1106 مشاهدة
0
1
أحيانًا يتم الاحتفاء الحماسي بأديب شاب يتحسس طريقه في عالم الأدب، وهذه علامة صحية بلا شك, لكن مايبالغ فيه الناس شيء مختلف
مثل الجذمور بالضبط (2)أحيانًا يتم الاحتفاء الحماسي بأديب شاب يتحسس طريقه في عالم الأدب، وهذه علامة صحية بلا شك. أذكر ندوة أقيمت في مصر لأديبة خليجية شابة، حضرها (أنيس منصور) ونخبة من النقاد والأدباء المهمين، والفتاة في السابعة عشرة من عمرها تكتب كلامًا فارغًا كالذي تكتبه أية طالبة ثانوي في آخر كراساتها، حتى توقعت أن أجد بين أشعارها (الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان) أو (الخط خطي ودمعي يسيل على خدي)، لكن هذا الرأي المتعصب لم يكن رأي السادة الذين حضروا الندوة، والذين تحدثوا عن ثورة جديدة في الأدب، وكيف أن كتاباتها ذكرتهم بماريا الأديبة الروسية العبقرية الشابة (لم يقولوا إنها ماتت في سنها!).
قال لي أحد أصدقائي مازحًا: لو أنك أديب واعد من قرية (خارصيت) مركز الغربية، تدون أعمالك بالقلم الرصاص في كراسة مدرسية عتيقة من التي كتب على غلافها الأخير (كنظام)، ولديك بيجامة كستور مخططة.. فهل تتوقع أن يهتم بك أحد أو يقرأ لك حرفًا؟.. ولماذا يصعب أن تقام هذه الضجة على كتابات أديبة قبيحة أو فقيرة إلا فيما ندر؟.. أترك لك الإجابة، ونعود إلى موضوع الجذمور..
سألني بعض الأصدقاء عن معنى (الجذمور) فقلت لهم: إن موقع (بص وطل) نشر صورة ممتازة مع المقال السابق؛ لكنك على كل حال تذكر الجذمور لو كنت تذكر (الرايزومات) من حصة الزراعة أو حصة الأحياء، وهي ساق النبات الأفقية تحت الأرض التي تنمو منها عقد وسوق جديدة.. هناك نظرية نقدية كبرى هي نظرية الجذمور، وبرغم هذا ما زال الموضوع يحتاج إلى عبقري ليفهم معنى هذا الكلام.
قال د. (علاء الأسواني) في حوار سابق: إنه كلما أقبل الناس على كاتب ما استفز هذا الأدباء الآخرين الذين اعتادوا الجلوس على المقاهي ولوم جهل الجماهير؛ فهذا يزلزل الحقائق ويحرمهم لذة الاستشهاد، لذة الشعور بأنهم نحتوا القوافي من مقاطعها فلم تفهم البقر.
في عصور ضعف الأدب ينتصر الغموض، وتكون هناك خلطة قوية الرائحة تخفي أن الطعام فيه لحم فاسد أو لا لحم على الإطلاق. أضف لهذه الخلطة الكثير من التحذلق والغموض والتعالي والقرف والاشمئزاز من سطحية القراء، ولسوف تعبر.. تعبر إلى المقهى الذي يجلس فيه الأدباء المشمئزون.. جنة الميعاد.
قرأت لأحد الأدباء مقالاً ينعي فيه عصر الجهل الذي نعيشه نتيجة التجارب التي جسّدت الارتداد بالرواية مرة أخرى إلى عصر الحدوتة، ولاقت جماهيرية جعلت البعض يتصورون أن هذا انتصار للخفة. وهذا هو مقياسهم الذي لا يحيدون عنه: الرواية التي تروق للناس وتجدها في يد الجميع عمل سطحي فاشل.. مصيبة لو كانت الرواية مسلية أو جعلت القارئ يتساءل عما سيحدث بعد ذلك. لابد أن تكون الرواية عذابًا مقيمًا مستحيل الفهم وإلا فهي فاشلة، ومهمة الأديب المقدسة هي أن يصل بالقارئ لحالة من العجز التام عن فهم ما يقرأ. طبعًا ليس الرواج دليلاً على شيء وإلا لكان (شعبان عبد الرحيم) أنجح مطربي مصر؛ لكن هناك حلولاً وسطًا، وأنا لم أر عملاً مملاً عسير الفهم لـ (يوسف إدريس) أو (نجيب محفوظ) أو (تشيكوف) أو (الغيطاني) أو (إبراهيم عبد المجيد) أو (المنسي قنديل) أو (المخزنجي). وماذا عن يعقوبيان التي وقفت وقفة راسخة بين ما هو عميق ومحكم أدبيًا وما هو ممتع للجمهور؟.. في أوساط المثقفين المتحذلقين يعتبر إبداء الإعجاب بيعقوبيان نوعًا من الكفر الصريح..
هذا الجدل قائم منذ دهور، والغلبة في النهاية لما هو مفهوم وجميل. وكلنا يعرف محاولات (فورستر) الجاهدة لتحويل فن الرواية إلى تعذيب للقارئ؛ لدرجة أنه اعتبر فن الحكي من بقايا عادات إنسان الكهف الهمجية؛ بينما (ماركيز) العظيم نفسه قال: إنه لا يشتهي شيئًا مثل أن يجد نفسه مجرد راو عربي يجلس في الأسواق ويلتف حوله الناس منتظرين قصصه الممتعة؛ فلو لم تكن كذلك لمات جوعًا.
لكن كاتبنا الجميل يهوي بسياطه على المجتمع السطحي التافه الذي سيطرت عليه الخرافة، ولم يعد يحترم حرية الفرد و.. و…. ثم في نهاية المقال يبدي دهشته من ركاكة الأفكار عندما تكتب بهذه الطريقة المباشرة!.. يعني هو يطلب المغفرة لأنه تكلم بشكل واضح سلس، ويعدنا بأن نقرأ ذات الرأي بشكل معقد غير مفهوم في رواياته!.
المشكلة مع هؤلاء الأدباء هي أنهم دومًا عباقرة يكتبون لأبقار؛ فمن هو الرديء فيهم إذن؟ وكيف نعرفه؟.. هناك واحد - سامحه الله - قال يومًا: إن الأبطال يقذفون بالحجارة؛ بينما الورود للموتى، ومن يمش في المقدمة يطعن في ظهره.. إلخ. هذه المقولة أفادت الجميع، وصارت شعارهم. إذن لن يعرف معدوم الموهبة أنه كذلك أبدًا.. إنه بطل في زمن أشباه الرجال لا أكثر.. لو فشل العمل الأدبي فبسبب مناخ السطحية، وهذا يقود لاستنتاج عجيب هو أنه لا يوجد عمل أدبي سيئ أبدًا!..
هكذا يذهب الأديب لمقاهي وسط البلد متداعية الجدران ويدخن الشيشة وربما الحشيش، ويشتم الناشر النصاب الذي يزعم أنه لم يبع سوى طبعة واحدة؛ بينما هو حتمًا باع تسعًا.. ومن حين لآخر يقع في يده عمل لأديب من أصدقائه فيقول:
ـ”حقيقي ده حد جميل..”
هذه هي طريقة كلام وسط البلد، وعليك أن تتعلمها لو أردت أن تكون شيئًا..
يمكنني أن أعرف مسار حياة معظم هؤلاء الأدباء بوضوح تام: ثلاث روايات أخرى ومجموعة قصص قصيرة.. عدة ندوات وثلاثة لقاءات تلفزيونية، وربما بعض المقالات عن (النزعة الإبستمولوجية في أدب كولنز) ومشاجرة أو مشاجرتين على شبكة الإنترنت في موقع لابد أن اسمه (انطلاقة) أو (إبداع)، ثم تتلاشى الفقاقيع، وتبقى كتبه على الرفوف وفي مخازن هيئة قصور الثقافة حيث هي، ولن يذكره أحد لو اختفى عامًا واحدًا عن المحافل التي يحرص طبعًا على الظهور فيها، وما نسميه - نحن سكان خارصيت - بـ (مجتمع الحديقة الخلفية لأتيليه القاهرة). ثم يموت يومًا فلا يلاحظ أحد، ويكتب أحد أصدقائه يلوم وزارة الثقافة لأنها لم تكرم هذا الأديب المهم. قرأت مقالاً لروائي شهير يشيد فيه برواية صديق له، ثم قرأت مقالاً يشيد فيه الصديق برواية لذلك الروائي الشهير. هكذا تسير الأمور في هذا المجتمع المنغلق على نفسه: سوف نقرأ ونناقش ما يكتبه بعضنا لبعضنا ونعجب به، ونحضر حفلات توقيع وندوات بعضنا، ونحتقر القراء والكتاب المفهومين الناجحين، والعيب ليس في القارئ، بل فيمن انتزعوا الأدب من حياة الناس ليضعوه على أعلى رف في المكتبة كما فعل (إليوت) بالشعر. وبفضله - يقول النقاد الغربيون عن إليوت - صار الناس يخافون الشعر ويكرهونه بعد ما كان سلوى حياتهم ومتعتهم.
وبعد..
ما هو الأدب؟
أعترف بأنني ضائع ولم أعد أتبين طريقي وسط هذا الضباب، برغم أن الطريق كان واضحًا تمامًا منذ عشرين عامًا..
لكني من حين لآخر أعود لـ (يوسف إدريس) و(محفوظ) و(تشيكوف) و(دستويفسكي) و(سومرست موم) و(ديكنز) و(يحيى حقي) و(صلاح عبد الصبور) و(أمل دنقل) لأسترجع تلك الجذوة المقدسة، ولأعرف معالم الطريق الذي يوشك أن يضيع، بنفس المنطق الذي تبحث به عن العلامات البيضاء في وسط الطريق لتتقي (الشبورة). سأكتب ما يروق لي وأدعو الله أن يروق للقارئ، وليقل من يشاء ما يشاء، حتى لو بحثوا في كتاباتي عن الجذمور فلم يجدوه.. لقد وجد الأدب قبل الجذمور، ومن الواضح أنه سيبقى من بعده!
ـــــــــــــــــــــ
د. أحمد خالد توفيق
14 ديسمبر 2009
بص وطل
نشر في 06 آب 2019