1669 مشاهدة
0
0
عشر سنوات من الرفض في مكة كانت صعبة، لكن عشرة أيام في الطائف كانت أصعب منها بكثير، عليك الصلاة والسلام بماذا كنت تشعر، بماذا كنت تفكر؟
كانت الرحلة إلى الطائف مختلفة جدا عن كل ما سبق..الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرة يحدث أشخاصًا غرباء، لا يعرفهم ولا يعرفونه، وبالتالي فهم أمام شخص لم يعرفوا صدقه وأمانته كما كان الأمر في مكة مع مشركي قريش.. وهذا يجعل الأمر بالنسبة له أصعب بكثير، مع مشركي قريش كان يمكن أن يسألهم ببساطة: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» فيردون: "نعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا" بناء على رصيد التجارب السابق معه.
هنا لا تجارب تسمح له بطرح السؤال، ربما كان بعضهم قد سمع به من قبل، لكن الأمر مختلف جدًا عن المعرفة الحقيقية، ومع عشر سنوات من تشويه السمعة من قبل قريش... الأمر أصعب جدًا.. ولا يشبه الأمر حديثه سابقًا مع من كان يأتي مكة في الحج أو التجارة، القادم إلى مكة هو من جاء، ومحمد بين قومه، ويمكن أن يسأل عنه ويعرف عنه بكل سهولة.
هنا الرسول الكريم يذهب إلى ناس لا يعرفهم ولا يعرفونه، وهو لا يدعوهم إلى الإيمان به وبما يدعو إليه فقط، بل يدعوهم أيضًا إلى أن يقدموا له الحماية والمنعة.
لعشرة أيام وهو يفعل ذلك، وكان في الخمسين آنذاك، يذهب إلى أشراف القوم وسادتهم، ويقول لهم أنا محمد بن عبد الله، وأنا رسول الله إليكم، آمنوا بي وتخلوا عن دين آبائكم وعن أصنامكم، وأعطوني الحماية...
لعشرة أيام وهو يفعل ذلك...
هل يمكننا أن نتخيل صعوبة الأمر وحرجه بالنسبة لشخص كريم عزيز النفس مثله عليه الصلاة والسلام؟ هل يمكننا أن نتخيل ثقل أن تعرض ما تحمل على من لا يقدرك حق قدرك، ولا يعرف مكانتك السابقة بين قومك، وأنت الآن طريد مرفوض منهم.
لا يمكن أن يحدث ذلك إلا إذا كان قد وصل إلى مرحلة قصوى من إنكار "الأنا" في داخله، لا يمكن أن يتحمل كل هذا إلا إذا كان قد روض "الأنا" على النحو الذي يجعلها تتحمل كل هذا...
هل حدث الأمر في شق الصدر ليلة الإسراء، يوم طهر قلبه؟ أم ترك الأمر لكي يتطهر بنفسه عبر السنوات العشر، ومن ثَمَّ جاءت هذه الأيام العشرة لينهي كل ما يمكن أن يكون قد بقي من ذلك.
تخلص من أناه، ليس عنده أي شيء سوى ما يحمله من رسالة.
لعشرة أيام، يفعل ذلك، ويجد الرفض والصدود والسخرية. ويحتمل.
ثم يذهب، في نهاية رحلته على ما يبدو، إلى الأخوة الثلاثة،أولاد عمرو بن عمير ،ويبدو أنه فضل أن يؤجل دعوته لهم لأن زوجة واحد منهم كانت من قريش من بني جمح (عشيرة أمية بن خلف، المشاركة في حلف الأحلاف ضد حلف المطيبين، أي ضد عشيرته) ولعله كان يأمل -حتى تلك اللحظة- أن لا يتسرب الخبر إلى قريش... ولم يرغب في أن تسربه المرأة الجمحية.
يتناوب الأخوة الثلاثة في الرفض الساخر. فيطلب منهم عليه الصلاة والسلام في أن "يكتموا عنه" على الأقل، أي أن لا ينشروا خبر أنه جاءهم... كي لا يزيد الأمر صعوبة مع قريش..
لكنهم يتصرفون على نحو أسوأ، فيوعزون لعبيدهم وصبيانهم بسبه وتوجيه الإهانات له.. وكما يفعل قطيع البشر دومًا، عندما يرى من يستضعف وتوجه له إهانات ولا يستطيع ردها، زاد عدد من يفعل ذلك، وتكاثر الناس عليه، وصاروا يركضون خلفه في شوارع الطائف وكما يفعل القطيع دومًا.. كانوا يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، وكان زيد يقيه بنفسه فشق رأسه .. ولا بد أن القطيع كان يضحك ويسخر بينما يحدث ذلك...
ثم يلتجئ إلى بستان يملكه قريشيان في الطائف، عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، عتبة بن ربيعة هو أبو هند زوج أبي سفيان، وأبو حذيفة أحد مهاجري الحبشة- وكان عتبة وشيبة جالسين في بستانهما.. وكانا ينظران إلى ما يحدث عن بعد. لا نعرف أنهما شاركا بشيء أو أظهرا أي شماتة.
لكنه عليه الصلاة والسلام تيقن الآن أن الأمر واصل لقريش.. بل ها هو قد هو وصل عيانًا لواحد من أهم ساداتها...
يا لقلبك يا محمد. يا لقلبك با ابن عبد المطلب. يا لقلبك أيها الصادق الأمين. يا عزيز القوم. كيف مر على قلبك كل هذا؟ ماذا كنت تشعر في داخلك؟ عشر سنوات من الرفض في مكة كانت صعبة، لكن عشرة أيام في الطائف كانت أصعب منها بكثير.
ورقة حذرك منذ البداية. منذ اليوم الأول. لكن علمك المسبق بما قد يحدث لا يشبه أبدًا أن تمر به...
عليك الصلاة والسلام، بم كنت تفكر؟
******
من السيرة مستمرة
صدر مؤخرا عن دار عصير الكتب
نشر في 22 شباط 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع