Facebook Pixel
التعصب الذهني
1560 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

للرأى الفقهى مكانته العلمية، ولمن شاء أن يأخذ به، وأن يدعو إليه غيره بمسمى التعصب المذهبي من كتاب دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين للكاتب محمد الغزالي

كتاب : دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 9 ] : التعصب المذهبى

للرأى الفقهى مكانته العلمية ، ولمن شاء أن يأخذ به ، وأن يدعو إليه غيره.. ونحن قد نؤثر رأيا على رأى لأن اقتناعنا بهذا أكثر من اقتناعنا بذاك ، أو لأن هذا الرأى أدنى إلى تحقيق المصلحة العامة ، وأرفق بعباد الله.

والشىء الذى نرفضه ويرفضه جمهور العقلاء أن يحسب أحد الناس أن رأيه دين ، وأن ما عداه ليس بدين ، وأن يجمد على ما عنده جمودا قد يضر بالإسلام كله ويصدع وحدته.

وتنفيرا من هذا المسلك نقرأ قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون).

وقد قرأت ورأيت من أمراض التعصب المذهبى ما يثير الاشمئزاز ويدعو إلى الدهشة…

وكأن الذين خاضوا هذه المعارك الجدلية يقصدون قصدا إلى تمزيق المسلمين ، وإهانة معارضيهم فى الفكر بعلل مختلقة.

• تعصب ممقوت :

قال الشيخ عبد الجليل عيسى : سئل بعض المتعصبين من الشافعية عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ ، فقال "فض الله فاه "؟ يرمى لكلب أو حنفى!! وسئل متعصب حنفى: هل يجوز للحنفى أن يتزوج امرأة شافعية؟ فقال: "فض الله فاه " هو الآخر: لا يجوز لأنها تشك فى إيمانها…

يعنى هذا الأحمق أن الشافعى يجيز للمؤمن أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله ، تبركا. فهذا الاستدراك أو الاستثناء بالمشيئة جعله شكا يخرج من الملة!!

أرأيت هذا السفه؟ وجاء حنفى آخر فزاد الطين بلة وقال: يجوز الزواج بها قياسا على الكتابية! ورأيت حنابلة يأبون إلا ذبح النسك فى منى أيام التشريق ، ويرفضون مذهب الشافعى فى الذبح بمكة قبل ذلك ، ويقبلون أن تنتن آلاف الذبائح ، ويحتاج تنظيف منى منها إلى المال والرجال..

ذلك لديهم أرجح من إطعام الألوف من فقراء مكة.. أوائل ذى الحجة..

وحنابلة آخرون يرون زكاة الفطر لا تكون إلا شعيرا أو قمحا ، ويرفضون باستعلاء مذهب أبى حنيفة فى إخراج القيمة مالا للفقراء.

وتصور عواصم المسلمين تشحن بأرادب الشعير حتى لا يعمل الناس بمذهب أبى حنيفة..
لم هذا التعصب المذهبى؟!

لقيت متعصبين كثيرين ، ودرست عن كثب أحوالهم النفسية والفكرية ، فوجدت آفتين تفتكان بهم:
الأولى: العجز العلمى ، أو قلة المعرفة! هؤلاء يحفظون نصا وينسون آخر، أو يفهمون دلالة للكلام هنا ويجهلون أخرى وهم يحسبون ما أدركوه الدين كله.

ولو أن هؤلاء اكتفوا بمنزلة المتعلم التابع ما عابهم ذلك كثيرا ، فليس كل مسلم مطالبا بمعرفة جميع الأقوال الواردة والدلالات المحتملة.

المصيبة أن يشتغلوا مفتين أو موجهين وهم بهذا المستوى الهابط!

نقل الشيخ عبد الجيل عيسى عن ابن إسحاق الشاطبى فى "الموافقات " هذه الكلمة الصائبة: " إن تعويد الطالب ألا يطلع إلا على مذهب واحد ، ربما يكسبه نفورا أو إنكارا لكل مذهب مادام لم يطلع على أدلته ، فيورثه ذلك حزازة فى الاعتقاد فى فضل أئمة أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم فى الدين وخبرتهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه ".

حدث لى مرة أن أفتيت بجواز حج المرأة وحدها فى الرفقة المأمونة ، فإذا طالب مكفوف يمسك بيدى وهو يرتعش من الغضب يقول: كيف تفتى بهذا الحكم المخالف للسنة؟!

قلت: إنما أنقل مذهبى الشافعى ومالك رضى الله عنهما.

قال: هما يخالفان السنة! قلت هما لا يخالفان السنة.

إن حديث نهى المرأة عن السفر إلا مع محرم لها ، فهمه هذان الإمامان على أنه عند اضطراب الأمن وخوف الفتنة.

واستدلوا على صحة فهمهم بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنبأ بأن الإسلام سوف يظهر ، وأن الدعار والفتانين سوف يختفون حتى تسير الظعينة من اليمن إلى العراق لا تخشى إلا الله..

وسفر الظعينة هذه المسافة الشاسعة لا يبشر الرسول به إذا كان حراما..!

وعندما كنت مسئولا عن المساجد فى مصر جاءتنى شكايات ، ووقعت فتن ، من بعض المصلين لأن الإمام لم يصل فى صبح الجمعة بسورتى السجدة والإنسان ، كما يرى الشافعى.

إن القصور العلمى عند أولئك وأمثالهم هو مثار الشغب والفوضى.

والآفة الثانية فى التعصب المذهبى:

• سوء النية :

ووجود أمراض نفسية دفينة وراء السلوك الإنسانى المعوج، ويغلب أن تكون آفات الظهور والاستعلاء أو رذائل القسوة والتسلط. كنت فى مجلس قرآن ختم القارئ فيه التلاوة بقوله صدق الله العظيم.

فإذا جالس ينتفض كأنما لسعته عقرب يقول: هذه بدعة…

قلت له: لا أبحث معك أنها بدعة أو سنة ، وإنما أسألك: ما هذا الفزع؟ لكأنما سقط على رأسك حجر!! الأمر ما يعالج بهذه العاصفة. اجلس.

ورأيت فى أحد مساجد القاهرة رجلا تأخرت به السن يوشك أن يضرب نفرا من الطلاب الذين صلوا ورءوسهم عارية.

أخذت على يديه ، وأفهمته بشق النفس أن الرأس ليس عورة ، وأن الصلاة صحيحة ، وأن مسلكه خطأ ، فما تركهم إلا مغلوبا على أمره ، غير مقتنع بما قلت.

هذا الصنف من الناس لم يهذب نفسه بالأخلاق التى بعث صاحب الرسالة ليتمم مكارمها..

إن صور العبادة عنده غطاء لقلب غليظ ، وغرائز فجة. وهو يجد متعة فى قضايا الخلاف ليثور ويفور ، وظاهر أمره الغضب للدين ، وهو فى الحقيقة ينفس عن طبيعة معتلة ، وتربية ناقصة أو مفقودة.

أرأيت إلى الشخص الذى قال لرسول الله: اعدل، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله!

إنه ـ والله ـ ما يغار على عدالة ، ولا يأبى على جور.

إنه طالب ظهور عن طريق الغيرة على القيم ، يريد أن يقال عنه: استلفت معلم الإنسانية إلى ما فاته ، وأدرك ما لم يدركه ، وهو صاحب الرسالة العظمى.

إنه هو وأمثاله كما قال رب العالمين: (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه).

ولقد تألم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الكلام ، وقال لصاحبه: "ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟ خبت وخسرت إن لم أعدل "!

• انشغال بسنن وشكليات عن عظائم الأمور :

والواقع أن بين المتعصبين لبعض الآراء والمذاهب ناسا حظهم من الإيمان بالغ التفاهة..

ولذا اجتمعت الآفتان معا على افتراس الأمة الإسلامية المغلوبة على أمرها بين المحيطين الأطلسى والهادى.

شعرت بذلك عندما اشتغلت ـ من عشرين سنة ـ بالإجابة عن الأسئلة الدينية فى برامج الإذاعات الموجهة بالقاهرة.

لاحظت أن أسئلة كثيرة تجئ عن حكم سدل اليدين أو قبضهما فى الصلاة.

كان النزاع محتدا ما بين أتباع مالك ، وجماعة أنصار السنة فى هذه البقاع النائية وخصوصا بين مجموعة الأقطار المتكلمة بالفرنسية.

قلت: سبحان الله! هؤلاء قوم فقدوا اللغة العربية والتاريخ الإسلامى ، والولاء الجامع على هذا الدين ، وأظلهم حكم أجنبى لا يرجو لله وقارا ولا يحترم من حدوده حدا ، بل لا يقيم للإسلام ركنا ، ولا يحل حلالا ولا يحرم حراما.

وجملة الحكومات هناك إما صليبية على كثرة مسلمة ، وإما مسلمة باللفظ ، ولا تهتم من تعاليم الإسلام بشىء ، ومع ذلك كله فالنزاع يحتدم حول سدل اليدين أو قبضهما فى الصلاة.. هل هذه مشكلة المشكلات؟!

إن الشافعى الذى يجعل قبض اليدين سنة يصف هذه السنة بأنها هيئة ، أى يجعلها شكلا للصلاة ويرى أن ترك الهيئة سهوا أو عمدا لا يستتبع سجود سهو.

فهل نافلة خفيفة على هذا الغرار تنسى الدعائم والمعالم ، وتشغل الجماهير عن أعمدة الإسلام التى انهارت أو تكاد..؟

إن ما حدث فى ظل الاستعمار الفرنسى حدث مثله فى ظل الاستعمار الإنكليزى. ولقد رأينا المسلمين الهنود الذين أنشئوا باكستان غلبتهم قضايا تافهة ، قصمت ظهر الدولة التى أنشئوها ، وبددت قواهم فى خصومات مذهبية لا طائل تحتها ، ولعلهم يستفيدون من تجارب الأمس ما يصون مستقبلهم المهدد.

نظرت إلى شئون الناس فى أقطار أخرى ، فرأيت ما يستحق التسجيل. إن الشعوب تختلف على نطاق واسع فى تقدير مصالحها وفى رسم السبل التى تحققها.

ففى انجلترا عمال ومحافظون وغيرهم ، وفى الولايات المتحدة جمهوريون وديمقراطيون وغيرهم ، وفى شتى الأقطار أحزاب تختلف على التافه والجليل.

ربما اختلفوا فى نظام الجمارك أو فى نظام المقابر ، أو فى نظام الحكم المحلى أو فى نظام تأميم المرافق الكبرق.

ومع هذه الاختلافات فإن ولاءهم لأوطانهم ثابت ، وانشغالهم بالدفاع عنها وإعلاء رايتها يجمعهم على عجل من كل ناحية ، وتطوى مسافات الخلف بين الكل فإذا هم صف واحد لنفع بلدهم ورفع شأنها.

إن الخلافات الجزئية واقع لا بد منه ، وتجاوزها لما هو أهم منها واقع لا بد منه كذلك..! ولم أر ناسا حبستهم الجزئيات وغلبتهم على رشدهم مثل صرعى التعصب المذهبى عندنا.

وأظن السبب فى ذلك أسلوب تعليم العوام.

إن المدرس يقول فى ثقة: حكم الله كذا فى هذه القضية ، رأى الدين كذا فى ذلك الموضوع.. فيظن المستمع أن ما سمع هو حكم الله ورسوله.

وما ينبغى أن يذكر حكم بهذا الجزم إلا ما قطع به ، أما الاجتهادات المذهبية فينبغى أن يقول المفتى: أرى كذا أو الحكم عندنا كذا أو صح الدليل لدينا بكذا ، ويترك مجالا للرأى الآخر فلا يحرمه من الانتماء إلى الإسلام. وعلى الأتباع أن يستبينوا قيمة ما يؤدون وما يدعون ، فلا يظنوا الإسلام حكرا على مسالكهم وحدها.

واختيار المسلم لمذهب ما ، لا يجوز أن يتحول إلى لجاجة ومغاضبة ، فإن ذلك يفسد النية ويمزق الأمة ويوهى الصلة بالله سبحانه وتعالى. والموضوع كله لا مكان فيه لمكابرة واستطالة ، إنه أهون من ذلك كثيرا. سألنى صيدلى عن حكم من أدرك الإمام راكعا ولم يقرأ الفاتحة ، أتسقط الركعة عنه أم يعيدها؟

قلت: الجمهور على سقوط الركعة عنه ، وهناك من يرى قضاءها ، فاختر لنفسك ما يحلو.

قال: أعرف ذلك ولكن أريد مناقشة من يرى عدم قضاء الركعة..!

قلت له: ما جدوى ذلك عليك؟ ولماذا تتكلف ما لا تحسن وتترك ما تحسن..؟

قال: ما معنى ما تقول؟

قلت: أنت صيدلى ، وجميع الأدوية فى دكانك من صنع الصهيونيين أو الصليبيين أو الشيوعيين ، فإذا تركت أنت وزملاؤك هذا الميدان ، ميدان صناعة الدواء ، واشتغلت باللغو ، أفتحسب ذلك يرفعك عند الله وعند الناس؟ إنك للأسف تسهم فى سقوط الأمة وتجعلها غير جديرة بالحياة.

قال: إننى أبحث فى حكم شرعى ولا أشتغل باللغو.

قلت: الحكم الشرعى كما قرره أهل الذكر بين أمرين ، خذ منهما ما شئت ، ولا يجوز أن تحول الموضوع إلى لبان يمضغه الفارغون. إن كل ما يصرفك عن ميدان الدواء هو فى حقيقته عبث أو عيب أو ذنب تؤاخذ به.

أما أن تؤلف رابطة عنوانها "جماعة من يقضون الركعة إذا لم تقرأ الفاتحة" فهذا سخف.

ما قيمة هذا الرأى أو ذاك حتى يحشى به عقول الناس؟ إن المسلمين المعاصرين نسوا ضياع التركستان والقرم ، ولم ينسوا الخلاف على الجهر بالبسملة أول الفاتحة.

لحساب من تستثار المشاعر المشبوبة وراء رأى فقهى؟ إن كان خطأ أو صوابا ، فهو مأجور. وماذا يبقى من مشاعر الناس بإزاء العقائد الأولى ، والوحدة الجامعة ، والتماسك فى وجه أعداء لا ينامون حتى يقضوا علينا..؟

إن التعصب لرأى أحد الفقهاء غباء ، اعمل به إن شئت ، ولا تستحمق إذا رأيت غيرك بعمل بضده. وإذا وجد مجال لبحث وجوه النظر وقيم الأدلة ـ لمن يقدرون على ذلك ـ فلا حرج! ثم يصير كل إلى ما يرى.

إننى استيقنت من أن التعصب الشديد لمسألة ثانوية يتم على حساب الدماء والأموال والأعراض وكرامة الأمة وحياتها.

وأذكر صحفيا ممن شهدوا القبض على الجماعة التى احتلت الحرم المكى هذه السنة ، قال لى: عندما أخذنا صورا لهم رأيت بعضهم يتململ ، فقلت له: مالك؟ قال لا تصورونا فالتصوير حرام!

قلت له: ترى أن التصوير حرام ، وقتل الأبرياء فى المسجد وامتهان قداسته مباحان!! هذه هى عقلية المتشبثين ببعض الأفكار والفتاوى ، وذلك مبلغهم من العلم ، يعمون عن العظائم ولا يرون إلا ما يضخمون من وجهات نظر، قد يكون خطؤها أجلى من صوابها.

ذلك وقد ظهر نوع آخر من التعصب! جماعة يتسمون أهل الحديث ، يفهم أحدهم فى الخبر المروى فهما معينا ، فإذا خالفته فى فهمه اتهمك بأنك تخالف السنة ، أو تخاصم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذا بلاء جديد شديد نشير إليه فى الفصل اللاحق إن شاء الله .

----------( يُتبع )----------
#محمد_الغزالي
#دستور_الوحدة_الثقافية_بين_المسلمين
كلمة حرة
نشر في 14 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع