Facebook Pixel
دين الإسلام في المستقبل
1295 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

إن طال بالدنيا عمر، وظلت الحياة ترقى فى مضمار المعرفة على النحو الذى نرى، فسوف تزول خرافات كثيرة، وتنقطع أوهام استحوذت على تاريخ البشر دهرا

كتاب : الإسلام والطاقات المعطلة - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 17 ] : دين المستقبل

إن طال بالدنيا عمر، وظلت الحياة ترقى فى مضمار المعرفة على النحو الذى نرى، فسوف تزول خرافات كثيرة، وتنقطع أوهام استحوذت على تاريخ البشر دهرا..!!

أظن الناس فى القارات المتقدمة يترفعون عن نحت صنم من الحجارة ثم يسجدون له، ويوجلون فى حضرته!؟ إن حظوظهم من الإدراك السليم تأبى عليهم هذا الذى طالما فعلته القرون الأولى، وتعصبت له، وقاتلت دونه!! وإن كان من المؤسف أن يقتصر هذا التقدم على بعض الناس دون بعض.

فإن جماهير هائلة من الهنود لا تزال تقدس الحيوان والجماد، وتتخذ لها آلهة من بعض عناصر الكون الحقيرة أو الغالية!! وقد روت الأنباء أن مجمعا دينيا فى " البنغال " أصدر قرارا باعتبار " نهرو " إلها، وأبلغت الزعيم هذا القرار الذى غضب له، واستنكره، ولكن العباد أبوا إلا المضى فيه، مما جعل " راديو " الباكستان يتندر بالقصة كلها، ويذيعها على مستمعيه ساخرا!! وقد روى أحد الظرفاء طرفة أخرى.

فإن " أغاخان " المدفون بأسوان سئل: أحقا أنك تحمل روح الله فى بدنك، وأنك لهذا تعبد، ويزنك أتباعك بالذهب؟ فسكت الرجل قليلا.

ثم قال ضاحكا: أنا أولى بالألوهية من غيرى.

إنهم فى الهند يعبدون البقر! وأحسبنى أفضل من عجل..!!

إنه مع التخلف العقلى تنتشر جهالات شائنة!.

وعندما يعم نور العلم أهل الأرض كلهم فستمحى خرافات شتى، أو على القليل سيكفر الناس بالديانات الوثنية كلها، وبكل دين يناقض فى أصوله العقل ويصادم منطقه، وأدلته، ووسائله...!

من أجل ذلك نحن واثقون من نهاية الصليبية.

وموقنون بأن اطراد الرقى العلمى سينسخ ظلالها، ويقطع حبالها، ويلحقها بغيرها من النحل التى تخلص العالم منها لأنه يحترم نفسه.

إن الصراع سيبقى بين نقيضين.

الإيمان بالإله الواحد المنزه عن أوهام التجسد وما يتبعها.

والإلحاد المعطل للألوهية، النافى لأصل وجودها!! إيمان بالله الفرد الصمد، أو كفر به..
هذا هو ميدان النزاع الحقيقى.

أما محاولة الصلح مع العقل على أساس إقناعه بأن الآلهة الثلاثة إله واحد، أو محاولة الصلح معه على أساس أن السلوك الإنسانى من الأزل إلى الأبد قد تحمل أوزاره قربان مصلوب، فدون ذلك أبعاد لا تقطع، وصعوبات لا تذلل..!!

والرجال الذين يؤمنون بالله ويحترمون الدين، فى أوروبا وأمريكا وغيرها، يقيمون عقائدهم على جملة من أصول الفطرة التى أدركوها بمواهبهم الخاصة، واستراحت إليها عقولهم الحصيفة.

ومن الافتراء الزعم بأنهم نصارى حقيقيون، يصدقون بالثالوث والفداء.

ولست أقول هذا من عند نفسى، ولكنى أنقل للقارئ فقرات من كتاب "العودة إلى الإيمان " الذى ألفه الدكتور " هنرى لنك " وترجمة السيد ثروت عكاشة وزير الإرشاد.

والدكتور هنرى يقول: إنه كان ملحدا ثم آمن.

ومن حقنا أن نتساءل: ما الذى ألحد فيه هذا الرجل أولا.؟

وما هو الإيمان الذى عاد إليه أخيرا.

فلنسمع إلى الدكتور " هنرى لنك " يحدثنا عن نفسه فيقول: " اشتهرت الكلية التى انتسبت إليها بأن 85% من خريجيها يلتحقون عادة بالوظائف الدينية! ولقد لمست فيها شدة النشاط الديني وعنفه.

ولكنى لما كنت شغوفا بالعلم، والمعرفة، والبحث عن الحقيقة شعرت بأن الجو العقلى السائد فيها خانق.

وزاد الطين بله انتشار فضيحة العلاقة الغرامية بين عميد الكلية ورئيسة الراهبات، فإن هذه القصة أججت كثيرا من الشكوك التى كانت تنتاب ذهنى المكدود...!

فالتحقت فى السنة التالية بكلية أخرى من كبريات الكليات فى شرق أمريكا حيث بدأت أدرس تاريخ الفلسفة والتربية الدينية، أما تاريخ الفلسفة فهو يصور تحرر العقل البشرى من الخرافات والأوهام الدينية المضللة.

وقد لازم ميدان العلوم وظهورها ونماءها استشهاد تلك الجمهرة من العلماء الذين اجترأوا فتطاولوا على الكنيسة مسفهين عقائدها.

وقامت الدراسة ـ فى هذه الكلية ـ على تمجيد طريقة ربط الأسباب بالمسببات، فكل حادث ما هو إلا حلقة من سلسلة هذه الأسباب والمسببات التى لا تنقطع.

وذلك عكس الميل السائد لدى كبار رجال الكنيسة الأولين أمثال "ترتوليان " الذى قال: لابد لى من الإيمان بتعاليم الكنيسة رغم سخافتها.

قال: لذلك كان هذا الشوط من الدراسة أمتع وأبهر ما تلقيت، وأعظم المراحل تأثيرا علىّ...!

وكان فيه الجواب الكامل عن الشكوك الدينية المختلفة التى ساورتنى من قبل، ولم أهتد إلى حل لها يقنعنى.

فخرجت من ذلك كله باحترام عميق لقانون التسبب، ولمكتشفات العلم الحديث!!! أما عقيدتى الدينية فقد هوت لما لم تجد ما تستند عليه، ولما لم تصادف من يتلقفها...!

وفي العام الدراسى نفسه درسنا التربية الدينية، وكانت هذه الدراسة عرضا تاريخيا للتطور الذي حل بالكتاب المقدس، فعرفنا الطريقة الفاسدة التى أكتمل بها هذا الكتاب..!!

ولمسنا فى الأسفار التى درسناها الدلائل القاطعة على أن رجال الدين، الواحد تلو الآخر، أخذوا يعبثون بهذا الكتاب، ويعيدون كتابة بعض أجزائه مضيفين إليها ما يعن لهم.

ولذلك قسمت محتويات العهد الجديد إلى ثلاثة أقسام متساوية.

تلك المقطوع بصدقها، أى التى جاءت على لسان المسيح.
وتلك المشكوك فيها.
وتلك التى زيفت على مر الأيام.

فكانت هذه الدرإسة ـ التى جعلت كل ما سبق أن اعتنقته من مبادئ الكتاب المقدس يبدو صبيانيا أمام نظرى ـ كانت خير مثل لما يسمونه وقتئذ "النقد العالى".

قال: ولما تخرجت فى هذه الجامعة بعد أن نلت شهادة فى " بيتا كابا " كنت ملحدا عنيفا، ومقتنعا كل الاقتناع بإلحادي، ومستعدا لإقناع غيرى به.

وهكذا فى العشرين سنة التالية كنت أبالغ فى احتقار التعاليم الكنسية، وأومن بأن الدين هو ملجأ العقول الخاملة ".

هكذا حكى لنا الدكتور " هنرى لنك " نبأ كفره بالدين وسر تحوله عنه.

إن عقله لم يسع النقائض التى حواها، ولا ازدراد الأباطيل التى انضافت إليه على مر القرون..

وسلك الرجل طريقه فى الحياة على النحو الذى تراءى له.

إلا أن فكره النير لم يرض عن المصير الذى انتهى إليه.

بل لعله أخذ يحس أن ذلك ليس نهاية المطاف..

فإن حياة كثير من الملحدين تتضمن من الأوساخ والأقذاء ما يثير النفس.

وموقفهم الواهن من مشكلات الدنيا يستدعى النظر العميق.

ومن ثم حكم الدكتور الذكى بقيمة الإيمان الفردية والاجتماعية، بعدما تأمل فى حياة المجتمع الصاخب اللاغب الذى عاش فيه، واستخلص من إحصاء المترددين على عيادته النفسية هذه النتيجة، وهى " أن كل من يعتنق دينا، أو يتردد على بيت عبادة، يتمتع بشخصية أقوى وأفضل ممن لا دين له، ولا يزاول أية عبادة "..!!

لكن ماذا تعنى هذه النتيجة؟ أتراها صالحة لرد رجل شاك إلى حظيرة الدين الذى خرج عليه؟ إن التدين، حقا كان أو باطلا، قد يهب لأصحابه راحة نفسية، وقد يزودهم بطاقة روحية تشد أزرهم أمام المآسى والصعاب..

بيد أن شيئا من ذلك كله لا يحمل الرجل العاقل فى الغرب على اعتناق كثير من الأفكار الدينية المتوارثة هناك، إذ يجزم من أغوار فؤاده باستحالتها..

ولذلك أخذ الدكتور المتعطش عن الإيمان يكون لنفسه مجموعة من المبادئ الدينية التى تتفق مع العقل، وإن خالفت الكنيسة ومواريثها...!

واسمع إليه يقول: " لم تكن رجعتى إلى الدين رجعة الضال الذى اهتدى إلى دين صائب.
أعنى أن هذه الرجعة لم تصاحب شعورا متوقدا، أو نعرة عاطفية.

لقد كانت رجعة عن طريق العقل فحسب لسوء الحظ "!! فما هى هذه الرجعة العقلية التى وصفها الدكتور بكلماته السابقة؟ يقول: " إن فكرتى عن الدين تتضمن بضعة معتقدات لا تؤيدها مذاهب دينية معينة ـ طبعا من التى يعرفون فى أمريكا ـ.
وتنبذ بعض الآراء التى تعدها مذاهب أخرى أمرا جوهريا..
إذن فما هو الدين....!؟ ".

كذلك يتساءل الدكتور "هنرى لنك "، ثم يتولى الإجابة بنفسه على سؤاله فيقول: " الدين هو الإيمان بوجود قوة ما تعتبر مصدرا للحياة، هذه القوة هى قوة الله مدبر الكون وخالق السموات.

الدين هو الاقتناع بالدستور الخلقى السماوى الذى سنه الله فى كتبه المتعاقبة.

إن التعاليم الإلهية أثمن كنز تغترف منه الحقائق الدينية.

وهى أسمى فى مرماها من جميع العلوم الإنسانية ".

لكن هل هذا التصور للدين يتفق مع أحاديث رجال الكنيسة؟ إنه تصور فطرى بسيط اهتدى إليه الرجل دون تكلف ولا افتعال، وهو يغاير المعروف من سدنة المسيحية القائلين بالتثليث، والصلب، والفداء.
ومع ذلك فهو يذهب إلى الكنيسة!! لماذا؟ يقول " أذهب لأنى قد أخالف الواعظ فى رأيه، بيد أنى أرغم نفسى على الإصغاء إلى موعظته..!!
وبعض الخاصة من أصدقائى الذين يحيطون علما بدقائق حياتى يعتبروننى مرائيا، لأننى لا أصدق بمبادئ هذه الكنيسة أو غيرها ثم أتردد عليها.
ولكن أذهب لأنى مؤمن تماما أن ذهابى سيفيد "..!!
ويقول: لقد صارحنى عدد جم من الناس قائلين: لا تظننا نشك فى وجود الخالق، بل نحن نؤمن به، وبقدرته جل وعلا..
لكنه إيمان من نوع جديد، لم يأت عن طريق ترديد الخلف أقوال السلف، فكلنا يمقت الكنيسة ويتجنبها لما تثيره فينا نظرياتها ومبادئها ورجالها من النفور والاشمئزاز...!
وكنت أومئ برأسى علامة الموافقة على هذه الاعترافات، لأنها تؤيد مبادئي تأييدا تاما، وتبرر نفورى من الكنيسة...! ".
ولكن الدكتور لم ين عن نصح زواره من طلاب العافية النفسية بالتردد على الكنائس المختلفة، وحضور الصلوات ويبدو ذلك جليا فى كتابه...!
ما معنى هذا الكلام إذن؟ وما تفسير المسلك الغريب الذى يصحبه؟ والجواب: إن الدكتور " هنرى لنك " لم يتحول قيد أنملة عن الإلحاد الذى تشبث بأفكاره ومشاعره صدر شبابه.
لقد كفر بأصول الديانة التى وقع عليها بصره، أو التى لم تعرف بصيرته سواها.
وظل- إلى أن أصدر كتابه هذا- كافرا بأقانيمها، وقرابينها وأناجيلها، ولم ينشرح صدره إلا بمبادئ دينية استكشفتها فطرته، واستراحت إليها فكرته.
خلاصتها أن للعالم إلها واحدا هو الذى يخلق ويدبر، وأن الصحائف التى تكون منها العهد الجديد فيها حق يرضيه، وفيها باطل يهمله.
وأن ما يقوله الكهنة فى المعابد التى أقاموها ـ غير هذا ـ لا قيمة له.
والحق أننا مع الدكتور فى حالتيه، نؤيده فيما كفر به، ونؤيده فيما آمن به..
لأن الرجل يلتقى مع الإسلام فى كل المبادئ التى يحن إليها...!
(قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم).
أما وصاياه لمرضاه بالذهاب إلى معابدهم، فلا تفسير لها إلا أنه يرتكب أخف الضررين.
فلك أن المجتمع الأمريكى قد تملكه مس من فراغ القلب، وسطوة المادة وعربدة الغرائز...!!!
وتدبر وصفه لحال بلاده إبان الحرب العالمية الأخيرة إذ يقول: " بينما العالم كله يتلظى بجحيم هذا الأتون الملتهب كانت الولايات المتحدة تعانى الكثير من الإضرابات، وحرب الطبقات، والصراع الدنئ للوصول إلى الحكم، كما كانت تعانى الكثير من تفكك عرى الأسرة، وانفصام روابط الزوجية، وازدياد حوادث الطلاق التى سجلتها المحاكم.
فكيف تعالج هذه المآسى؟ وما يصنع الدكتور النفسى بازائها؟ لابد من دين ما، تسكن إليه هذه الأفئدة الوجلة، وتتعلق الجماهير ببشارته وإنذاراته..
لا يهم نوع هذا الدين: ولا القضايا التى يقوم عليها.
يقول: كثيرا ما كنت أحث مرضاى من الكاثوليك أن يكونوا أشد كثلكة ـ مع أنه بروستانتى ـ! كما كنت أشجع مرضاى من غير المسيحيين أن يترددوا على معابدهم ومنشآتهم الدينية...!
وذلك على أساس مطالب الأفراد وضرورة استخدام الوسائل الممكنة ـ فى علاجها.
ووضح من هذا الكلام أن الرجل ـ احتفظ لنفسه بإيمانه الخاص ـ وأنه يستغل عاطفة التدين مهما كانت طبيعتها فى معالجة الآثار المدمرة للحضارة المادية.
ولا عليه أن يدفع أصحاب العقائد المتناقضة كلا فى طريقه حسب وجهته.
غير أنه اجتهد فى تزويدهم بجملة نصائح سنعرفها ـ بعد ـ تيسر لهم الشفاء من العلل التى يرزحون تحتها...!!
وأجدنى مسوقا هنا للكلام عن دين الفطرة، الدين الذى التمسه الرجل ولم يعرفه...!
اننى ما تتبعت كلمات رجل لامع الفكر من علماء الغرب ورؤسائه إلا رأيت عليها مسحة من الحق تفقد عنوانها الدين المعروف عندنا وحدنا، وتتفق بعد ذلك مع جوهره!! إن سلامة القلب ونقاوة الطبيعة تبدوان فى عبارات جم غفير من الأطباء والمهندسين والكيماويين والفلكيين، وأضرابهم من الراسخين فى علوم الكون والحياة الذين يهتفون جميعا بأن هذا العالم الفسيح الأرجاء، من ورائه قوة كبرى، تشرف عليه، وتضبط نظمه 000 هى قوة الإله الأكبر الذى يحسون آثاره، ويعجزون عن إدراك كنهه..
أنستثنى العلماء الحمر من هذا القول؟!
لقد نشرت صحيفة الجمهورية فى أكتوبر سنة 1959 تصريحا لعصابة منهم جاء فيه: إن الكواكب تسيرها قوة حكيمة ..
ولست ممن يعولون على التصريحات المرتجلة فى مثل هذا الموضوع.
ولكنى أعذر الذين يكفرون بالأقانيم والقرابين وكل تدين منحرف، ثم لا يجدون ينبوعا من اليقين الخالص يروى ظمأهم إلى الحق، فهم يتحسسون الطريق نحو الإيمان بالله الواحد فى جو موحش.
حسبهم أن يعرفوا أن الله من ورائهم محيط، وأنه على كل شئ قدير، وأنه ينزل الأشياء بقدر معلوم..
الخ.
وبديهى أن تكون فكرتهم عن الحساب الأخروى غامضة، وعن حقوق هذا الإله المفصلة المرتبة أشد غموضا.
فأنى لهم العلم بها؟ ولكنهم ـ بهذا القدر ـ أقرب إلى الإسلام منهم إلى أى دين آخر! إن إعظامهم لهذا الإله ينحصر فى تقديرهم القلبى له وكفى! وجمهرة الرواد والمخترعين والباحثين العالميين من هذا القبيل.
وفى بيئتهم ارتقى العلم، واتسعت الكشوف...!
وكأن الله عز وجل رآهم أسلم فطرة من غيرهم، فهداهم إلى ما لم يهد إليه ورثة الدين من ذوى العمائم البيض أو السود!! لقد عايشت هؤلاء الورثة، واقتربت من نفوسهم فوجدت الدين الحق أبعد شئ عنها.
وإذا كان الدين فطرة مستقيمة لا معوجة، وفكرة ميسرة لا معسرة، فحظوظ هؤلاء من الدين لا تساوى شيئا، وهمهمتهم فى المعابد لا تغنى عنهم فتيلا...!
وأدنى منهم إلى القبول الإلهى رجال مفعمة قلوبهم إعزازا لخالق الكون.
وإن لم يحسنوا ترجمة هذا الإعزاز إلى ألفاظ التكبير والتسبيح والتحميد، ولا إلى مراسم العبادة المقررة...!!!!
جاء فى محاضرة ألقاها الأستاذ السيد أبو المجد بقاعة الأزهر هذا النص اللطيف "حسبنا أن نستمع إلى ما قرره أكبر باحث علمى فى العصر الحديث ـ وهو العلامة "أينشتاين " ـ حيث يقول: " إن أعظم جائشة من جائشات النفس وأجملها، تلك التى تستشعرها النفس عند الوقوف فى روعة أمام هذا الخفاء السارى فى الكون، والإظلام المكتنف لمادته...!!!
إن الذى لا تجيش نفسه لهذا أو لا تتحرك عاطفته، ليس إلا حيا مثل ميت...!!
إن فى الكون خفاء لا نستطيع أن نشق حجبه، وإظلاما لا نستطيع أن نطلع فجره...!!
ومع هذا فنحن ندرك أن وراءهما شيئا هو الحكمة أحكم ما تكون، ونحس أن وراءهما شيئا هو الجمال أجمل ما يكون...!
حكمة وجمال لا تستطيع عقولنا القاصرة أن تدركهما إلا فى صور ساذجة أولية.
وإدراكنا وإحساسنا ـ نحن البشر ـ بهذا الجمال الرائع هو جوهر التعبد عند الخلائق.
ثم يقول: إن الشعور الدينى الذى يجده الباحث فى الكون هو أقوى وأنبل حافز على البحث العلمى...!
ويقول: إن دينى هو إعجابى بتلك الروح السامية التى لا حد لها، والتى تتراءى فى التفاصيل الصغيرة القليلة التى تستطيع إدراكها عقولنا الضعيفة العاجزة.
وهو إيمانى العاطفى العميق بوجود قدرة عاقلة مهيمنة تبدو حيث ما نظرنا فى هذا الكون المعجز للأفهام.
إن هذا الإيمان يؤلف عندى معنى الله ".
هذا أيها السادة هو إيمان أكبر عالم عصرى كشف بعض أسرار الكون الغامضة، فاهتدى عن طريقها إلى الله...!
إن العلم فى أعمق أبحاثه، وأن الفلسفة فى أسمى موضوعاتها، ليتلاقيان فى وئام وإنسجام بالدين الخالد الكامل.
دين الإسلام.
دين الوحدانية الخالصة واليقين المعقول، وصدق الله العظيم (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
إن الدين الحق ضاع بين جبهتين كبيرتين تزحمان العالم.
الجبهة الإسلامية التى مرغت حقائق الفطرة فى الوحل، ولم تحسن بناء مجتمع إنسانى راشد على ضوئها.
والجبهة المسيحية التى تملك جهازا كنسيا متشعب الأطراف يعد أشد القوى إذاعة للخرافات، وتغطية للآثام، ومحاربة للإيمان الصادق..
ولن يصلح هذا العالم إلا إذا التأم واقعه مع منطق الفطرة، وانسجم سيره مع صوتها الرقيق.
أى يوم يفقه العلماء الماديون الإسلام، فيؤمنون بالله لفورهم.
الإيمان الكامل الواضح؟.
أو يوم ينصف المسلمون الدين الذى ظلموه، وآذوا الله ورسوله بسوء الخلافة فيه، والتعكير لصفوه، والتنفير منه...!؟
ونتناول مرة أخرى كتاب " العودة إلى الإيمان " لا للتنويه بأن صاحبه اهتدى إلى أجزاء من فطرة الإسلام، بل لشرح الخلاصات النفسية والفكرية التى قدمها للأمريكيين، فإن ذكرها يهزنا نحن المسلمين..!!
ذلك أن تلك الخلاصات تنطبق انطباقا مدهشا على التعاليم المفصلة فى الإسلام...!
وتدل دلالة تامة على الصلاحية المطلقة التى جعلت هذا الدين خالدا على الزمان، وعاما لكل الأجناس...!!!
فى الفصل الثانى من هذا الكتاب جواب مستفيض عن سؤال صغير: لماذا أتردد على المعبد؟ ومحور الإجابة أن المرء الذى يعيش لنفسه يفقد كل شئ، وأن الذى يعيش لربه يجد كل شئ، أو بتعبير إنجيل " متى ": " من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلى يجدها ".
ثم يشرع الدكتور " هنرى لنك " بسرد القضايا التى لمسها فى صميم المجتمع مصدقة لهذه الحقيقة الدينية، ومدى الظلام الذى تخربه طباع الأثرة على حاضر الناس ومستقبلهم...!
ويستنتج من إحصاءات واعية مدققة أن الذين يحيون فى محيط " أنا " يجرون المتاعب على أنفسهم وعلى غيرهم.
ثم يقول: " إنى لأعتقد أن أهم مكتشفات علم النفس الحديث ما أثبته ـ بمنطق العلم ـ أن سعادة الإنسان، وقدرته على إدراك كنه نفسه لن تتأتيا بغير تضحية النفس فى سبيل الغير، وتعويد المرء نفسه الخضوع لنظم خاصة ".
وهذا الغير بداهة، ليس بشرا آخر يريد استبعاد الآخرين له...!
هذا الغير هو الموجود الأعلى الذى عرفنا الدين به، وأمرنا أن نكرس الحياة له، ووعدنا إذا أردناه ـ بفكرنا وعملنا ـ أن يهبنا الخير كله...!
التضحية بمآرب النفس، ونزعات الهوى من أجله، اتباعا لأمره والتزاما لصراطه، هو طريق النفع الصحيح.
وانظر أسلوب التضحية الذى يذكره الدكتور الأمريكى...!
قال: " أخذت أحث غيرى من وقت لآخر على الذهاب إلى الكنيسة، ووجدت نفسى أنا الآخر مواظبا على التردد عليها.. ".
لماذا؟ يقول: الحقيقة أنى أذهب لأدرب نفسى على التضحية بما تهواه، وقبول ما تبغضه، فذهابى يرحمنى من نوم لذيذ صحوات أيام الآحاد..
هى الفرصة التى تسنح لى كى أستمتع برقاد طويل...! إلخ ".
أرأيت ما هو النظام الذى يخضع المرء له لكى يحيا لربه؟ أرأيت فى هذا النظام البداية الأولى للكلمة المروية عن إنجيل " متى ": "من أضاع حياته من أجلى يجدها "؟ أأشرق على فؤادك شعاع من نظام الإسلام المحكم فى هذا المجال؟ النظام الذى لم يبهت بعد فى مجتمعنا المعنى برغم جهود الفسقة والملحدين.
النظام الذى يربطك بالله من الفجر إلى العشاء، فى حلقات موقوتة من العبادة التى تصلك بالمسجد أبدا وتردك إلى مولاك؟ إن هذا النظام ليس إضاعة للحياة ولا بعثرة للوقت!! إنه الطريق الوحيد لتجد حياتك، وتنجو من سجن الأثرة وشقاء الأنانية.
أجل..
إن الإسلام يزحمك بالواجبات ( و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و من آناء الليل فسبح و أطراف النهار لعلك ترضى).
وإذا كان الدكتور " لنك " يغرى قومه بالذهاب إلى المعابد بالأسلوب الذى قرأت، فاسمع ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فى حث المسلمين على الذهاب إلى المساجد " بشر المشائين إلى المساجد فى الظلم بالنور التام يوم القيامة ".
إسباغ الوضوء فى المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة تغسل الخطايا غسلا ".
" الغدو والرواح إلى المساجد من الجهاد فى سبيل الله ".
وإذا كان الدكتور الأمريكى يحدثنا كيف ضحى بلذة الرقاد فى سبيل حضور الصلاة، فلنسمع الحديث نفسه بلغة النبوة: " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل، فارقد...!!
فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة.
فإن توضأ انحلت عقدة.
فإن صلى انحلت عقده كلها...!
فأصبح نشيطا طيب النفس.
وإلا أصبح خبيث النفس كسلان .. ".
وبعض الناس يتساءل: ما هذا؟ يقظة تتبع يقظة، وصلاة تعقب صلاة، وصيام وزكاة، وجهاد وبذل، وكفاح وصبر!! ما الذى يبقى للمرء بعد ذلك لنفسه؟ لقد ضاعت حياته كلها من أجل الله، وتكاليفه، فماذا بقى له؟؟ وهذا التساؤل يزداد طبعا عندما يلمح خطوط الحياة الجادة التى يرسمها الدين مثل (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم).
(من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ) ونحن نسارع إلى طمأنة المرء على نفسه، ومصالحه، وحاضره الذى يحبه.
فإن قصد الله أقصر طريق إلى تأمين النفس...!
والعمل له أضمن وسيلة لتحقيق رغائبها.
قال عز وجل: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) .
(لئن شكرتم لأزيدنكم).
(إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).
(ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم).
والدكتور " هنرى لنك " يريد أن يعرف قومه هذه الحقيقة فينقل لهم من إنجيل "متى " هذه الكلمات: " ومن أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلى يجدها ".
ودعك من الإطار الذى وضع فيه هذا المعنى فإن الترجمة قد تجعله ركيكا أو منفرا.
لكن المعنى صحيح، ولفظه في القرآن دقيق ورائع.
ثم تدبر قوله تعالى: (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة).
إن ابتغاء " وجه الله " هنا، أو كلمة " من أجلى " التى نقلت عن متى...!
لها دلالات شتى: يقول صاحب كتاب العودة إلى الإيمان: إن كلمتى " من أجلى " الواردتين فى الآية السابقة لهما معنى ومغزى خاص.
فهما من الوجهة النفسية الخالصة يمثلان مجموعة من القيم الأخر الأثيرة لدى الفرد العادى حتى لتكاد تجرفها وتسد مسدها.
نعم..
قد تكون رغبتنا الخاصة هى عمل كذا وكذا، وإذا نحن نصادف دستورا ساميا، أو مثلا أعلى، أو عقيدة نبيلة، فيدفعنا هذا إلى التضحية برغبتنا، وإلى ولوج مسلك أقل إمتاعا وأشد وعورة.

ويقول: " الإنسان بطبعه أنانى وراء دوافعه المباشرة، وقد أثبت اختبار الصفات الشخصية كما أثبتت التجارب الطبية لرجال علم النفس أن الاتجاه فى هذا الطريق يؤدى إلى انكماش الشخصية واضطراب العواطف، والى العصاب والتخبط الفكرى، وإلى الشقاء وسوء النظام، وأنه لا غنى للمرء عن الدين ـ أو ما يقوم مقامه! ـ على أن يسمو هذا البديل عن مستوى الفرد والجماعة ليستطيع قهر الدوافع الأنانية وقمعها فى الإنسان العادى، أو ليستطيع قيادته نحو حياة أكثر خصبا وأوفر متعة...!
نعم..
لا أنكر أن ثمة حوافز أخرى غير الدين قد تطبع المرء بطابعها، وتجعله يضحى بسعادته التى يرفل فيها فى سبيل غرض رفيع.
ولكنك لن تجد إلا الدين وحده هو الذى يضم بين طياته جملة المبادئ التى تصلح أساسا منطقيا للحياة الهانئة المقبولة ".

ومن حقى أن أقول: إن الإسلام هو الدين الفذ الذى شرح بإسهاب جميع المبادئ التى تصارع أهواء النفس، وترد غوائلها وأن آيات القرآن وأحاديث الرسول فى هذا المعنى تكون ثروة إنسانية طائلة..

وأنها من الوفرة بحيث تعجز الشهوات مهما طفحت عن اختراقها، كما تعجز مياه الفيضان مهما علت عن اجتياز السدود السامقة المنيعة..

ثم إن الإسلام شرع للحياة الفردية والاجتماعية من الفرائض والنوافل، ورسم لها من المعالم والغايات، وحظر عليها من الأمور والتصرفات ما يخلع الإنسان خلعا من أنانيته، ويزجه زجا فى نطاق حياة أملا بالإخلاص لله والتفانى فى مرضاته والاستعداد لملاقاته...!
والجهلة من الناس يظنون هذه التعاليم الكثيرة مشغلة عن شئون الحياة، وعائقا عن تقدم العمران فيها..

وهذا ظن مستغرب! فهل إذا قيل لامرئ: اجعل هدفك من حياتك مرضاة ربك..
كان ذلك دمارا للحياة؟ هل إذا قيل لامرئ: اقهر بواعث الأثرة الصغيرة وتجرد من أثقالها كان ذلك تعطيلا للعمران؟ إن بعض الناس يريد هذا...!
والغباء فى فهم الدين قديم.

كلما عاب الله على الناس أن يعبدوا ذواتهم، ويستغرقوا فى طلب العاجلة، جاء من يفهم من هذا التوجيه أن الله يريد تخريب الدنيا ونسيان النفس!

الحق أن المرء لا يصلح إلها صغيرا على هذا الثرى يفعل ما يشاء ويدع ما يشاء..
بل أصلح شئ له أن يكون تابعا لإله الأرض والسماء، يتجه إليه، ويهتدى بوحيه.

إن هذه التبعية، أو بالتعبير الشرعى هذه العبودية تنظم حياته، وتصون يومه وغده، وتجعل سعادته المنشودة ثمرة محققة لسيره وفق أوامر الله جل شأنه..

ثم هى أحسن أسلوب لاستثارة قواه، واستخراج خيره، كما تستثار الأرض الخصبة (أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير).

إننى أشعر بسرور غامر عندما أرى نتاج في العقل الإنسانى المجرد يلتقى مع معالم الوحى الإلهى، وتعاليم الدين الحنيف.

وليس ذلك فقط عند إثبات الألوهية، ودعم أصول الإيمان.

بل عند التلاقى فى وصف الطريق إلى الكمال، وسرد خطواته الصائبة.

إن الإنسان يولد فردا، ضعيف القوى، صفر المعرفة، غفل المشاعر، ثم ينمو رويدا حتى يبلغ أشده، إن قدر له عمر وطال به الأجل.

واكتمال كيانه المادى، مثل لاكتمال كيانه المعنوى: إن هو أراد مراتب العلا، وسعى لها سعيها.

لن يحرز المجد دفعة واحدة ولن ينال ما يبغى بعد شوط قصير..

إن إدراك الكمال الإنسانى يشبه بلوغ الكمال الفنى فى أى موضوع..
لابد أن يمر "بمسودات" كثيرة، ونماذج متفاوتة.

ومعنى هذا أنه لابد من أخطاء تقع، ثم يلحقها التصحيح، والتقويم، حتى يمكن إفراغها فى قالب أفضل.

وعندما توضع فى القالب الجديد، ستبدو بها هنات، أو ينكشف عوج لم يكن ملحوظا من قبل، فيراد تصحيحها وتقويمها.

وعندما يظن أن نصيبها من التجويد قد تم، ينكشف من آفاق الكمال ما يجعلها بحاجة إلى مزيد من التحسين..

وهكذا...!

تظل نفس الإنسان موضوع عنايته ما بقى حيا ينشد الحق ويستزيد من الخير والرفعة..
أى أن التربية والتهذيب هما الطريق الوحيد للتقدم والسمو.

ولن يستريح أحد من عبء هذه المجاهدة ولا ما تستتبعه من وقوع الخطأ، والفرار منه.
وربما أفاد المرء دربة بحفر الطريق، ومساوئه، ومتاهاته من طول ما يعانى فى سبيل الحق.

بل إن أبصر الناس بالحياة، وأعرفهم بأهلها أولئك الذين تمرسوا بصعابها، وتعرضوا لأهوالها، وعثروا وقاموا، وفشلوا ونجحوا، وسالموا وخاصموا...!

ووصلوا إلى النهاية بعد خبرة عميقة بأسباب الصعود والانحدار..!!

إن الشيطان نفسه يخشى هؤلاء، وذلك معنى الأثر الوارد فى فضل عمر بن الخطاب: " لو سلك عمر فجا لسلك الشيطان فجا آخر "! ولأنقل هنا كلمات فى شرح الشخصية الإنسانية كتبها الدكتور " هنرى لنك " موضحا أفضل الطرق لبلوغ الكمال قال: " تخبط الناس كثيرا فى استعمالهم لكلمتى منطو ومنبسط.

والواقع أن كليهما مقياس للأنانية، أعنى الأنانية المتطرفة فى حالة الانطواء، والأنانية البسيطة فى حالة الانبساط، فالمنطوى أو الأنانى يتحاشى مقابلة الناس، أما المنبسط فيذهب بنفسه لمقابلتهم والتعرف عليهم.

المنطوى أو الفردى يتهرب من تكاليف الجماعات والأندية ومطالبها.

أما المنبسط الاجتماعى فيتقبلها بصدر رحب، وقد يفكر المنطوى فى اتيان عمل طيب لكن المنبسط يأتيه بالفعل.

ولا يجد الأول الوقت متسعا لعمل ما لا يحب، ولكن الثانى يلتمس الدقائق الخيالية ليقوم به.
ويخشى الشخص الفردى ارتكاب الأخطاء، وبالتالى يفزع من إرباك نفسه فلا يقدم على أية مجازفة، ولكن الاجتماعى- ولو أنه يخشى الخطأ أيضا- إلا أنه يعمل ويثابر فيخطئ فيتعلم ويقاسى، ثم يكسب أخيرا المهارة فيما مارسه وتتولد فيه الثقة بالنفس.

وكثيرا ما كنت أقول لمرضاى: إن الأفضل أن يرتكبوا سبعة أخطاء بدل أن يرتكبوا خطأ واحدا.
فبينما يتردد الرجل الفردى قبل أن يمضى فى مشروع ما لشدة شعوره بنقصه تجد الآخر غير مبال بارتكاب الأخطاء لأنه يوقن أنه لن يصل إلى المجد والعظمة من غير هذا الطريق....! ".

والانطواء والانبساط عادتان واقعتان تحت سيطرة المرء بلا شك ـ كما يرى الدكتور ـ ولذلك فكل إنسان مسئول عن الطريقة التى يتبعها للتسامى بنفسه على مر الأيام.
وهى طريقة قوامها التمرين، والجهاد، والعمل، والمصابرة...!

وفى التفكير الإسلامى نظرتان بعيدتان عن الحق فيما يتصل بالخطأ والصواب،أو النقص والكمال، أو الطاعة والمعصية .

نظرة تعتبر الخطيئة كفرا بالله، وزيغا عن الحق، وتبلغ فى التنويه بالواجبات المقررة حد التطبيق السطحى لقول الله: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا).
ونظرة تستهين بالكمال المنشود والأخطاء المقترفة، وتقول: (إن الله يغفر الذنوب جميعا).
كلتا النظرتين بعيدة عن الحق والواقع.

فلا المرء تنقطع حباله بالرشد لخطأ تورط فيه...!
ولا السعى إلى الكمال يسقط عنه من أجل ذلك...!

الخطة المثلى التى احترمها علماء الإسلام، وساندها التحقيق العلمى أن البشرية تصل إلى مثلها العليا عن طريق تصحيح الخطأ ـ بتعبير علماء النفس ـ أو عن طريقة التوبة المستمرة من كل مخالفة ـ بتعبير علماء الدين ـ.

اعمل وقل: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين).
اعمل وقل: (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهييء لنا من أمرنا رشدا).

امض حيث الخطو نحو هدفك، ومهما أخطأت فتشبث بالحزم، واستأنف المسير...!

الكمال أن تسعى لبلوغ الكمال ما بقى فى صدرك نفس يتردد! والسقوط فى الدنيا والآخرة أن تحتجب عن ناظريك المثل الرفيعة، وأن يستولى عليك الإياس والخمول، فتقف وتستكين...!
البطالة رجس من عمل الشيطان...!

وإن الله ليبارك للمخلصين فى جهدهم ولو كان خطأ...!

فلنعمل فى إصرار ولنثق فى قول الحق: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).

ذلك، والفواصل بين العمل الدينى والعمل المدنى اصطلاحية تتصل بالمظهر لا بالجوهر.
وإلا فأي سلوك إنسانى تقارنه النية الخالصة فهو دين..

وكل عمل عبادى تقارنه النية الرديئة فهو رذيلة.

وعلى الإنسان أن يحدد غايته، ويرسم طريقته، ويمضى فى سبيله لا يلوى على شئ، حتى ينتهى عهده بهذه الحياة، ليبدأ عند الله حياة أزكى وأسمى...!

وباب المقارنة واسع جدا بين الإسلام الحنيف، وبين مقررات الفطرة السليمة كما دونها الرجال الأصفياء من علماء الغرب..

عقيدة التوحيد هى عقيدتهم، ومبادئ الفضيلة، وأصول الأدب هى مناهجهم...!

لقد وصلوا تقريبا إلى جملة الحقائق التى يصل إليها الذكاء الإنسانى المستقيم، ووقفوا عند الأمور التى لا تستقى إلا من الوحى الأعلى.

غير أن القطيعة قائمة بين السبيل التى يسير فيها العالم، وآمال الحق والخير التى رسمها هؤلاء.

وستظل هذه القطيعة قائمة ما بقى العلم الإنسانى القوى لا دين له، والدين الإلهى الضعيف لا علم معه!!! أو ما بقيت المتناقضات التى لخصها " جبران " فى هذه الكلمة " للناس رجلان، رجل نام فى النور، ورجل استيقظ فى الظلام ".

ولست أدرى أيهتدى العالم إلى الإسلام، فيزكو به ويأمن؟ أم يتجهم له، فيظل صريع القلق، مهددا بين الحين والحين بالدمار والويلات؟ صحيح أن هذا الدين فى فترة انهزام من تاريخه، ولكن كم دخل الناس فيه وهو على هذه الحال! إن التتار الذى هدموا حضارته، وقوضوا مدائنه، وطووا خلافته..

هم الذين اعتنقوه بعد ذلك ودافعوا عنه...!

لقد ضعف فى الأعصار الأخيرة حقا، وتقدمت ديانات أخرى لتؤدى رسالته وتقوم بوظيفته، فظهر عجزها، وانكشف عوارها، ولم تر فيها الفطرة الإنسانية ما يغنى، ولا يقنع، فانطلقت تسير وحدها، نافرة من هذه الأديان الملفقة التى تريد أن تصبحها.

ترى: أتهتدى الفطرة المتوحشة فى الغرب إلى الإسلام المستضعف فى الشرق مدفوعة بوحدة التفكير والغاية؟ أم يصدها عنه ما عرا هذا الدين من هوان أتباعه، وحيفهم عليه، وتقصيرهم فيه؟؟ إنها ـ على أية حال ـ لن تجد غيره، طال المدى أم قصر..!!

----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالي
#الإسلام_والطاقات_المعطلة
كلمة حرة
نشر في 06 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع