الشورى ، وأن قبول المسح على الجورب أهم من حماية المال العام .
والتديُّن الأبْلَه ينتشر الآن بقوة . والمطلوب منه أن يفسد الصحوة الإسلامية ، وأن يجعل من ارتداء النقاب والجلباب قضايا مصير! وأن يشعل معارك طاحنة في بحوث لاهوتية بائدة أو أحكام فقهية فرعية..
أما دعم الأركان بجهاد علمي ذكيّ وإنتاج مدني واسع ، وبناء أجيال محترمة تخدم الإيمان في ميدان التربية والارتقاء والمجتمع المتكافل والحكم المضبوط العدل.. فذاك مالا يعنيه !!
إن النَّيْل من أبي الحسن الأشعري و أبي حنيفة يرضيه أكثر مما يرضيه النيل من قادة الصهيونية والصليبية !!
ولا شك أن اليقظة الإسلامية مسَّها ضر شديد من هؤلاء الناس ، وأن الغزو الثقافي زحف إلى الأمام وتضاعف ربحه.
ذلك أن العقل العادي يفضل المذاهب الاجتماعية والسياسية الحديثة على الصورة القائمة التي يقدمها هؤلاء الجهال لدين الله، والتي لا تلمح فيها ظلا لحرية مصونة أو عدالة مضمونة أو قياماً على مال الله أو انفساحاً أمام حركة الفكر والإبداع أو حتى ساعات للاسترواح والاستجمام .
وتقديراً للواقع نقول : إن هذا العوج بدأ من قديم ، فالأمة الإسلامية في الأحقاب الأخيرة ما أحسنت الدعوة إلى الإسلام ، ولا قدمت من نفسها نموذجاً يغري بالدخول فيه .
بل لعلها نسيت رسالتها علماً وتطبيقاً ! ونسيانها لرسالتها لم يأت من انشغالها ببحوث وهوايات لها بريق، كلا، لقد عراها خلل أو عطب في بعض أجهزتها الرئيسية .
وأحسب أن تلك الحال هي التي أنجحت الغزو الثقافي ومهدت أمامه الطريق ، إنه جاء بعد غزو عسكري ناجح ، سيطر على أمة كانت مخدَّرة تغشاها غيبوبة ثقيلة..
وللمنتصر كفَّته الراجحة، وأمره النافذ، فكيف إذا كان منتصراً يحمل في دمه أحقاد قرون ورغبات مجنونة في الإجهاز على دين محمد ؟ ثم كيف إذا كان مزوداً بألوان من المعرفة ، وألوان من الأسلحة على حين كان خصمه يرسف فى أغلال الجهل ، ويقوده حكام لا يعرفون من أمانات الحكم شيئاً ؟ لقد كانت هزيمتنا العلمية والحضارية بالغة الشدة..
ألقى الأستاذ خلدون حمادة محاضرة في " رابطة العالم بباريس " جاء في مقدمتها :
" إن نظرة سريعة حولنا ترينا كم تأَثّرت حياتنا المعاصرة بالحضارة الغربية ، لقد استطاعت بتفوقها العلمي والصناعي أن تحتوى أغلب أنشطتنا، وأن تفرض علينا أدواتها ومنتجاتها. إننا نستعمل الهاتف ونركب السيارة والطائرة، وقد أصبحت الكهرباء والمحركات الانفجارية جزءاً أساسياً من حياتنا، ونحن نسكن في بيوت مبنية بالأسمنت على الطراز الغربي، ونأكل ونلبس بالطريقة الغربية، ونستورد أنواع الأدوية من الغرب، ونخضع في حياتنا الخاصة والاجتماعية والسياسية بل في نظم التعلم ووسائل الاتصال وقواعد العلاقات العامة للنهج الغربي، ونحن نجلب مواد الاستهلاك، وأدوات الإنتاج من الخارج، ومصانعنا المحلية تقام وفق أنماط غربية، ولا يستطيع أحد إنكار التغلغل الحضاري الغربي في كل شيء لدينا. ".
وهذا الكلام صحيح كله، وإن كان يخلط بين الشئون المدنية العادية والشئون التربوية والاجتماعية، وبين الجانبين فرق كبير، هو الفرق بين مالا خير فيه، وما فيه خير.
وقد مضى المحاضر في سرد تاريخي حاول فيه اكتشاف البدايات الأولى لحركة التغريب التي صبغت العالم الإسلاميّ فيما بعد، وطبيعي أن يتحدث عن القيادة التركية للأمة الإسلامية، وكيف أن هذه القيادة أحرزت انتصارات كبيرة في عهدها الأول، ثم توقفت هذه الانتصارات مع طول المقاومة الأوروبية وعمقها ويقظتها...
ومع مطلع القرن التاسع عشر الميلادي أخذت الدولة العثمانية تهتز للضربات المتتابعة التي تنزل بها، وتنقص من أطرافها بل لقد اتجه الهجوم إلى قلب دولة الخلافة فانتزع الفرنسيون مصر، وكسب الأعداء معارك كبيرة...
ومازالت القيادة التركية للإسلام تتهادى حتى سقطت آخر الأمر في الربع الأول من القرن العشرين، واتفق القائد العلماني التركي مع الأوربيين على إزالتها..
وأريد أن أصف الوضع الحقيقي للأمة الإسلامية ثقافياً وسياسياً ، وأن أسأل : أكنا ـ نحن المسلمين ـ أهلاً للنصر والبقاء في الساحة العالمية ؟ أكنا أصحاب رسالة سليمة ؟ أكنا على المستوى المادي والأدبي لخدمة الحق ؟ أكنا نموذجاً صالحاً للإسلام تهفو إليه الأفئدة ، وتتطلع إليه الأبصار ؟.
الجواب : لا لم تكن سياسة الحكم فى الإسلام أشرف من . مثيلاتها في سائر الدنيا. بل ربما كانت أسوأ وأقل رعاية لحقوق الإنسان، والمصالح العامة.. ولم تكن سياسة المال كذلك أعلى أو أعدل من مثيلاتها فى البلاد الأخرى، كان المال العام أشبه بالكلإِ المباح ترتع فيه الشهوات دون حرج !
وأغلب الثروات الكبرى لا يعتمد على أصول شرعية ولا يتقيد بضوابط الحلال والحرام..
وكانت العلاقات الاجتماعية تعاني من علل شتى . فشعب أشرف من شعب وقبيلة أرقى من قبيلة، وكانت المرأة متردِّية الوضع محظوراً عليها العلم وممنوعة بتة من الذهاب إلى مسجد..
أما الثقافة الإسلامية فكانت ضامرة قاصرة ويستحيل أن يتعرض الفقه الإسلامي لسياسة الحكم، والمال، أو يخوض فيما يغضب الحكام.. حسبه بعض أبواب العبادة الفردية..
ثم هو في شئون الأسرة والمعاملات العامة سجين أقوال لم يحالفها الصواب باستمرار، ومع انغلاق باب الاجتهاد، والتعصب المذهبي كاد الفقه الإسلامي يعجز عن قيادة المسلمين..
وشاعت بين المسلمين خرافات وأوهام نالت من عقائدهم وأخلاقهم ومسالكهم، وترك هذا كله أثراً محزناً على العقل الإسلامي كاد يصيبه بالعمى في الشئون الدنيوية، وفي العلوم الكونية والإنسانية... وكانت نتائج هذا التخلف ما لحق بنا من كوارث، وما أنزل الاستعمار العالمي بنا من ويلات.
إن طرد المسلمين من أماكن القيادة العالمية لم يكن ظلما نزل بهم، بل كان العدل الإلهي مع قوم نسوا رسالتهم وحطُّوا مكانتها وشابوا معدنها بركام هائل من الأهواء والأوهام في مجالَيْ العلم والعمل على سواء (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد * كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ) .
ولم يكن أعداء الإسلام نياماً ! لقد انتهزوا الفرصة ، وبلغوا ما بلغوا...!! وأحب أن أحدد الأوضاع السليمة لعلاقاتنا بديننا ، كما أحب أن أحدد الأوضاع السليمة لعلاقتنا بدنيا الناس..
إن أولي الألباب يرفضون أن تكون العودة إلى الإسلام عودة إلى الأيام العجاف من تاريخه، ويرفضون أن تكون هذه العودة امتداداً لتعصب في فقه الفروع ينصر مذهباً على مذهب أو قولاً على قول مع تجاهل الآثار الاجتماعية لهذا التجميد.
إن الإسلام دين مضبوط الأصول محكم الشرائع، ولا نقبل أن يعبث به المعلولون ووعاظ السلاطين، هواة الاستبداد السياسي، دين مضبوط الأصول محكم الشرائع .
أما صلتنا بالدنيا فيجب أن تتسع دائرتها إلى أبعد الحدود ، وأن نهجر أخطاءنا إلى صواب غيرنا، وألا نستحي من التعلّم والاقتباس، وأن نحث الخطى إلى الأحسن حيث كان في شرق أو غرب..
إنني شخصياً أستحسن نظام المائدة الغربي على نظامنا الشرقي ، وأرى كثرة الأطباق والأكواب والملاعق أفضل من طبق واحد وكوب واحد، وأستغرب إقحام الإسلام في هذا الشأن التافه..
وفي ميدان الوسائل المرنة للأهداف الثابتة أرى أن خدمة مبدأ الشورى بالوسائل الغربية أفضل من خدمته بالوسائل العربية...
أما في ميادين الزراعة والصناعة فإن تخلفنا البادي يفرض علينا أن نكون تلامذة ، وأن نطلب هذه العلوم من الغرب أو الشرق على سواء...
ومحمد علي باشا ـ رأس الأسرة المالكة السابقة ـ لم يخطئ حين أرسل البعوث إلى أوربا لنقل تفوقها الصناعي والعلمي، وإنما أخطأ أفحش الخطأ حين جعل ذلك لخدمة أطماعه في إقامة دولة علوية، يملك فيها مصر هو وأسرته من بعده. كما أخطأ حين تجاهل الإسلام، ورنا ببصره إلى فرنسا ينقل منها التشريع والتقاليد..
وخطيئة محمد علي باشا تبعه فيها زعماء معاصرون يدَّعون التقدمية ، وأدباء صحافيون من أمثال طه حسين، ورؤساء ثورات عسكرية ظاهرها التحرر، وباطنها التبعية الكافرة للغرب الصليبي أو الشرق الشيوعي..
من قال: إن تصحيح أخطائنا المدنية يتطلب ترك الإسلام؟ إن هذا منطق العاملين لمصلحة إحدى الجبهتين الكبيرتين، وليس منطق العاملين لأمتهم بأية حال…
نحن نرفض استيراد الإلحاد والتحلل باسم استيراد العلم والمدنية! ما علاقة هذا بذاك ؟
جهدنا يتوزع على جبهتين متوازيتين، إحداهما تقوم على تصحيح الوعي الديني والأخرى تنعشنا من الإغماءة الطويلة التي غبنا فيها عن الدنيا ، فبقينا فى موضعنا وغزا غيرنا الكواكب..
وأعرف أن الغزو الثقافي سوف يحاول مخادعتنا عن عقائدنا وشرائعنا ، وربما ظن أنه يبيعنا تقدمه الصناعي باستلاب تراثنا كله ، وتحويل المسلمين إلى شعوب باحثة عن الطعام والجنس ، زاهدة في الوحي الذي شرفها الله به... ودون هذا الموت.
وقد وضع الأستاذ خلدون حمادة أربعة شروط للاستفادة من الحضارة الغربية ، ختم بها محاضرته التي أشرنا إليها، ونرى إثباتها هنا :
1ـ يجب أن يتم الاقتباس بشكل إرادىٍّ واع ، وعن طريق الانتقاء لما يلائمنا، فنأخذ ما نراه أوفق لنا وندع غيره ، ونضع ما نقتبسه في مكانه الصحيح من حياتنا .
2 ـ ولنعلم أن الاقتباس يتم لمصلحة المقتبس لا لترسيخ قدم المقتبس عنه ، وتمكينه من أعناقنا، كما يأمل الاستعمار الثقافي.
3ـ أن يقع ذلك على جرعات متراخية ، ونظام رتيب ييسر النفع ويمنع الأزمات الحضارية ، والاختناقات الاجتماعية ، وعقد النقص التي قد تعتري المقتبسين.
4ـ ولا بأس بين الحين والحين أن نراجع ما قلنا وما أفدنا، وأن نحسب مدى الربح والخسارة في هذا التلاقي الحضاري ، وذلك على ضوء ما نقدس من كتاب ربنا وسنة نبينا.
لقد سبقتنا اليابان إلى هذا اللون من الاقتباس ونجحت. واستطاع الشيوعيون أن يستفيدوا من العلم الغربي ، مع بقائهم أعداء للرأسمالية الغربية ، واستطاع الأوربيون في العصور الوسطى أن يأخذوا العلم عن آبائنا ، فأخذوا كل شيء ، ونقلوا إلى بلادهم مكتبات ملأى بنفائسنا ، وأحسنوا الانتقال إلى عصر الإحياء... ثم استداروا إلينا ليستعبدونا...
ونحن يجب أن ندفع ضريبة تكاسلنا ، وما يفكر في الانتحار الأدبي إلا أحمق.. والناس تقسم طلاب الإصلاح في عصرنا إلى قسمين :
المحافظين على القديم والمتطلعين إلى الجديد ـ وهذه قسمة ساذجة ـ وقبل أن نعترف بها نريد أن نسأل المحافظين: ما الذي تحتفظون به؟ ما كل قديم يستحق البقاء! ونسأل المتطلعين إلى الجديد: ما الذي تريدون اقتباسه أو نقله ؟ فما كل جديد يستحق الاحترام !
إن ولاء المسلم لشيء واحد ، هو الوحي الأعلى ! أما ما ألقاه الشيطان فى هذا الوحي فهو دبر آذاننا وتحت أقدامنا ، وسيتحقق فيه الوعد الإلهي (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) . وكذلك ما استحدثه فلاسفة المذاهب الحديثة وزاحموا به الإسلام فى دياره ، منتهزين غفلة أهله وجمود فقهائه وزيغ ساسته إن هذا كله لا قيمة له ، ولا يصرفنا عن كتاب ربنا وسنة نبينا…!!
والفزع الذي أشعر به هو من الصور المنكرة التي يعرض بها الإسلام في أحيان شتى...
قال لي صديق: إن امرأة متدينة دخلت مستشفى كبيراً لجراحة تحتاج إليها ، واقتضى الأمر أن تكشف عليها طبيبة مختصة ، وأبت المرأة أن تضع النقاب عن وجهها ، لأن الفتوى التي صدرت لها أن المرأة الأجنبية لا يجوز أن تطلع على وجه مسلمة !!
وعلمت أن مفتي الغبراء يرى أن الوجه عورة ، وأن الكافرة لا يجوز أن ترى عورة مسلمة فهي كالرجل الأجنبي في التحريم .
قلت في نفسي: ما يكون رأي الطبيعة في ديننا ـ والحالة هذه ؟ إنه دين فرض على النساء الأمِّية ، فلما انكسر هذا الحاجز بضغط الحضارة ، حرم كشف الوجه ، ثم حرم دراسة الطب فلابد فى هذه الدراسة من مخالطة متخصصين .
وها هي ذى المريضة المسلمة ترفض أن ترى وجهها امرأة على غير دينها .
أليس هذا الغرض هو الذي يفتح الباب على مصراعيه للغزو الثقافي الذي يجتاح الدين من أصوله ، ولا يحترم له تشريعاً..؟
هناك محافظون كثيرون من هذا النوع المدمّر حوَّلوا الإسلام كله إلى قضايا من ذلك النوع العجيب.. ونسوا كل ما يحيط بالأمة الإسلامية من عجز مادي وأدبي ، ومن سلبيات أغرقتها فى الديون وأحوجتها إلى الرغيف ، يصنعه لها أو يمُدُّها بقمحه أتباع الأديان الأخرى .
ومتى يقع ذلك ؟ فى يقظة من الدعاية النصرانية العارية لإحلال التثليث محل التوحيد ، وعقيدة الفداء مكان المسئولية الشخصية ، والكنيسة بدل المسجد..
وقد كتب الدكتور نجيب الكيلانى مقالاً في مجلة الأمة جاء فيه :
ولم يقع الأدب التنصيرى في السذاجة والسطحية ، فقد استخدم الإمكانات الفنية المتاحة له ، والمجربة في بلاده ، بدهاء وحنكة بالغين ، فمزجت فنونه السم بالدسم كما يقال ولجأت إلى التلميح بدلاً من التصريح ، واستخدمت الرمز وألوان الإثارة والتشويق، ونأت بجانبها عن السرد الأجوف، والتعبير المباشر الممل، ووظفت الإيحاءات توظيفاً ماكراً ، ورسمت حركة الحياة والأفراد وأنماط السلوك، رسما يتفق ومعتقداتها، ويبعد بها عن النماذج الإسلامية العريقة، وأغرقت في إبراز المنعطفات الإنسانية، ورقة المشاعر والأحاسيس، وتبنت تبرير ضعف الإنسان، والعطف على آلامه وأحزانه، وأكدت تأكيداً شديداً ونهائياً على ضرورة الالتزام بالرضوخ والاستسلام واتباع الأساليب السلمية وحدها، مع البشر كافة، خاصة مع القوى الغاصبة المستعمرة، ومازلت أذكر رواية " إبك يا بلدي الحبيب " التي كتبها أحد القساوسة الأفريقيين ونال عليها جائزة كبرى من الجوائز العالمية، وترجمت إلى العربية منذ سنوات طويلة، ولم تخرج الرواية في مجملها عما أبديناه من مواصفات للأدب التنصيري في السطور السابقة، وهي بلا شك رواية مؤثرة إلى أبعد حد.
والواقع أن القصة كانت المجال الخصب للدعوات التنصيرية في كل مكان، حتى في روايات " دراكولا " ـ مصاص الدماء ـ نجد في أحدها الضحية في آخر الفيلم، وهو يدفن في حفرته، نراه بعد ذلك أهيل عليه التراب ، يرفع يده بالصليب..
وهذه الروايات التنصيرية في عمومها تتخذ منهجاً خاصاً ، يمكن أن نوجزه في الآتي :
* أولاً : مكان الحادثة ، يبدو لأول وهلة مكاناً متميزاً غريباً ، يشد الانتباه ، ويقبل عليه الصغار والكبار، والنساء والرجال على حد سواء، وقد يكون هذا المكان في غابات أفريقيا حيث الوحوش المختلفة، والطيور ذات الألوان الغريبة، والقبائل ذات التقاليد والأعراف التي تلزمك بالإصغاء والانتباه، والأحداث المنتقاة المميزة ، والحركة الموارة الدائبة .
* ثانياً: تصور القساوسة والرهبان ورجال الدين بصورة ملائكية فريدة، فهم يخوضون الأخطار دون خوف، ويقتحمون المشكلات في حلم وروية، ويتسمون بجمال الملامح، ورقة المشاعر، وجلال المظهر، وتألق الثياب، وانتقاء الكلمات الحلوة المؤثرة، والتعاطف البالغ، دون أن يأنف أحدهم من القيام بعمل من الأعمال مهما كانت طبيعته.
* ثالثاً: كما يتصف " رجل الله " بالصبر والحلم وتقديم التضحيات دون مقابل كما يقال ـ ولا تُيَئّسه الهزائم ، أو تنال من عزمه النكبات.
* رابعاً: يحرص أبطال القصة الدينيون على تلمس مشكلات المجتمع، والاحتياجات الملحة للناس، ويقومون بسد النقص، وتقديم الخدمات، فنرى في العمل الأدبي، كيف ينشئون المدارس الصغيرة، ويقيمون المستوصفات المبسطة للرعاية الصحية، ويعقدون الاجتماعات الدينية للدروس والعبادة، ويلتقطون الأطفال أومن يثبت إخلاصه من المواطنين ليفسحوا لهم طريق النجاح والأمل والحياة السعيدة، ويساهمون في التخلص من الآفات والحشرات، ويشرحون لهم الوسائل الحديثة في الزراعة والتجارة والحرفة اليدوية وما إلى ذلك .
* خامساً: تقديم المنح والمساعدات الدراسية لمن يلتحق بركبهم، وإبرازه في صورة الإنسان المتحضر الواعي، والذي تغيرت حياته تغيراً جذرياً لسبب رئيسي واحد ألا وهو اعتناقه للنصرانية.
* سادساً: التنفير من الانحرافات بأسلوب فني ناجح، وتجنب الصدام في البداية مع العادات والتقاليد العتيقة، ومعالجتها بأسلوب رقيق ماهر .
* سابعاً: تسليط الضوء على نماذج من الرجال والنساء يضحون بحياتهم، ويبذلون دماءهم من أجل سعادة الإنسان ورقيه، وجعل تلك النماذج مثلاً يحتذى في التضحية والفداء ؟ ودفع المتلقي للتشبه بهم ، والسير على منوالهم ، بل تسمية أبنائهم بأسمائهم .
* ثامناً: يعمد الكتاب التنصيريون أساساً إلى البساطة في الأسلوب ، مهما كان المعنى عميقاً ، وتجنب التعقيد والغموض ، ولا يلجأون إلى غرس بذور البلبلة إلاً في المجتمعات التي يجدون صعوبة في النفاذ إليها ، كمرحلة أولى .
* تاسعاً: النيل بطريق غير مباشر، من مختلف العقائد والديانات المنافسة ، وإظهارها بمظهر الانحراف والجمود والدجل ، وتقديم نماذج قصصية أو مسرحية تبلور هذا التصور بطريقة حية مؤثرة.
* عاشراً: التغني بالقيم العليا التي يحلم بها المستعبدون ، والذين أنهكهم الخوف والفقر والجهل والإهمال ونقصد بها قيم العدالة والحب والخير والإخاء .. الخ
قرأت هذه الكلمات عن أدب التنصير ثم غصت في لُجَّة من الأفكار والذكريات والموازنات ..
إن الفكر الاشتراكي بنى له دولة مرهوبة ، ومهد له الطريق دعاة حاذقون مهرة ، فمدُّوا رواقه إلى القارات الخمس، واستهووا به الألوف المؤلفة من الناس . .
وقد استطاع رجال الكنيسة أن ينسوا أقطار الغرب مأساة العلم معهم ، كما استطاعوا أن يواروا الثغرات الواسعة في تعاليمهم . وباللباقة وحسن التأني إلى الأمور قادوا حملات صليبية جديدة أنكى وأسوأ من حملات العصور الوسطى . . .
أما دعاتنا فأغلبهم نكبة على الإسلام وقذى في عينه . إنهم لا يقرءون ، ولا يعانون ، والقليل من الحقائق لديهم لا يضعونه موضعه الصحيح ، وعلل الأمة لا تلقى منهم أساة ولا بكاة لأنهم مشدودون إلى جدليات الماضي السحيق . . . ولا يدركون ماجدَّ حولنا ولا الطفرات الهائلة التي قفزت بها الحياة على أرضنا ..
وإذا كان الجسم المصاب بفقر الدم يسقط في أول مراحل الطريق ، فالعقل المصاب بفقر المعرفة أعجز من أن يلاحق مطالب الجهاد ، أو يلبِّي حاجات الحق . . .
العالم الإسلامي اليوم منهوب منكوب ، برّحت به علل الداخل وفتن الخارج ، وهو فقير إلى دعاة من طراز جديد ذوي علاقة ذكية قوية بكتابهم ونبيهم ، وبالعالم الذي نعيش فيه وما يمور به من قضايا .
فإذا لم نعِ هذا فلنعِ قوله تعالى : (والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) .
----------( يُتَّبَع )----------
#محمد_الغزالى
#الغزو_الثقافي_يمتد_في_فراغنا
نشر في 13 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع