3798 مشاهدة
3
1
شهادة مهمة تجيب على السؤال الذي يتكرر مراراً خصوصاً ممن يعيش في ظل الأنظمة القومجية البائسة، ألا وهو هل كان العثمانيون محتلين لنا نحن العرب؟
هذا المقال طويل لكنه ممتع و مهم جداً .. قراءته أشبه بمتابعة مسلسل .. سوف يقدم لك مؤرخ من دمشق .. شاهد دخول الجيش العثماني بقيادة السلطان سليم الأول إلى دمشق .. شهادة مهمة تجيب على السؤال الذي يتكرر مراراً خصوصاً ممن يعيش في ظل الأنظمة القومجية البائسة .. هل كان العثمانيون محتلين لنا نحن العرب ؟؟ .. إن كنت مهتماً بهذا السؤال التاريخي الذي يتردد دائماً .. فاحتفظ بهذا المقال و شاركه .. المقال من كتابة عبدالرحيم أبو حسين في صحيفة الحياة و هو مؤرخ وأستاذ للتاريخ العثماني في الجامعة الأميركية ببيروت ...أما الشاهد هنا فهو عالم دمشقي، يعدّ مؤرخ دمشق الأول بلا منازع في أواخر العهد المملوكي وأوائل العهد العثماني. وهنا أقدم نصه في محاولة لفهم النظرة الشامية وربما العربية اجمالاً الى التحول السياسي الهائل الذي طرأ بفعل «الفتح» أو «الدخول» العثماني الى المشرق العربي.
من المهم الإشارة الى أن هذا المؤرخ، شمس الدين محمد ابن طولون، وعلى رغم مكانته العلمية المتقدمة في مجتمع دمشق في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ابتعد عن المناصب الرسمية في العصرين المملوكي والعثماني ووقف حياته على التدريس والتأليف. وهو دمشقي المولد والمنشأ والوفاة، ولد في دمشق المملوكية سنة 880 هـ (1476 م) وتوفي في دمشق العثمانية سنة 953 هـ (1546 م). وهو كان من أغزر علماء عصره إنتاجاً، وضع ما يزيد على ٧٥٠ من المؤلفات المختلفة المواضيع. وقد تمحورت مواضيع العديد من كتبه ورسائله على ما يتعلق بمدينته دمشق من حيث تاريخها وقضاتها وبعض أحيائها، وقد نُشر له في الفترة الحديثة العديد من الكتب وبخاصة ما يتعلق منها بتاريخ دمشق في العصرين المملوكي والعثماني.
وتكمن أهمية ابن طولون كمؤرخ في أنه يكتب عما عاصر من أحداث وينقلها لنا كما شاهدها أو كما وصلت الأخبار بها إلى دمشق على شكل تدوين يومي (يوميات). كان ابن طولون يعيش في دمشق سنة ١٥١٦، وقد نقل إلينا مشاهداته قبيل معركة مرج دابق، من وصول العساكر والسلطان المملوكي إلى دمشق وخروجه للقاء العسكر العثماني وما تلا ذلك من وصول أخبار هزيمة المماليك، ومن ثم وصول العسكر العثماني والسلطان سليم الى دمشق. الأهم من ذلك، أن ابن طولون نجح في أن يوصل إلينا شعوره كدمشقي تجاه السلطان المملوكي ثم تجاه السلطان العثماني والعثمانيين «الفاتحين» أو «المحتلين» بطريقة غير مباشرة ومن دون أن يتخذ موقفاً صريحاً، تأييداً او اعتراضاً، وذلك عبر مشاهداته المباشرة. وهو بذلك كان اقرب الى نقل مواقف ومشاعر أهالي دمشق، وربما عموم أهالي بلاد الشام مما كان يدور حينذاك. إذاً، نحن أمام شهادة عالم من أهم علماء عصره، والعلماء حينذاك لسان حال ما يمكن تسميته «الرأي العام».
يقول ابن طولون في كتابه «مفاكهة الخلان في حوادث الزمان» حول خلفيات معركة مرج دابق ما يلي:
«وفي هذه الأيام تواترت الأخبار بأن السلطان (قانصوه الغوري) بقلعة حلب... وفي بكرة يوم الجمعة ثالث عشريه (رجب 922 - 11 آب - أغسطس - 1516) ورد مرسوم مؤرخ بثامن الشهر من حلب من السلطان، وفيه انه عزم على التوجه الى ملاقاة ملك الروم سليم خان، وأنه يسأل الدعاء من أهل دمشق له، وأن ملك الروم قد جهز عساكر كثيرة من النصارى والأرمن وغيرهم له. فاجتمع قضاة دمشق الأربعة، والشيخ عبد النبي، ومن يلوذ به من المرائين، في جامع بني أمية بعد صلاتها في المقصورة، وكذا يوم السبت والأحد، وقرأوا سورة الأنعام، ودعوا للسلطان وعسكره، وخصوصاً بين الجلالتين، ولم يحضرهم أحد من المباركين، وألسنتهم ناطقة بالدعاء لمن قصده الخير منهما.
وشاع بين الناس أن سبب توجهه، بعد ان كان قصده الصلح، توجه ملك الروم اليه، وأخذ قلعة الروم، وما والاها الى عينتاب، بسبب انه اطلع على مطالعات من سلطاننا الى الخارجي اسماعيل الصوفي يستعينه على قتال ملك الروم سليم خان.
وفي عشية يوم السبت ثاني شعبان منها، وصل الخبر على يد هجانة الى دمشق، أن سلطاننا التقى مع ملك الروم في مرج دابق، بموضع يعرف بتل الغار، وقيل بمرج الطبقة، فوق أرض مرج دابق، يوم الأحد رابع عشري رجب الماضي،... وأنه كانت النصرة أول النهار لسلطاننا، وفي وقت الظهر اشتغل عسكره بالنهب، فرجع عليهم ملك الروم بالبندق الرصاص فكسرهم.
فلما رأى سلطاننا ذلك دعا بماء فشرب، وأغمي عليه، ثم سقط ميتاً بالقولنج، وهو يستغيث بالأغوات، وقيل انه سقط وبه رمق من الحياة، فأركب ثم سقط ثانياً ميتاً... وأما سلطاننا فقطع رأسه ووجه إلى إستانبول، كما قال لي المحبّ ناظر الجيش، وجثته قيل دفنت عند الشيخ داود بأرض دابق، وقيل حملت الى حلب ودفنت بتربة له فيها، كانت قديماً، لما كان متولياً الحجوبية الكبرى بها، والصحيح أنه لم يعلم حاله.
وشاع بدمشق أنّ ملك الروم سليم خان دخل قلعة حلب، وتسلم المال الذي بها ووزنه وأرصده، وأقام بالقلعة نائباً له... ثم سدّ أبواب حلب خلا بابين، أحدهما من جهة الروم، والآخر من جهة دمشق، وسكن في القلعة... وأخذ كل ما فيها من الودائع عند أهلها للمنهزمين، وأحسن الى فقهائها وفقرائها».
نلاحظ في الاقتباس السابق ما يلي:
أولاً، الدقة والأمانة العلمية عند ابن طولون في ايراد المعلومات: فالأخبار «تواترت»، ثم الاقتباس من مرسوم ورد من السلطان المملوكي من حلب، فوصول أخبار معركة مرج دابق «على يد هجانة الى دمشق»، ثم حول مصير قانصو الغوري «كما قال لي المحب ناظر الجيش».
ثانياً، يتضح موقف ابن طولون من السلطة المملوكية من دون أن يصرح به مباشرة، اذ يقول إن حضور الدعاء بالنصر للسلطان والجيش المملوكي، بالإضافة الى الرسميين، اقتصر على « المرائين» «ولم يحضرهم أحد من المباركين، وألسنتهم ناطقة بالدعاء لمن قصده الخير منهما».
ثالثاً، الدقة في التوصيف: فقانصو الغوري «سلطاننا» حتى بعد قطع رأسه، وسليم خان هو ملك الروم حتى بعد هزيمة المماليك ودخول سليم الى حلب. ليت مؤرخينا الجدد يقتدون بذلك.
يورد ابن طولون ما قام به السلطان سليم من اجراءات وإحسانه الى الفقهاء والفقراء من دون تعليق، فليس هنالك استحسان أو استنكار لها.
رابعاً، ما يورده ابن طولون حول خلفيات معركة مرج دابق من حيث الاتصالات المملوكية - الصفوية، وهو ما «شاع بين الناس»، أصبح الآن أمراً مثبتاً تاريخياً. كذلك مسألة عدم العلم بأي أرض دفن جثمان الغوري، فالأمر ما زال مجهولاً.
ننتقل الآن لنرى كيف تعامل ابن طولون مع «الفتح» أو «الدخول» أو «الاحتلال» العثماني لدمشق:
«ثم في يوم الجمعة خطب على منبر الأموي الولوي بن الفرفور باسم ملك الروم، وكذا في سائر الجوامع. ثم تتابع دخول العسكر، فذهب بعضهم ونزل على أناس خارج دمشق كرهاً، فذهبوا واشتكوا عليهم، فجاء ربطهم في حبال، ثم ذهب بهم الى ضفة الخضر وضرب أعناقهم، فارتدع بقية العسكر بهم.
وفي بكرة يوم السبت مستهل رمضان منها (922 هجرية)، وصل ملك الروم سليم خان بن با يزيد خان... الى المصطبة لصيق القابون الفوقاني، في عساكر عظيمة لم نر مثلها، ويقال إن عدتها مئة ألف وثلاثين ألفاً، ما بين أروام وأرمن وتتر وسوارية وإفرنج وغير ذلك.
وقدّامه ثلاثون عربة، وعشرون قلعة على عجل، يسحب كلا منها بغلان. ولما أطلقوا البارود في المصطبة، ظنت أهل دمشق أن السماء انطبقت على الأرض، وخلفهم النايات والطبول النقّارة، وخلفهم المشاة رماة البندق، وخلفهم الخنكار الملك المذكور، وخلفه السناجق والطوخان والعساكر على وفق طبقاتهم.
ولما نزل لم يجتمع به أحد، ولكن قضاة دمشق الأربعة، كانوا باتوا تلك الليلة عند القاضي كريم الدين بن الأكرم، ثم سروا من عنده، فاجتمعوا في الدرب بقاضي العسكر، فجاء بهم الى الخنكار، فباسوا يده، الشافعي ثم الحنفي ثم المالكي ثم الحنبلي.
وفيه (يوم الأحد 2 رمضان 922) ذهبت إلى وطاق الخنكار، قاصداً الاجتماع بالمدرسين الذين معه، ويقال أن عدتهم ستة وثلاثون مدرساً حنفيّاً، فلم يتيسّر ذلك لعدم المعرفة بلسانهم، فدرت فيه فذهلت من كثرته، وتعجبت من الأسواق التي فيه، وقلما تروم شيئاً لا تجده فيها، وهي سائرة معه من بلاده، فمن صنف اللحامين خمسة عشر قالياً للحم، ومثلها من الطبّاخين لألوان عدة، ومثلها حكماء، ومثلها جراحية، ومثلها بياطرة، ومثلها أساكفة، ومثلها حدادون، ومثلها علاّفون، وهذه الأعداد تقريباً وغالب ظني أنها أكثر من ذلك. الى غير ذلك من السوقة.
ثم ذهبت إلى العربات والقلاع، فتفرجت فيها، ولم أرها قبل ذلك. فإذا هي أمر عجيب تدل على تمكنه، والعربات مجنزرة، بعضها في بعض، بحيث إذا صفت تكون كالسور، وكل عربة ترمي بندقة ملء كف الرجل من رصاص، ولهذا البندق صندوق تحتها، وهي مركبة عليه في طول الشخص. ثم ذهبت الى مخيم الخنكار فلم أمكن من القرب به، وتفرجت على طبوله، فإذا كل طبل قدر حمولة رجلين، يحمل كل اثنين منهما على جمل، ومخيمه على نفس المصطبة، والعسكر بالبعد منه قدر رمية حجر من كل جانب، وهم محتاطون به كالسور على البلد.
وفي يوم الخميس سادسه (رمضان) دخل الخنكار من المصطبة الى حمام الحموي، الكائن بعمارة السلطان قايتباي، بمحلة مسجد القصب، ودخله وأعطى لمن حلق له خمسمئة درهم، ولمعلم الحمّام مثلها، ونودي له بمعلم الحمّامين، وكان قدامه من الخاصكية جانب كثير، وخلفهم رماة البندق، وخلفهم الشاووشية، ثم هو، وخلفه أمردان بشعور لابسين على رأسيهما كوفيتين من ذهب، وخلفهما جمع من عسكره، وكان قبل دخوله بلحية لطيفة، فلمّا خرج من الحمّام رأيناه قد حلقها كغالب عسكره، ثم ركب ورجع الى المصطبة».
وهذه الرواية تنبئنا بالكثير حول شعور سكان دمشق تجاه سلطانهم ودولتهم الجديدة. اذ يوضح المؤلف أن اهل الحل والعقد توافقوا على تسليم المدينة من دون قتال: «وقد كان اجتمع قبل هذا اليوم شيخنا عبدالنبي، والشيخ حسين الجناني، والشيخ مبارك القابوني، وخلق، في المصلى بميدان الحصى، واتفقوا هم ومشايخ الحارات على تسليم البلد، فتلقت الخلق لهذين الخاصكيين، ومن معهما، مع تهليل ومشاعلي ينادي بالأمان،... فسلمتهم الناس البلد، ودخلوا اليها وفتحوا ابوابها، وكان لها من يوم السبت مغلقة». وهكذا لم يحدث أي قتال في دمشق أو بالقرب منها.
كذلك لم يجر التعامل مع المدينة كمنطقة معادية تم احتلالها للتو ولم تستبح بأي شكل من الأشكال. فعندما نزل بعض العساكر على أناس خارج دمشق كرهاً، واشتكى الناس عليهم، عاقبهم متسلم دمشق أشدّ العقاب اذ «ربطهم في حبال، ثم ذهب بهم الى ضفة الخضر وضرب أعناقهم، فارتدع بقية العسكر بهم».
إلاّ اننا نتلمس في رواية ابن طولون ما هو أعمق وأهم من ذلك، اذ إنه توجه الى المنطقة التي أقام فيها العثمانيون سرادق السلطان بقصد الاحتماع الى العلماء. وهو فعل ذلك في اليوم الثاني لوصول السلطان الى خارج دمشق من دون الحصول على أي اذن او وساطة من أحد ومن دون تردد أو تهيب. وهذا الفعل أبلغ من أي توصيف اذ يوضح لنا نظرة أهل دمشق الى السلطة الجديدة والجيش «الفاتح» وهي هنا لا تحتاج الى اي ايضاح او تعليق.
وصف ابن طولون لما رآه لدى زيارته للمخيم العثماني ينم بوضوح عن أقصى درجات الانبهار بما رآى من مظاهر القوة والبذخ. فبالإضافة الى الأعداد الهائلة للعسكر يصف ابن طولون المدافع الضخمة والطبول الكبيرة وصولاً الى ما يسميه «الأسواق» التي في منطقة سرادق السلطان. ومن المعروف في التاريخ العثماني أن دوائر القصر السلطاني في اسطنبول، كانت ترتحل مع السلطان عندما يقود شخصياً الجيش العثماني.
وعلى رغم مظاهر القوة والعظمة لجيش كان قد وصل الى دمشق قبل يوم واحد فقط، لم يخامر ابن طولون اي شعور بالخوف وهو يتجول في أرجاء مخيم الجيش «المحتل»، بل ان وصفه يترك لدينا الانطباع بأن ما كان يفعله أقرب الى «سيران» باللغة الدمشقية.
وكان قصد ابن طولون من زيارة الوطاق السلطاني، كما يخبرنا، الاجتماع بالمدرسين الذين معه أي مع السلطان، «فلم يتيسر ذلك لعدم المعرفة بلسانهم». والأرجح أن المقصود هنا أن عدم معرفة ابن طولون باللغة التركية لم يمكنه من التواصل مع الحراس للوصول الى العلماء في وطاق السلطان، وربما لو قيض له أن يجتمع بهم لكان قد وصل الينا حوار مهم بين علماء الجيش «الفاتح» وعالم من المدينة التي دخلها هذا الجيش.
وإلى جانب ذاك، لا بد من الإشارة الى أن جرأة ابن طولون في التوجه الى المخيم السلطاني، ودخوله وعدم اعتراضه من جانب القائمين عليه، وصولاً الى خيمة السلطان شخصياً، سلوك لا يدل على شعور بالهزيمة أو بالخوف أو التوجس من الجيش الفاتح. لقد دفعه الى ذلك حب الاستطلاع والتعرف الى العلماء المصاحبين للسلطان وثقته بأن هذا الجيش ليس جيشاً لعدو بل إنه أقرب ما يكون، في ضوء سلوك ابن طولون، الى جيش صديق.
وحب الاستطلاع هذا غلب أيضاً على تصرف الكثيرين من أهل دمشق الذين أصروا على الفرجة على موكب السلطان سليم متوجهاً الى الحمام وخارجاً منه ومن بينهم ابن طولون شخصياً. ولم يردعهم عن ذلك خوف من الجيش المحتل أو شهرة السلطان سليم الملقب بـ «ياووز» أي الصارم او المتجهم والسريع الغضب، من ان يكونوا في مكان يمكّنهم من ملاحظة أن السلطان «كان قبل دخوله بلحية لطيفة، فلمّا خرج من الحمّام رأيناه قد حلقها كغالب عسكره».
أترك للقارىء، بعد ايراد هذه الشهادة، أن يضع لهذا الوصول العثماني التصنيف الذي يراه مناسباً.
نشر في 19 أيلول 2016
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع