1549 مشاهدة
0
0
التعصب المذهبى أراه ضيق عقل وقلة علم، أو ضيق خلق وقلة مروءة وأستحب التقليد المذهبى للعامة وأشباههم، موضحاً ذلك في كتاب علل وأدوية للكاتب محمد الغزالي
كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 10 ] وجهة نظر فى أقدار الرجال
أكره التعصب المذهبى، وأراه ضيق عقل وقلة علم، أو ضيق خلق وقلة مروءة. وأستحب التقليد المذهبى للعامة وأشباههم، وللمختصين فى علوم الكون والحياة وشئون الدنيا، حتى لا تشغلهم الفضول عن الأصول!
وأعنى بالأصول ما توفروا عليه من مهارات فنية وحيوية، مدنية أو عسكرية لابد منها لدعم أجهزة الجهاد ورفع كفايتها، فإن مصاب المسلمين فى هذه الميادين فادح أو فاضح.
أما المشتغلون بعلوم الدين التقليدية، فلا بأس أن يوازنوا بين وجهات النظر المختلفة ويرجحوا دليلا على دليل ومذهبا على مذهب. مع إكنان الاحترام للرجال الذين قادوا ثقافتنا القديمة، وليس هذا تفضيلا عليهم نتطوع به، بل هو أدب ننزل به على قول رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه) .
واحترامى لك لا يعنى بتاتا أن أسلم بكل ما تقول، وتخطئتى لإنسان لا تعنى أبدا أنى أفضل منه، إن حقيقة الفضل لا يعلمها إلا الله . والأئمة الراسخون قد تقع منهم هنات، وما يهدم ذلك مكانة حصلوها بالسهر والإخلاص والدأب والتفانى.
وقد نبتت فى عصرنا هذا نابتة سوء، تغمز الأكابر بما تراه مأخذا عليها وتتعامى عن كل ما لهم من حسنات.
من المعروف أن الإمام الشافعى هو أحد مجددى الإسلام، وهو واضع علم الأصول، والمحامى المجيد عن السنة النبوية، ومع ذلك فإن البعض لا يذكرونه إلا بأنه يبيح زواج البنت من الزنا، ويقترف بدعة القنوت فى الفجر... وتوافه أخرى يذكرونها.
وبهذا المنطق الصبيانى لا يبقى فى تاريخ المسلمين رجل موضع ثقة! فمن من عباقرة الأرض رزق العصمة؟ ذلك لو سلمنا بأن ما ذكروا مآخذ.. أقول ذلك لمناسبة ما قرأت من تهجم على الشيخ محمد عبده وهو أحد رواد الإصلاح الحديث، وروح الفقه المتجدد فى مدرسة المنار.
أول ما عرفت الشيخ فى كتابه (رسالة التوحيد) وهو عرض جديد لعلم الكلام ردم الفجوة بين السلف والخلف، وشرح العقائد شرحا يمزج بين العقل والنقل، وتجاوز الترف العقلى والجدل اللفظى ومنهج المتون والشروح، وقدم أصول الإسلام تقدمة دقيقة جيدة.
ثم قرأت كتابه عن الإسلام والعلم الذى رد به على وزير خارجية فرنسا، فرأيت رجلا عليما بالإسلام وتاريخه وفضله على الحضارة الإنسانية، عليما فى الوقت نفسه بالنصرانية والهندوكية وتاريخهما وما يكتنفه من غيوم. وقد ألف الكتاب فى ليلة واحدة لشدة غضبه من الهجوم الفرنسى وملأه بالوثائق التى تشرف الحق وتخزى الباطل.
مَن مِن علماء المسلمين فى عهده تحرك بهذه العاطفة ورد بهذا الرسوخ؟
ثم قرأت تفسيره للقرآن الكريم، ووجدت بواكير التفسير الموضوعى للسورة فيما كتب، اهتدى إليها ذهن لماح مستوعب، وبصر حديد فى إدراك الخيوط التى تشد أجزاء السورة، كما تشد الأعصاب أجزاء الكائن الحى. ويمكن عند متابعة المنار أن يعرف فضل الرجل فى تجلية المعنى والحكمة، ودفع الشبهات ودعم اليقين.
قال صديق: لا تنس أن الرجل ـ من الناحية العلمية ـ متهم بتجاوز أحاديث صحاح، وهو اتهام لو صح يسىء إلى مكانته!
قلت: نعم، إن الذين يرفضون السنة النبوية مصدرا للتشريع بعد القرآن الكريم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، وإذا كان رفضهم للمتواتر والآحاد جميعا فهم كافرون يقينا..
بيد أن هنا خلطا مزعجا ينبغى كشفه، فإن جماهير أهل العلم تعترف بالسنة جملة، ويقوم لديها بعدئذ من الأسباب الوجيهة ما ترد به حديثا من مرويات الآحاد.
والذين يفعلون ذلك لا يسمون مكذبين بالسنة، فإن ردهم لهذا الحديث إنما وقع لأنهم يستبعدونه من السنة المطهرة، كأنهم يقولون عنه: هو موضوع، أو فاقد لشرط من شروط القبول المقررة.
قال: إنك تعلم دقة الشروط التى وضعها علماء هذا الفن لتمييز الصحيح والحسن والضعيف، فهل تتهم ما ارتضوه من قواعد؟
قلت: بل أنزل وينزل غيرى عندها! فهى شروط جامعة مانعة، لو نظر فيها رجل مادى لارتضاها فى ضبط الأخبار وتأصيلها. وما حدث أن تساهلا وقع فى تطبيق هذه الشروط. فإن حديث الثقاة إذا ورد مخالفا لمن هم أوثق وصف بالشذوذ، وإن كان سنده صحيحا.
كيف تقع هذه المخالفة؟ إن الراوى بشر قد يخطئ الفهم أو يغلبه النسيان وهنا تجىء المقابلة بين حديث وحديث وسند وسند، ومع التحرى والاستقصاء يظهر الحق.
وقد تجىء المقابلة بين الدلالات المأخوذة من آية قرآنية، وبين الخبر المروى عن طريق الآحاد، ومن غرائب ذلك أن أبا حنيفة يبيح أن تباشر المرأة عقد زواجها بنفسها ويرد ما روى بالمنع.. لأن الله يقول: (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف). ويقول تعالى: (حتى تنكح زوجا غيره). فنسب العقد إليها، وهذا الإسناد حقيقى ولا داعى للقول بالمجاز.. الخ..
وأغلب الفقهاء يرفض هذا المذهب لضعف الاستنتاج وإن أيده كثيرون والذى نلفت النظر إليه أن أحدا لا يرد حديثا بالهوى أو لأنه لم يعجبه، فذلك مسلك كما قلنا أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان.
***
• مع الإمام مالك:
ونتأمل فى مسلك إمام فقيه محدث، هو مالك بن أنس رضى الله عنه، يرى مالك أن المدينة المنورة على عهده ورثت علم الصحابة والتابعين، وهم القرون المفضلة فى هذه الأمة، وأن ما أجمع عليه أهل المدينة هو الصورة الدقيقة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء حديث مخالف لما عليه العمل عند أهل المدينة تجهم له مالك، وتوقف فى قبوله.
إنه وإن رواه الثقة فقد خالف الثقاة، أى أنه وفق مصطلح أهل هذا الفن شاذ، ومن ثم رفض مالك النافلة قبل المغرب، ورفض تحية المسجد والإمام يخطب مع ورود أحاديث تجيز ذلك، بل تستحبه..
إن موقف مالك من هذه المرويات كموقف عمر بن الخطاب من حديث فاطمة بنت قيس فى سكنى ونفقة المطلقة ثلاثا، فقد رد الحديث ـ على صحته ـ قائلا: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لحديث امرأة لا ندرى حفظت أو نسيت! إنه لا يرد السنة وحاشا له ذلك، إنه ينكر أن هذا الحديث سنة.
قال الشيخ عبد الله كنون كبير علماء المغرب ـ وهو مالكى المذهب ـ: (نلمح إلى رأينا فى تقديم مالك لعمل أهل المدينة على الخبر الصحيح الذى يروى عن طريق الآحاد فإنا نرى أنه ذهاب منه إلى وجوب النظر فى متن الحديث كما ننظر إلى السند. إن متن الحديث إذا وجد له معارض من الأصول والحقائق الثابتة المسلمة، وكان من رواية الآحاد أى لم يكن متواترا فيعلم بالضرورة أنه من الدين، فإنه يمكن وضعه موضع البحث، ويتوقف العمل به حتي يبت فيه أهل العلم).
قال: (مما يستأنس به لهذا ما روى عن ابن المعذل أنه قال: سمعت إنسانا سأل ابن الماجشون: لم رويتم الحديث ثم تركتموه؟ فقال : ليعلم أنا على علم تركناه).
وهذا القول يرد على من زعم أن الإمام مالكا ترك العمل بالحديث لأنه لم يبلغه، لا، إنه بلغه، ولكن ثقته برجحان ما عنده يأباه. إن الآحاد لا ترد الإجماع أو شبه الإجماع وهو يرى أن ما خالف إجماع أهل المدينة مرفوض. ويرى أبو حنيفة أن حديث الآحاد يفيد الظن الراجح، فكل دلالة أقوى ترجح عليه كظاهر القرآن، والقياس القطعى.
***
• مع الإمام محمد عبده:
وخصوم محمد عبده يكادون يتهمونه بالزيغ لأنه رفض حديث سحر الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه رفضه تعلقا بظاهر القرآن الكريم وإعلاء لقدر المصطفى.
وأخلص من هذا التطويل إلى أن اتهام الرجل برفض السنة كلها لأنه اعترض أثرا محددا جور شديد، ومدرسة المنار شديدة الاحترام للسنة ولكن القرآن عندها الدليل المقدم، ومن يعترض هذا؟
قال الصديق: فى كلامك وجهة نظر قد تقبل، ولكن ما لا يقبل تطويع القرآن لنظريات علمية أو مفاهيم حديثة، إن تفسير الشيخ للملائكة، وللطير الأبابيل لا مساغ له!
قلت: قد يكون تطرف فى تقريب المعانى من أذهان المعاصرين، ولست ممن يرتضون هذا المنهج، غير أنى أتساءل: لماذا يحسب عليه ذلك ولا يحسب له تفسيره القيم النقى لآيات سورة الأحزاب فى زواج بنت جحش، وتفسيره الرائع لآيات سورة الحج: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم).
إن الرجل دمر خرافة الغرانيق التى وجدت لها أسانيد عن بعض المحدثين الكبار، وزاد عن السيرة الشريفة أوهاما تعكر صفاءها، وبدا من أسلوبه فى الاستدلال أنه استدرك على بعض المحدثين اهتمامهم بالسند وذهولهم عن المتن، وأنه رفض تقوية الفرع على حساب توهين الأصل.
والواقع أنه لا يرد أوهام المستشرقين، ولا يصد مفتريات المبشرين إلا فكر على الغرار، فهل ذلك عيبه؟
صحيح أن الجانب السياسى فى حياة الرجل موضع أخذ ورد وأعرف أنه كان فى وضع لا يحسد عليه بين محتل غاشم وقصر خائن وليست لى دراسة مفصلة لهذا الجانب، وإنما أعلم أن دواعى التزكية والترجيح، والإهانة والتجريح طيعة لمن أراد المدح والقدح والمصير إلى الله الخبير بالنيات، وإنما عنانى فقط الجانب العلمى الذى يعنى المسلمين كلهم، وله بحاضر المسلمين ومستقبلهم علاقة وثيقة.
* * *
• مع جمال الدين الأفغانى:
وأذكر فى سطور قلائل رأيى فى جمال الدين الأفغانى، لوددت أن يكون علماء الدين على صفته فى عزة النفس وشموخ الأنف والتوكل على الله، عندما ذهب إلى الآستانة طلب منه السلطان عبد الحميد أن يدع مهاجمة شاه إيران، وأنصت جمال الدين دون أن يرد، فلما طال إلحاح السلطان عليه قال منهيا الحديث: قد عفوت عنه.
وشُدِه السلطان، وذعرت الحاشية! قد عفوت عنه؟ العهد بعلماء الدين أن يكونوا مدفوعين بالباب ينتظرون الجدا ويشكرون الندى. فما بال هذا الرجل يناصى الملوك ويحاكم أخطاءهم؟
قال المؤرخون: ما كان جمال الدين يرى نفسه دون الخليفة. وتذكرت وأنا أقرأ الحكاية بيتى الشريف الرضى، وهو يعاتب الخليفة العباسى فى بغداد قائلا:
مهلا أمير المؤمنين فإننا .. فى دوحة العلياء لا نتفرق!
إلا الخلافة ميزتك فإننى .. أنا عاطل منها وأنت مطوق!
هل هذا السمو خلق عميل للماسونية كما يقال؟ إنه خلق متوكل وثيق الصلة بربه، راسخ القدم فى دينه، وما سمعت قبله ولا فى عصره من كشف أحقاد الصليبية العالمية وألب الجماهير ضدها وشن الغارات شعواء على المستبدين والظلمة، ونفخ من أنفته فى الشعوب الراكدة المستعبدة يحضها على العمل لدينها ودنياها، إن الرجل وحده كان صاحب هذا الصوت ويظهر أن تلك كانت جريمته.
قالوا: كان منتسبا لأحد المحافل الماسونية، ولا أنفى هذا، وإنما أسأل: فى أى كتاب إسلامى شرحت آثام الماسونية وحذر المسلمون منها قبل عصر الأفغانى؟ إنه خُدع بكلمات الإخاء والحرية والمساواة كما خدعت أمتنا اليوم فى المؤسسات العالمية الكثيرة، والمهم أنه منذ ظهر إلى أن مات عليلا أو قتيلا لم يؤثر عنه إلا العمل على استنهاض المسلمين وإحياء جامعتهم وحضارتهم ورسالتهم.. وذاك حسبه من الشرف.
أذكر أن (بابا روما) الأسبق مات عقب مرض ألم به فألف طبيبه الخاص رسالة لا أدرى ما فيها عن حياته الخاصة، فصودرت الرسالة، وفصل الطبيب من النقابة، وانتهت حياته الاجتماعية، وقد ألفت عشرات الكتب عن (نابليون) تنوه بأمجاده وتتواصى بالسكوت عن غدره وشذوذه وخسته.
القوم إن رأوا من عظمائهم خيرا أذاعوه وإن رأوا شرا دفنوه! أما نحن فمبدعون فى تضخيم الآفات إن وجدت، واختلاقها إن لم يكن لها وجود، والنتيجة أنه لن يكون لنا تاريخ.
وقد نظرت إلى علماء الدين الذين تناولوا الافغانى بالسوء فرأيتهم يحيون فى إطار نُظم تتبع الاستعمار الشرقى أو الغربى، وأنهم فى مواجهته ومواجهة سماسرته خرجوا بالصمت عن لا ونعم. إن الهيابين لا يجوز أن يشتموا الشجعان.
* * *
• التعاون المثمر:
وأخيرا.. أريد أن اقترح تعاونا مثمرا بين مدرستى الأثر والرأى فى ثقافتنا الإسلامية، فإن استباحة أحد الفريقين للآخر وخيم العقبى على أمتنا المنهكة المحاصرة.
أذكر وأنا طالب فى المرحلة الابتدائية أنى قرأت للزمخشرى هذين البيتين فى شتم معارضيه من أهل السنة:
لجماعة سموا هواهم سنة .. وجماعة حمر لعمرى موكفة
قد شبهوه بخلقه من جهلهم .. وتستروا فى زعمهم (بالبلكفة)
ويظهر أن الرجل أحب أن يهين من فسقوه، فتناولهم بهذا الإقذاع وهو مخطئ بلا ريب.
ربما تحمل المسلمون إبان ملكهم العريض، ودولتهم الكبرى نتائج هذا الشطط، أما اليوم وهم كما قال الله فى اليهود قديما: (وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك).
أما اليوم وهم غنائم باردة لما هب ودب فليغيروا من سلوكهم وليحسنوا أدبهم مع الله ومع أنفسهم.. فجمع الشمل أولى والتلاقى على أركان رسالتنا أهم من التخاصم على سفساف الأمور.
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
نشر في 09 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع