2018 مشاهدة
0
0
إن منطق الإيمان في هذا الضجيج العالى هو همس لا يكاد يبين، وأما معنى الإحسان بين التأمل الذاتي والصلاح الاجتماعي في كتاب الجانب العاطفي من الإسلام
كتاب : الجانب العاطفي من الإسلام - تأليف : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 12 ] ما هو الإحسان ؟ (2 من 3) : الإحسان بين التأمل الذاتى والصلاح الاجتماعى
جمهرة الناس تغلبهم طبيعة العيش، وضرورات النفس والأولاد، وظواهر الحياة الدنيا، فتراهم منصرفين بأفكارهم ومشاعرهم إلى تأمين حاضرهم والاحتباس فى نطاقه الضيق.
ولو أنك تسمعت الضجة التى تسود أرجاء العالم، وحاولت استبانة معناها ما وجدت إلا بغام الغرائز المهتاجة تريد إثبات نفسها وتحقيق رغباتها.
أما منطق الإيمان خلال هذا الضجيج العالى فهو همس لا يكاد يبين.
إن كان ذلك بين الأمم الكافرة بالله ـ وهى اليوم ألوف مؤلفة ـ فالأمر ظاهر، كيف تذكر من تجهل؟ أو من تجحد؟ وإن كان بين جماهير المؤمنين، فإن معرفتهم لله كامنة فى طواياهم، قد تحركهم إلى رحبات المعابد حينا، وقد تحجزهم عن بعض المحارم حينا، ولكن هذه المعرفة قلما تبقى وضاحة مع الركض المجهد فى ساحة الحياة وراء مآرب أخرى...
من أجل ذلك حث الله عباده المؤمنين به أن يقاوموا هذا الذهول السائد، وأن يتخلصوا من هذه الغيبوبة العامة، وأن يذكروه برغم هذه المنسيات، وأن يحاولوا الاستضاءة بوجهه الكريم خلال غواشى الدنيا وكرباتها.
أجل، يجب أن ينقذوا أنفسهم من الغرق فى هذه اللجج المتتابعة، وليس من طريق إلا الإكثار من ذكر الله، والتشبث بأسمائه الحسنى، وشدة التعلق به فى كل حين وفى كل حال.
وهذا سر الوصايا المتكررة بإدمان الذكر وإطالته.
(واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين).
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا)
(فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم).
والذكر ليس افتعالا نفسيا لشىء بعيد عن الإنسان، أو تخيلا لوهم مقطوع الصلة بالحياة الخارجية..
كلا. إن الله لا يغيب عن الناس لحظة، وهو معهم حيثما كانوا.
ومن ذلك شأنه، فمن الحق أن يحس وجوده، وأن يدرك شهوده، وأن يتصرف الناس ـ ما شاءوا ـ لكن مع الاستيقان بأنهم فى حضرته، ما ينفكون عنه أبدا، وما يتركهم لحظة (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ).
وذكر الله من أشرف العبادات وأنفس ما يجرى على اللسان من كلمات، وأذكى ما يمر بالخاطر من صور، وما يثبت فى القلوب من معان.
وهو مفتاح الصلة المباشرة بالله الكبير المتعال، ما إن يشرق معناه فى نفسه وتتحرك به شفتاه حتى يذكره الله ببره ولطفه، ويصحبه بتأييده وعونه.
عن أبى هريرة عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إن الله عز وجل يقول : أنا مع عبدى إذا هو ذكرنى وتحركت بى شفتاه " .
وفى الآية (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون).
وعن ابن عباس أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " أربع من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة. قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا فى نفسها وماله ".
وقد تنافس الصالحون فى ذكر الله، وربطوا أفئدتهم وأذهانهم به، لم يتوهوا عنه فى زحام الحياة، ولم يفتنهم عن ذكره نعمة، أو تشغلهم محنة.
وقد رأوه طريقا سريعة التوصيل إلى مقام الإحسان، والأنس بمشاهدة الله عما تزخر به الحياة من فتون ومجون. وسعى وعبث، وعزلة واختلاط، وقصور وانطلاق!!
ونحن نريد أن نقف هنا وقفة قصيرة، لنكشف شبهة خدع بها الكثيرون فإن إلف الذكر والاستئناس بمعانيه الرقاق، والاعتزاز بما يتركه فى النفس من صفاء ووداعة، كل ذلك جعل لفيفا من الصالحين يحسبه الغاية المنشودة لا الوسيلة الباعثة، ونشأ عن ذلك أنهم استغنوا به عن غيره، وظنوا مقام الإحسان وليد حالاته وإشراقاته.
ولعل مما روج لهذه الخدعة ما روى عن أبى الدرداء قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها فى درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق. وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قال : بلى، قال : ذكر الله… قال معاذ بن جبل: ما شىء من عذاب الله من ذكر الله .. ".
ونحن لا نسارع إلى تكذيب حديث ما لأن ظاهره ـ لأول وهلة ـ يخالف المعروف من الدين.
والأمر يتطلب شيئا من الفقه والتدبر...
من الذى قال: إن المجاهدين فى سبيل الله طائفة أخرى تقابل الذاكرين لله، وتوضع فى كفة مغايرة يقال: هذه أرجح من تلك؟ إن الجهاد فى سبيل الله أرفع درجات الذكر، والمجاهد فى سبيل الله رجل يعرف ربه، ويريد أن يغرس هذه المعرفة فى الحياة، وأن يرويها بدمه حتى تزدهر وتنمو.
المجاهد فى سبيل الله رجل يذكر الآخرين بالله بعد أن امتلأ هو بهذا الذكر من إخمص قدمه إلى ذؤابة رأسه.. لقد ذكر ربه عند التقاء الجمعين استجابة لقول الله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)
وصاحبه هذا الذكر فى أدوار المعارك كلها خصوصا عند اشتداد البأس وتكالب العدو، وعند ابتعاد النصر وإثخان الجراحات واستحرار القتل فى إخوانه.
(وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين).
نعم، يحب المحسنين، وهذا الجهاد الصبور المحتسب هو الإحسان، وهو أحمق شىء يوصف بالعبارة المأثورة فى الحديث "أن تعبد الله كأنك تراه فمان لم تكن تراه فإنه يراك ".
ثم من قال: إن الإنفاق فى سبيل الله ليس ذكرا لله !
إنه ذكر عملى له مكانته. وهو أشرف من ذكر اللسان ولو واطأه صحو القلب. وذلك أن ألوف الناس يغريها حب المال فترتاد له الصعاب، وتهجر فى سبيله الأحباب.
وربما نسيت حق الله، وما وضع من حدود، وما شرع من معالم، بل لعلها فى سبيل الاستكثار من المال تهدم كثيرا من خلال الشرف وخصال الخير.
فإن وجد من أرباب المال من يذكر ربه عندما يجمعه، ومن يذكر ربه عندما يتخلى عنه ويصرفه إلى وجوه البر، فهل يكون ذلك فى طليعة الذاكرين؟ إن القرآن الكريم جعل الإنفاق هو الذكر، أو أثره المطلوب فى قوله جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين).
إن المعنى الوحيد الصحيح للحديث المذكور أن الذكر المجرد أفضل من الجهاد المشوب بحب الغنيمة وطلب الشهرة.
وكذلك أفضل من الإنفاق المصحوب بالمن والرياء. أى أن الحديث يستهدف تزكية النفس بذكر الله وطلب ما عنده، ويرى النية الطاهرة أرجح من العمل الكدر.
وهذا معنى حق، فإن الآفات التى تسطو على الأعمال الصالحة تذهب قيمتها عند الله، وتمحق ثمرتها فى المجتمع.
• حقيقة الذكر المطلوب:
ولكن عددا كبيرا من المسلمين ـ فى قرون مضت ـ حسب الذكر آثر عند الله، وأدنى إلى إرضاءه من أى عمل آخر، أو ربما حسب أن درجة الإحسان لا تنال إلا بطول الذكر، سواء فى الصوامع المعزولة، أو المجالس الحافلة، فكان الاستكثار من الأوراد، وأنواع التلاوات، وانتشرت السبح فى الأيدى تعد الأصابع على حباتها ما يمكن عده من أسماء الله الحسنى!!
نحن نستعيذ بالله من تهوين عبادة كريمة، وندعوه جل شأنه كما علمنا على لسان نبيه فنقول: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
ونحب أن ننبه المعجبين بمسالك القوم ـ وقد مضت أيامهم ـ أن مقام الإحسان ينال بمسلك أرشد من ذلك وأدنى إلى الصراط المستقيم.
إن ابن عطاء الله السكندرى ـ وهو من أكابر الصوفية الأولين ـ يغرى بالذكر، ويطمع رجاله فى مقام الإحسان فيقول : " لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه، فإن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك فى وجود ذكره. فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة. ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور. ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع رغبة سوى المذكور، " وما ذلك على الله بعزيز ".
وهدف ابن عطاء الله واضح إن الإنسان قد يسأم تكرار ورد ما لانشغال ذهنه فى أثناء تلاوته.
ويرى ابن عطاء الله أنه لا ينبغى للمرء أن يترك الذكر ولو كان قلبه مشغولا فإن إصراره على الذكر سوف يترقى به إلى أعلى المراتب.
إنه قبيح بالإنسان أن ينسى ربه أو يسأم ذكره، وهو ملحوظ بعناية الله فى كل حين.
وقد تطغى صور الوجود الأدنى على الفؤاد، فيكون ذكر المرء لله حركة لسان لا يصحبها جنان، وربما شعر بأن هذا الذكر الشفهى قليل الجدوى فيتركه، والأولى به أن يصر عليه، فإن هذا الإصرار حميد العقبى.
ولو فرضنا أنه انتهى إليه فهو خير من السكوت، إنه انشغال عضو بطاعة الله، وهذه المشغلة ـ على تفاهتها ـ حاجز عن معصيته!
فكيف لو ترقى به هذا الإدمان لذكر الله ففض مغاليق الغفلة عن قلبه وجعله يقظان المشاعر فهو يذكر الله بلسانه وبقلبه جميعا؟ وابن عطاء الله يبغى تحصين المسلم ضد حالة الارتكاس لا تليق به فقد يزدرى اللسان لأنه وسيلة فاشلة..
فى تحريك القلب، فتكون النتيجة أن يهمد فمه وقلبه معا وتجرفه تيارات الحياة بعيدا بعيدا فقلما يخطر على باله ذكر ربه.
والقمة التى يحدونا إليها هذا الصوفى الذكى هى حالة الاستغراق!
وما حالة الاستغراق؟ إن أحوال الاستغراق فى شىء ما تزحم حياة الناس العادية.
قد تنادى بأعلى صوت رجلا يسير قريبا منك فى الطريق فلا يلتفت إليك لأنه غارق فى فكر سيطر عليه، فهو ينطلق فى الطريق ضعيف الإحساس بما حوله...
وقد جربت فى نفسى هذه الحالة اجلس إلى جوار المنبر فى الجامع الأزهر يوم الجمعة، ولما أعد ـ بعد ـ الخطبة التى حضرت الألوف لاستماعها.
فأعبئ قواى الذهنية، وأحضر مشاعرى كلها لتحديد الموضوع، وجمع نصوصه وشواهده، وأتابع فى نفسى ربط العناصر، وتسلسل المعانى ، وضبط بعض الجمل الدقيقة حتى لا يند زمام التعبير فى نقطة حساسة.
ثم أصحو من هذه السياحة العقلية وقارئ السورة فى المسجد يصرخ بالآيات فلا أدرى من أين بدأ؟ ولا أين وصل؟ وكأنى ما سمعت منه حرفا مع أن مكبرات الصوت تملأ به جو المكان!
إن حالات الاستغراق هذه شىء معتاد فى حياة الناس.
ومن أهل الصلاح من تصفو سرائرهم، وتزكو بواطنهم، وتتوطد مع الله علائقهم، ويمس حبه شغاف قلوبهم، وربما تضطرم مشاعر الذكرى فى أنفسهم إثر طائف يمر بها من الملأ الأعلى، كما تتقد الجذوة نفخت فيها الرياح، فتمر بهؤلاء لحظات ليست من حياة الناس، يذهلون فيها عن أنفسهم ويبقون مع ربهم فى استغراق يطول أو يقصر...!!!
أى عجب فى هذا؟ إن الإيمان يربو أحيانا كما تربو أمواج البحر، ثم يعود رهوا، ساكن الصفحة، كأن لم يعره شىء...
وهذه السويعات، فى حياة المؤمنين أمر معتاد!
وأنا أكره تسميتها فناء، كما أستنكر تسميتها جذبا. وأحسب أن هذه الاطلاقات تنقصها الدقة والآدب.
ولنا أن نسأل : هل هذه اللحظات هدف يسعى إليه؟ والجواب: لا… إنها أحوال تعرض وليست غايات تقصد.
وذكر الله بالقلب، أو باللسان لا ينبغى أن يتوسل به لهذه اللحظات، وإنما ينبغى أن يتحول إلى الأعمال العظيمة التى رسمها الشارع، وناط بها كيان الفرد والمجتمع.
إن جيشان عاطفة ما أمر قد يعترض حياة العاملين، ولكنه لا يتجاوز هذه الحدود.
وقد كرهنا أن نسمى هذه الحالة فناء، لأن هذا التعبير كان مزلقة لانسلاخ البعض عن ذواتهم. ورأينا البعض يسميها وحدة الشهود لينفى بها خرافة وحدة الوجود!
ومع ذلك فإن تعبير ابن عطاء الله ـ على استقامته ـ مهد الطريق لهذه المحظورات واسمع إلى ابن عجيبة يشرح عبارته التى ذكرناها آنفا.
قال: " فإن دمت على ذكر الحضور رفعك إلى ذكر مع الغيبة عما سوى المذكور، لما يغمر قلبك من النور. وربما يعظم قرب نور المذكور فيغرق ـ الذاكر ـ فى النور، حتى يغيب عما سوى المذكور، وحتى يصير الذاكر مذكورا، والطالب مطلوبا والواصل موصولا، وما ذلك على الله بعزيز... ".
ثم يقول: " إن الذاكرين الله بالقلوب هم فى حال ذكرهم لله بلسانهم أشد غفلة من التاركين لذكره " لماذا؟ لأن ذكره باللسان يقتضى وجود النفس وهو شرك؟ والشرك أقبح من الغفلة ".
ونحن نرفض هذا الكلام جملة وتفصيلا، بل نرى ابن عطاء الله بريئا من قصده فإن الذاكر غير المذكور قطعا. وشعور المخلوق بأنه غير الخالق توحيد لا شرك.
والواقع أن فى عبارات الصوفية من هذا القبيل تشويشا يجعلنا نستبعدها من ميدان التعليم والتربية مهما التمس لها من الشروح وقصد المجاز لا الحقيقة.
إن الإحسان ـ ورد فى الكتاب والسنة ـ شىء آخر غير هذا الاستغراق الذاتى وغير التأمل العميق الذى قد يغيب المرء فيه عن نفسه أحيانا...
والمسلم ـ إذا أطاع الله ورسوله ـ لم يحتبس داخل صومعة محدودة الأركان يفسح جنباتها بالخيال الجامع، هـانما صومعة المسلم هذه الأرض ذات الطول والعرض، يملأ جنباتها بالعمل المتقن والواجبات المطلوبة.
وليس الإحسان تجويد جزء من العبادات وإهمال أجزاء أخرى قد تكون أخطر وأجل، وإنما الإحسان أداء فروض العين وفروض الكفاية، وتناول شئون الدنيا وشئون الآخرة معا.
هو إشراب الحياة الإنسانية حقائق الأمر الإلهى، وإضفاء صبغة السماء على أحوال الأرض. هو ترقية كل عمل بذكر الله فيه، لا الفرار من الأعمال بدعوى ذكر الله فى العراء.
روى عن معاذ بن جبل عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن رجلا سأل فقال: " أى المجاهدين أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا. قال: فأى الصالحين أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة!
كل ذلك ورسول الله يقول: أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا. فقال أبو بكر لعمر: يا أبا حفص، ذهب الذاكرون بكل خير! فقال رسول الله : أجل ".
هذا هو الذكر يقارن الأعمال، ويتحول الاستغراق فيه إلى خلوص قلب ومهارة يد، ونبالة غاية...
الإحسان مراقبة ومشاهدة، والرقابة الإلهية لا تتناول عملا، وتدع آخر، بل تتناول الأعمال كلها. من اللقمة تضعها فى فم زوجتك كى تبنى البيوت على الحب، إلى الرصاصة تطلقها على عدوك فى ساحة الوغى كى يبنى العالم على العدل.
من الثوب تلبسه لتكتسى به وتتزين فيه، إلى الكفن تختار على نحو معين لتلف فيه الجثة وتوارى تحت الثرى...
الإحسان يشمل الأحوال والأعمال جميعا قال تعالى : (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه)
• الذكر عبادة اجتماعية:
كثيرا ما تختم آيات القرآن الكريم بعدد من أسماء الله الحسنى، يناسب ما يقارب معناها من أفعال العباد. والسر فى ذلك إشعار الناس بأن رقابة الله لا تنفك عن تصرفاتهم مهما اختلف مجالها.
وإن إشراق المعرفة الإلهية لا ينحصر فى صومعة نائية أو محراب خاشع، بل يجب أن يصحب المؤمن فى عشرات الأعمال التى ينغمس فيها كل يوم.
يقول تعالى: (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب)
إن الجملة الأخيرة جىء بها مغنية عن جواب الشرط، وهو (يتعرض للعقوبة) والاستغناء عن هذه الكلمة بذكر اسم الله مقرونا بإحدى صفاته، رجع بالمؤمنين وأعمالهم إلى ضرورة الإحساس بإشراف الله عليهم إشرافا غير منقطع، ولذلك يجب أن يحذروه.
ويقول تعالى: (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم)
والجملة الأخيرة جاءت مغنية عن جواب الشرط وهو (يظفر بالحماية والمنعة)
ومواجهة النفوس القلقة باسم الله مقرونا بأوصافه المثيرة للطمأنينة والثقة إشارة إلى أن المسلم فى شتى أحواله ينبغى أن يركن إلى من هذا شأنه.
الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه...
اعبده على هذا النحو وأنت تقيم حد السرقة شاعرا بأن الله يريد إشاعة الأمان فى الناس وأخذ المجرمين بالنكال فذلك مقتضى حكمته (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم).
ورؤية الله فى ساحة المحكمة حين يقام هذا الحد هى رؤية الله فى المسجد حين تقام له الصلاة...
تأمل فى الأسماء الحسنى التى ختمت بها هذه الآيات النازلة فى بعض مشكلات الأسرة (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم).
إن الرجل قد يضيق بامرأته، ويحمله السخط أن يحلف على اجتنابها، وتجد القرآن يعالج هذه الأزمة علاجا يبدأ بالرقة وينتهى بالحزم.
يقول للزوج إن عفوت عن زوجتك، واغتفرت ما ساءك منها فإن الله غفور رحيم.
وفى التذكير بهذين الاسمين من أسماء الله الحسنى ما يشيع جو الحنو والتسامح فى البيت المضطرب... ثم يقول... وإن كانت الأخرى، وتقرر الطلاق. فإن الله سميع عليم، إنه غير بعيد عما يقع، عارف بما يصنع الزوج والزوجة.
وفى التذكير بهذين الاسمين من أسماء الله الحسنى شىء من إقامة السلوك على الحذر والروية...
والقرآن الكريم مشحون بمئات وآلاف من هذه الآيات التى تغرس جذور الإحسان فى القلوب، وهى تعالج كل ما يعرض لها فى الحياة من أعمال.
والخلاصة التى نريد توكيدها أن العبارة الواردة فى الحديث الشريف وهى " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ليست وصفا لشخص يصف قدميه للصلاة، أو يلهج لسانه بالذكر فحسب. إنما هى وصف لإنسان يقيم أوامر الله كلها، فى شئون الحياة كافة.
ومجال الإحسان رحب الدائرة، حدوده وظيفة الإنسان فى الحياة من المهد إلى اللحد ...
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى
#الجانب_العاطفي_من_الإسلام
نشر في 17 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع