Facebook Pixel
إنها ليلة مثالية
1090 مشاهدة
1
1
Whatsapp
Facebook Share

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة مساء عندما ارتفع رنين هاتفي المحمول وأعلنت شاشته أن صديقي الغامض نسيم هو المتصل، فضغطت زر لاتصال قائلا في شيء من المرح

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة مساء عندما ارتفع رنين هاتفي المحمول وأعلنت شاشته أن صديقي الغامض نسيم هو المتصل، فضغطت زر الاتصال قائلا في شيء من المرح:
– نسيم.. كيف حالك؟ هل عدت إلى الظهور مرة أخرى؟!



فاجأني صوته شديد التوتر وهو يقول:
– مراد.. أريد أن أراك الآن.
سألته في دهشة:
– ولماذا الآن؟
أجابني بكل توتره:
– أرجوك.. لا تلقِ الكثير من الأسئلة.. إنني أحتاج إلى رؤيتك فورا.



حاولت هضم الموقف كله وأنا أغمغم:
– فليكن .. أأنت في منزلك؟
أجابني في لهفة غير طبيعية:
– بل في القبو.



لم أكن قد سمعته يتحدث عن ذلك القبو من قبل، لذا فقد سألته في حذر:
– أي قبو؟
أجاب في سرعة ولهفة:
– قبو منزل أسرتي القديم في الفيوم.. سأعطيك العنوان.



لم تكن الدهشة قد فارقتني بعد، عندما ركبت سيارتي لأنطلق بها إلى الفيوم تلبية لنداء صديق..
والواقع أن نسيم لم يكن صديقا حميما كما قد تتصورون، بل هو صديق تعرفته في حفل عام أقامته شركة الأدوية التي يعمل بها منذ ما يقرب من عامين، ولقد بدا شديد الطيبة والمودة، على الرغم من وجهه الشاحب وعينيه الغائرتين وأسنانه الصفراء التي توحي بإهماله التام للمظاهر والنظافة الشخصية..



يومها حدثني كثيرا عن الأبحاث التي يجريها على عدد كبير من مرضى الدم ومحاولاته لإيجاد بديل صناعي للدم البشري يمكنه تعويض حالات النقص الدائم فيه، ويستطيع في الوقت ذاته مد خلايا الجسد بما تحتاج إليه من الأكسجين والغذاء..



ولقد عارضته أيامها كثيرا باعتبار أن الدم البشري سائل حيوي يستحيل إيجاد بديل معملي له، لكنه بدا شديد الاقتناع والحماس لأبحاثه إلى حد منعني من إحباطه بآرائي المخالفة..
بعدها اختفى نسيم لأكثر من ثلاثة أشهر قبل أن يعاود الاتصال بي مرة أخرى، ليخبرني في حماس أن أبحاثه تتطور بشكل كبير وطلب لقائي للحديث عنها..



وذات ليلة اكتمل فيها القمر وتوسط كبد السماء التقينا وتحدثنا كثيرا وطويلا، وراح يشرح لي أبحاثه ونتائجها، وأنا أستمع إليه في اهتمام صامت..
كان أكثر نحولا وشحوبا، كأنه لم يتناول طعاما كافيا خلال الأشهر الثلاثة، لكنه أيضا كان أكثر حماسا وحرارة..



التقينا بعدها خمس مرات على فترات متباعدة، وفي كل مرة كان يزداد نحولا وشحوبا ويتطلع إليّ بنظرات عجيبة متوترة، حتى خشيت أن تكون أبحاثه قد أرهقت عقله مع قلة ما يتناوله من طعام، فلم يعد يستطيع التفكير على نحو سليم..
أما اتصال الليلة فقد جاء بعد ستة أشهر من الانقطاع التام، وعلى ذلك النحو العجيب الذي ذكرته..



وعلى الرغم من هذا، فها أنا ذا على مشارف مدينة الفيوم حيث أرادني أن أكون..
لم يكن التوصل إلى عنوان منزل والديه عسيرا؛ فهو منزل قديم تحيط به الحقول من كل جانب، وطرازه يوحي بأن بناءه يعود إلى أكثر من قرن من الزمان..



وعند باب المنزل استقبلني نسيم في توتر شديد، وحاول أن يبتسم ابتسامة مضطربة وهو يقول:
– كنت أعلم أنك ستأتي.
قلت وأنا أصافحه في حذر:
– لا يمكنني أن أتأخر على نداء صديق.



كان قد وصل إلى درجة مخيفة من الشحوب والنحول، وصارت نظراته أشبه بنظرات المجانين، وخاصة عندما ألقى نظرة عصبية على القمر المكتمل في السماء وهو يغمغم:
– أعتقد أنها ليلة مناسبة تماما.



لم أدرِ ما الذي كان يعنيه بكلمة “ليلة مناسبة” هذه، لكنني انتهيت إلى أن كل لقاء لنا كان يتم مع اكتمال القمر، مما جعلني أتساءل: أمصادفة هذه أم أن نسيم يعشق الليل والقمر على نحو ما؟
لم يمنعني هذا من اللحاق به إلى قبو المنزل، والذي أدهشني أن يحوي ما يشبه معملا كيماويا كاملا، على ذلك الطراز القديم الذي تراه في أفلام الرعب، فسألته في دهشة:
– ماذا تفعل هنا؟
أجابني في سرعة واقتضاب:
– أجري أبحاثي.



غمغمت وأنا أدير عيني في المكان في حيرة:
– هناك أجهزة حديثة أكثر دقة.
غمغم وهو يتجه نحو قارورة كبيرة تحوي سائلا شفافا له لون أحمر باهت:
– هذا يكفي.



صب بعض ذلك السائل الأحمر الشفاف في وعاء صغير وهو يسألني دون أن يلتفت إليّ:
– ماذا تعرف عن مصاصي الدماء؟
صدمني السؤال العجيب، فحدقت فيه لحظات وأنا أغمغم:
– ما يعرفه كل متابع لأفلام الرعب الإنجليزية والأمريكية.. إنها كائنات ليلية شبه أموات لهم أنياب بارزة و…



قاطعني وهو يرج الوعاء الصغير في رفق ثم أضاف إليه سائلا آخر له لون أزرق باهت:
– هراء.. كل هذا من خيال برام سنوكر، أول من ألّف رواية عن مصاص الدماء، الذي اقتبس اسمه من الكونت دراكيولا حاكم تراسلفانيا القديم (حقيقة).



غمغمت في حذر:
– هذا ما يعرفه الكل عن مصاصي الدماء الخرافيين.
وهنا التفت إليّ وبدت عيناه زائغتين أكثر وهو يقول:
– هنا تكمن المشكلة.
ثم مال نحوي وبدا صوته مخيفا وهو يضيف:
– ليسوا خرافيين.
تراجعت في دهشة مغمغما:
– ماذا؟!



اعتدل والتقط محقنا سحب بوساطته بعض الخليط الذي صنعه وهو يقول في توتر:
– لم أكن أتوقع أن توصلني أبحاثي إلى هذا، ولكنهم كائنات حقيقية تعيش بيننا وتتغذى على دماء الضحايا التي يقع اختيارها عليها.



وتألقت عيناه وهو يضيف في لهجة بدت أشبه بالجنون:
– ولكن ليس بوساطة أنياب حادة ومخالب وكل تلك الخرافات التي روّجت لها الروايات وأفلام السينما.. إنهم يتعاملون بوسائل بشرية طبيعية.. وسائل هي السر في أن أحدا لم يكشف أمرهم طوال قرون من الزمان.



لذت بالصمت بضع لحظات وأنا أتطلع إليه قبل أن أسأله في حذر:
– كيف يحصلون على دماء ضحاياهم إذن؟



لوّح بيده الحرة في الهواء وهو يمسك المحقن بيده الأخرى في حرص هاتفا:
– تماما كما يحصل أي بشري عادي على الدماء.
ثم مال نحوي بحركة حادة، مستطردا:
– هل سبق لك أن تبرعت بالدم؟



تراجعت مبتعدا عنه وراودني شعور بأنني قد أخطأت بالمجيء إليه، وأنا أغمغم:
– ليس كثيرا.
اعتدل بنفس الحركة الحادة وهو يقول:
– إنهم يغرسون إبرة سميكة في عروقك ويسحبون كمية من الدم عبر أنبوب شفاف إلى وعاء يحوي مادة مانعة للتجلط.. أليس كذلك؟!



غمغمت في حذر أكبر:
– بلى.
هتف في انفعال:
– هذا ما يفعله مصاصو الدماء بالضبط.. في جيب كل منهم ستجد كيسا فارغا يحوي تلك المادة المانعة للتجلط، وعندما يقع اختيارهم على الضحية المناسبة يغرسون الإبرة السميكة في عروقها.. وبالتحديد في وريدها العنقي ويسحبون الدم من جسدها.



اتسعت عيناي لحظات، قبل أن أقول في عصبية:
– هذا أمر لا يمكن حدوثه.. لا أحد سيستسلم لشخص يغرس إبرة غليظة في وريده العنقي.. سيقاوم حتما.
رفع ذلك المحقن إلى جوار وجهه مجيبا: الضحية أولا.
تراجعت أكثر محدقا في ذلك المحقن وأنا أسأله في عصبية:
– نسيم.. لماذا طلبت مني الحضور إلى هنا؟



ابتسم ابتسامة أضفت على مظهره شكلا مخيفا وهو يقول:
– ألا توافق معي على أنها ليلة مناسبة؟!
قلت في عصبية أكثر:
– نسيم.. إنك تحتاج إلى علاج طبي.
هز كتفيه في لا مبالاة، وهو يقول:
– كل ما أحتاج إليه هو الراحة.. لم أحصل على الراحة منذ فترة طويلة.. طويلة للغاية.



حاولت الابتعاد أكثر، إلا أن أدوات معمله البدائي تصدت لمحاولتي، فقلت بكل عصبيتي:
– نسيم.. لا تجبرني على فعل أمر لا أريده.
ابتسامته هذه المرة كشفت أسنانه الصفراء القبيحة وهو يقول:

– أحقا لا تريده؟!



ثم رفع يده الحرة إلى أعلى وهو يقترب مني بمحقنه متابعا في نشوة عجيبة:
– ألم تنتبه لكونها ليلة مثالية؟! القمر بدر والسماء خالية من السحب ونحن نقترب من منتصف الليل.



حدقت في ذلك المحقن الذي يحمله في تحفز وأنا أفكر في أنه يدفعني بالفعل إلى أمر لا أريده، ولكنه واصل مع اقترابه مني أكثر:
– وهذا المنزل مثالي.. إنه وسط حقول كبيرة ويبعد مسافة كافية عن أقرب جار، ونحن في قبو مغلق و…



قبل أن يتم عبارته انقض عليّ فجأة بمحقنه الذي يحوي ذلك الخليط الذي أجهل ماهيته، و…
وبسرعة لم يتوقعها ملت بجسدي جانبا وأمسكت معصم يده التي تحمل ذلك المحقن، ولويته في قوة وشاهدت محقنه يسقط أرضا، فلويت ذراعه خلف ظهره وأنا أقول في قسوة:
– معلوماتك عن مصاصي الدماء ناقصة يا هذا.



كان يقاوم في استماتة ولكن جسده النحيل الضعيف لم يسمح له بهذا، فأضفت وأنا أدس يدي في جيبي:
– إنهم يتمتعون بقوة تفوق قوة البشر وبسرعة استجابة غير طبيعية.
أخرجت من جيبي ذلك الكيس الذي يحوي المادة المضادة للتخثر، والذي يمتد منه أنبوب قصير ينتهي بإبرة غليظة، متابعا:
– ونحن نفضل في المعتاد تخدير الضحية أولا ولكنك أجبرتني على فعل ما لا أريده.



غرست الإبرة الغليظة في عنقه، وهو يصرخ:
– لقد كشفت أمرك منذ زمن وأبحاثي نشرتها على شبكة الإنترنت قبل وصولك إلى هنا.. العالم كله سيكشف أمركم.. العالم كله سيعرف بوجودكم.
أجبته في سخرية قاسية وأنا أشاهد في شراهة دماءه الطازجة تسيل عبر الأنبوب القصير إلى كيس الدم:
– ومن سيصدقك؟!



لم أكن قد تناولت وجبة دم طازجة منذ زمن طويل، ولكن نسيم لم يكن من طراز الضحايا الذي أفضله، فهو شاحب نحيل يحوي جسده دماء ضعيفة قليلة..



ولكنني كنت مضطرا..

فلقد كان على حق تماما..

إنها ليلة مثالية..

للغاية.
روايات مصريـة
نشر في 31 تموز 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع